http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  مشروعية الإختلاف
 

 
مشروعية الاختلاف

د. حســن الغُرفــي
تقديــم:
يستطيع قارئ هذه التأملات/ الشهادة الوقوف، خاصة في بعض فقراتها، على مجموعة من الآراء التي هي تعبير صادق عن وجهة نظري الخاصة. أليس من حقنا، على الأقل، كقراء أن ندلي برأينا حول ما نقرأ ؟. إن هذا يدخل، كما أعتقد، في إطار اختلاف الرؤى وتباين الآراء وتقدير لمفهوم التنوع الفكري والجمالي. من هنا يجب تقبل المختلف واحترام الاختلاف، حتى لا نتحول، جميعا، إلى صيغ متشابهة متكررة. خاصة ونحن، وغيرنا، على وعي تام بوجود منابر ثقافية عندنا تتنكر، عمليا، لكل تعدد واختلاف، ذلك أنها لا تسمح، أبدا، بالنشر لأي كان ليقول كلمة حق، كما يتصورها، في بعض الشعراء والكتاب (الأموات منهم والأحياء) بحيث ليس مسموحا للرأي النقدي المخالف الاقتراب من كتابات هؤلاء وكأننا أمام "مقدسات" أدبية. وهذه، للأسف الشديد، ظاهرة مغربية بامتياز
ـ 1 ـ
لا أعتبر نفسي ناقداً محترفاً. كما أنني لست محرجاً من القول بأنني لم أتريث طويلا عند سؤال مفهوم النقد أو علم النقد، لم يكن يعنيني كثيرا معرفة الجواب قدر ما كان يعنيني أن أعايش أكبر قدر ممكن من الآثار النقدية الناضجة.وعلى ضوء هذه المعايشة المديدة أستطيع أن أقول إن الناقد الحق قارئ في ذروة القدرة على التحسس الجمالي والتشبع الفني من جهة أولى، وهو، من جهة ثانية، في ذروة القدرة على الإحاطة الفكرية الواعية بمختلف العناصر المكونة للإبداع الفني، وعلى استيعاب خفايا بنائيته الإبداعية وخصوصياتها التقنية المميزة، وعلى كشف المؤثرات والمدلولات الثقافية المتعددة التي ينطوي عليها تركيب الصنيع الأدبي في مجمل تجلياته وأبعاده.ن هنا فإن النقد هو في محصلته النهائية عملية اكتناه تحسسي لجوهر الأثر، فنيا وجماليا، وهو في الآن نفسه اكتناه فكري عقلاني لخصوصيته الإبداعية، بناء شكليا، وتقنية تعبيرية، وأبعاداً ومدلولات اجتماعية تاريخية، حضارية وإنسانية على وجه العموم النقد له أشكال. قد نتحدث عن نظرية النقد، وقد نمارس عملية نقد، بمعنى أن نتحدث عن قصيدة أو ديوان شعر، أو حتى عن مجموعة دواوين شعرية لشاعر من الشعراء، عندما نمارس هذا فنحن نمارس عملية نقدية. بالنسبة لي أعتقد أن كل مرة أمارس فيها عملية نقدية من هذا النوع أدخل معاناة جديدة، لأن كل عمل يفرض عليك منطقاً خاصاً في تناوله. ولا يمكن أن تعالجه بالطريقة نفسها التي عالجت بها عملاً سابقاً، لأن هذا التميز والمغايرة يقتضيان منك أن تدخل إليه من مداخل مغايرة. فكل عملية نقدية هي تجربة ممارسة جديدة. إن الإنسان يستفيد من خبرات سابقة، نعم هذا وارد بطبيعة الحال ولابد منه. لكن يظل في كل مرة يتجه فيها إلى كتابة نقدية عن عمل أدبي كأنه يواجه هذه العملية للمرة الأولى. والمنهج في هذه الحالة تفرضه طبيعة المادة التي تعرض لها ونوعيتها ومدى ملاءمتها مع هذه الطريقة أو تلك. ذلك أن النص الأدبي عموماً لم يعد قابلاً للتعامل معه بأدوات جاهزة سواء أكانت وافدة أم تراثية. إن النص الحداثي يفرض على الدارس مجموعة من الأدوات التي يجب أن يواجه بها النص، فما يصلح مع نص قد لا يصلح مع آخر، وما ينجح مع خطاب لا ينجح مع آخر، وهذا كله رهين بالقراءة المتأنية الواعية التي تحاول أن تستوعب خواص الخطاب أولا، ثم تستحضر الأدوات اللازمة له ثانياً.
 ـ 2 ـ
منذ البدايات استبعدتُ كل نزعة إقليمية بالنسبة للمتون الشعرية التي اشتغلتُ عليها، هي التي استأثرت باهتمامي وذائقتي الأدبية، وأمتعتني، وفتحت أمامي آفاقاً شتى كانت منغلقة من قبل. أنا باحث يتابع مسعاه حيثما تقوده ذائقته.لذلك فأنا لا أكتب أبداً عن نص لا يدهشني، لا أكتب إلا عما أحب ويستحوذ عليَّ. ألم أقل منذ البداية بأنني لستُ ناقداً محترفاً؟ طبعاً هناك نصوص كثيرة أحبها، بل أنا مسكون بها، ولم يتح لي بعد أن أكتب عنها.لقد سعيت للاحتفاء بالقيمة الإبداعية لعدة شعراء (السياب - صلاح عبد الصبور - بلند الحيدري - خليل حاوي – أمل دنقل – محمد عفيفي مطر، وغيرهم) بحيث لا أمل من العودة إلى منجزاتهم الشعرية المتميزة. وهناك شعراء آخرون سيكونون موضع مقارباتي النقدية مستقبلا (سعدي يوسف - حسب الشيخ جعفر- محمود درويش...) أما عن العناصر التي عادة ما تغريني وتستبد بي لدراسة المتون الشعرية فهي متعددة، سأحصرها، باختصار شديد، في العناصر الآتية:
1 ـ ولعي الكبير بالموسيقى الشعرية. أنا كائن إيقاعي حتى النخاع. ولهذا لا تفتنني سوى النصوص الشعرية الممتلئة بالإيقاع المتحقق أساساً بالتفعيلة بكل أنماطها، والقوافي بأنظمتها، وبوسائل لغوية صوتية متعددة (الجناس - الترصيع - التصريع - التكرار بمستوياته وأشكاله المختلفة...)، إضافة إلى أبنية إيقاعية اختيارية يبتدعها الشاعر لتؤلف مع كل ما سبق التشكيل المتفرد لإيقاع قصيدته/قصائده. يمكنك العودة في هذا المجال إلى كتاباتي عن (أمل دنقل - محمد عفيفي مطر - محمد علي الرباوي) وإلى كتابي "حركية الإيقاع في الشعر العربي المعاصر"، حيث سعيتُ، من خلال كل هذا، إلى الكشف عن عناصر التشكيل الموسيقي والإيقاعي عند هؤلاء الشعراء، كما يمكنك الوقوف على الطريقة التي عالجت بها قضية الإيقاع وعلاقته بفكر الشاعر وعواطفه، بتقلبات هذه العواطف والمواقف والرؤى.
2 ـ المتون الشعرية المستثمرة للتراث العربي بمصادره المتعددة خاصة، والإنساني عامة، إبداعاً وفكراً، والمبنية على وعيها العميق بهذا التراث، قديمه وحديثه، البالغ الرحابة والغنى، وقدرتها الفذة على توظيفه بآليات شتى.
3 ـ النصوص الشعرية التي سعت إلى إغناء جوهرها الغنائي بالعديد من العناصر الدرامية (الحوار - عناصر سردية - الصراع - تعدد الأصوات والشخصيات - تباين وجهة النظر ـ الأقنعة - استخدام لأكثر من إيقاع موسيقي داخل القصيدة الواحدة - ميل القصيدة إلى التجسيد والموضوعية...) وغيرها من الأساليب والأدوات الدرامية التي أغنت هذه النصوص ومنحتها آفاقا رحبة.
4 ـ تشغلني، كذلك، المتون المشتبكة بحركة الواقع وجدليته ومتغيراته، حيث يتحقق فيها جدل الشعر والحياة. إنها متون لا تفارق شرطها التاريخي.عندما يقدر لكتابي الجديد (مقامات شعرية) أن يرى النور في الشهور المقبلة، يمكن لقارئه أن يلاحظ من خلال مقالاته، أنني حرصت على الاقتراب من هذه العناصر، ربما أكثر من غيرها، من خلال توقفي الطويل عند منجزات العديد من الشعراء مشارقة ومغاربة.
ـ 3 ـ
أشهد أن النصوص الشعرية المغربية التي أتيح لي أن أقيم معها حواراً هي قليلة العدد ولكنها بالغة القيمة. لذلك حرصت على التواصل الحميم معها، هي التي، كذلك، شكلت بالنسبة لي إغواءا نقدياً لما تنطوي عليه من عناصر أشرت إلى بعضها آنفا. لقد كتبت، لحد الآن، شهادتين عن الشاعر الفذ محمد الخمار الكنوني، فهو علامة مضيئة على الإنجاز الأجمل والأغنى والخلاق في إبداعنا المغربي المعاصر. محمد الخمار .. تجربة إبداعية فريدة ممتعة وعلى درجة كبيرة من الأهمية والاعتبار، ستبقى، حتماً، حيّة بيننا، ولن تتبدل قيمتها، أتمنى أن أعود إليها مستقبلا. بالمناسبة، محمد الخمار أستاذي، وأنا مدين له بالكثير، ومن ذلك أنه أول من عرفني على الشاعرين العظيمين السياب وصلاح عبد الصبور، رحم الله شاعرنا. أما عن شيخنا الجليل سيدي محمد السرغيني، فقد كتبت عنه مقالة مطولة بمناسبة إصداره لأعماله الشعرية شبه الكاملة؛ وأنجزتُ عن تجربته الخلاقة كتاباً حوارياً بعنوان "هكذا تكلم الشاعر.. سيرة شعرية ثقافية للشاعر محمد السرغيني" أتمنى أن يجد طريقه إلى النشر. محمد السرغيني عميد القصيدة المغربية المعاصرة بدون منازع، وشاعر الحكمة ونفاذ النظرة وتوهج البصيرة. إنه واحد من أهم الأسماء الشعرية العربية في حداثتها المتوازنة الحديثة. هو أستاذي، ومن أقرب الناس إلى قلبي وعقلي. هو المبدع الوحيد الذي بقي لي في مدينتنا المشتركة فاس.ولأنني لم أركز اهتمامي فقط على جيل الرواد عندنا، فقد أنجزت دراسة مطولة عن المتون الشعرية للشاعر محمد علي الرباوي، وهو من أهم شعراء جيل السبعينات. أما بالنسبة لجيل الثمانينات، فقد أفردت لديوان "المتلعثم بالنبيذ" للشاعر محمد بشكار، مقالة نقدية نظراً لقيمته الإبداعية.
من النصوص الشعرية التي لفتت نظري في الشهور الأخيرة، ما نشرته الشاعرة الرائدة مالكة العاصمي، وخاصة قصيدتها الفاتنة "مدن من سراديبها"، وما نشره الصديق القديم الشاعر علال الحجام، أرى أن نصوصهما هذه تستحق احتفاء خاصاً.
ـ 4 ـ
أعتقد أن عنصر المكان/ الأمكنة في القصيدة المغربية المعاصرة لا يحتل المكانة المرجوة، ولا يشغل حيزا متميزاً من اهتمامات شعرائنا. بالطبع، أستثني هنا متون بعض الشعراء المنتمين لجيلي الريادة والسبعينات. بالنسبة لي شخصياً، يهمني أن أشير، في هذا المجال، إلى أنني لا أهتم إطلاقا، في دراساتي، بالمكان الطباعي. وأركز على تمظهرات أخرى يتخذها المكان في المتون الشعرية التي درستها لحد الآن، مشرقية ومغربية (الأمكنة المؤسطرة - الأبعاد الرمزية للأمكنة - الأقنعة...).
لقد شكل المكان، بكل تمظهراته، أحد المفاتيح الرئيسية للولوج إلى العوالم الشعرية للشاعرين محمد السرغيني ومحمد علي الرباوي، اللذين سبق لي دراسة متونهما، بل وأعتبره من أهم عناصر التشكيل الشعري لديهما، حيث منح متونهما نوعاً من الخصوصية والتميز. لقد كان استحضار الشاعرين للعديد من الأمكنة ذات الطابع المحلي والمرجعية الوطنية والعربية الإسلامية والأجنبية، أحد أشكال التعبير لديهما عن الذات والجماعة والإنسانية، حيث حملوها العديد من مواقفهما وعواطفهما ومشاعرهما، عبر توظيفهما لشتى التقنيات والآليات.
إن ما يسترعي الانتباه، في هذا المجال، ونحن نقلب صفحات ديوان الشعر المغربي، هو الخيبة التي تواجهنا من شبه غياب لمعطيات البيئات الجغرافية المختلفة التي ينحدر منها شعراؤنا، بحيث لا نجد سوى معطيات القراءة لديهم، وكأنه شعر يكتب من شعر آخر لا من العالم المحيط، ولا من مدركات الحواس. من هنا عمت ظاهرة التجريد في هذا الشعر.
إن الشعر الذي يمكن أن يعتد به في التجربة الشعرية المغربية، من وجهة نظري، هو الشعر الذي يضيف شيئا إلى التجربة الإبداعية العربية بشكل عام، وهذا الشيء لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الخصوصية المغربية، فالشعر الذي استطاع أن يستخدم شتى الأدوات الجديدة دون أن يضيف شيئاً من هذه الخصوصية، سيبقى نسخة طبق الأصل لما هو موجود في شرق الوطن العربي، وبالخصوصية المغربية وحدها، يمكننا أن نقرأ شعراً مغربياً جديداً ومتميزاً عن أشقائه في مغارب الوطن العربي ومشارقه.
إننا حين نقرأ (نيرودا) فإننا نقرأ تشيلي في شعره، وحين نقرأ (لوركا) فإننا نقرأ كل تاريخ إسبانيا في شعره، ونفس الشيء مع (السياب) حيث تمثل العراق كله في شعره، بحيث لم يفقد شاعرنا العظيم خصوصيته يوما، ولم ينقطع عن محليته.
وهذه من سمات الشعراء الكبار حقا. وهذا ما سعى لتحقيقه الشاعران المغربيان محمد السرغيني ثم محمد علي الرباوي اللذان لم ينفصلا عن واقعهما (زمانيا ومكانيا).
ـ 5 ـ
من أكثر العبارات التي آمنتُ بها عن تجريب حي وملموس، مقولة شاعرنا العظيم صلاح عبد الصبور "أجا فيكم لأعرفكم" ومقولة (سارتر) "الآخرون هم الجحيم".
لا شك أن معظم ما يحيط بنا يُغري بالعزلة واليأس. لم يعد هناك لا في السياسة ولا في الثقافة، ما يوحي بأمل كبير في خلاص مؤكد. إن الوسط الثقافي عندنا، باستثناء قلة ثمينة نادرة، هو في معظمه، واقع مكتظ بكافة أنواع النميمة والدسائس الصغيرة والرياء والتملق والزبونية، وسعي كل واحد إلى إلغاء غيره وخطف "الأضواء" منه بوسائل مشينة، بحثاً عن تحقيق نجومية وهمية، ومكاسب تافهة.
إن بعض مؤسساتنا الثقافية (المكاتب المركزية لاتحاد كتاب المغرب- وزارة الثقافة المغربية) التي يَرفع مسؤولوها العديد من الشعارات، (تبيّن زيفها للعديد منا) هي غير عادلة، وغير ديمقراطيـة، ولا تتسم بالحـد الأدنى من الموضوعية والنـزاهة. وذلك ـ على سبيل المثال ـ من خلال تركيزها، بإصرار شديد، على لائحة خاصة يتداولها تباعاً رؤساء اتحاد كتاب المغرب، هي نفسها التي تداولها السابقون واللاحقون من مسؤولي وزارة الثقافة منذ عقد ونيف من الزمن. وهذه اللائحة لم تعد خافية على أحد، حيث صارت مكرسة في كل الأنشطة الثقافية (أنشطة معرض الكتاب ـ النشر ـ لجان القراءة ـ الأسفار ـ الحضور في الفعاليات الثقافية داخل المغرب وخارجه ـ الجوائز...).إضافة إلى التمييز الفاضح بين المثقفين حتى في حالة المرض.
لكل هذا فإن أحدا، لن يصادفني في كل حل وارتحال، ذلك لأنني، ومنذ سنوات، قررت عدم الولوج إلى "جنة" هؤلاء، والعيش متلفعاً بعزلتي الاختيارية، هي عزلة ثمينة، وجدّ إيجابية وبناءة، أثمرت بعض ما كنتُ أصبو إليه. إنني أُمضي أيامي في هدوء الظل، تاركاً لغيري أن يتقاتل من أجل الاستعراض والظهور، وتقاسم كعكة لا وجود لها.
فباستثناء لقاءاتي المثمرة مع أستاذنا المبدع الفذ سيدي محمد السرغيني، التي أحرص عليها باعتزاز كبير، حيث نتحاور معاً في شتى قضايا الإبداع والفكر، وأصغي بخشوع لآرائه، وأستمع إلى جديده الشعري (قرأ علي قبل مدة آخر ما كتب، وهي قصيدة بعنوان: "قراءة في الجدارية.. إلى محمود درويش"... محمود خبّرني: لماذا صمتك الأبدي منقوش على صخر وأحرفه شظايا؟ ...).
أقول، باستثناء هذه اللقاءات، فإنني أقضي الساعات الطويلة من الليل (أنا كائن ليلي)، صحبة من أجد نفسي فيهم من مبدعين ومفكرين، من التراث الإنساني قديمه وحديثه، هؤلاء الكبار حقاً، الذين يخترقون حواجز الأمكنة والأزمنة بحضور منجزاتهم البهية الجليلة الرائعة. هؤلاء الأفذاذ.. الله ما أعظمهم وما أرقهم وما أنبلهم وما أكرمهم إنهم أساتذتي وأحبابي الذين أحمل لهم بين جوانحي وفي فكري الكثير من الحب والعرفان والامتنان.
ماذا أسمي كل هذا؟، أسميه: انتصار العزلة.
ـ 6 ـ
لقد حضرت، على غير عادتي، أشغال الجلستين النقديتين اللتين أقامهما "بيت الشعر" في دورته الأخيرة بفاس، والمخصصة لتقييم تجربة جيل الثمانينيات الشعري بالمغرب (هل تم فعلا تقييم هذه التجربة التقييم الصحيح من خلال عروض نقادها؟؟).
ولأن هاتين الجلستين لم يحضرهما أحد من الجمهور سوايَ، فإنني لم أستطع منع نفسي من التوجه، في نهاية الجلسة النقدية الأولى، إلى النقاد المشاركين بسؤال عن التمايزات والخصوصيات التي تميز هذه التجارب الشعرية "الجديدة" (معظمها قصائد "نثر") داخل حدودها العربية. وكان جواب الصديق الناقد بنعيسى بوحمالة كالآتي : "أنه لا وجود لأي خصوصية في هذه التجارب تميزها عن زميلاتها العربية"، أما الأخ عبد الرحمان طنكول، فقد وصف هذه التجارب بكونها لا تترك أي "أثر" لدى متلقيها بسبب طغيان "التجريد" عليها. هذا رأي باحثين متابعين لهذه التجارب الشعرية المغربية. أما أنا فقد سبق لي أن نشرتُ مقالة قصيرة عدّدتُ فيها سلبيات هذه التجارب، من وجهة نظري، وهي بعنوان: "الشعر بين التجريد والتخريب" (العلم الثقافي ـ 30 أبريل 2005) بالإضافة إلى ما أراه، لحد الآن، من سلبيات كذلك عند بعض شعراء جيل السبعينات عندنا.
لقد شكلت لي هذه المناقشة إغواء خاصاً، وريثما أعود إلى هذا الموضوع بتطويل، خاصة أن عناصره جاهزة لديّ، سأكتفي بالنقاط الآتية:
1 ـ أعتقد أن الخطاب الشعري حالياً خطاب مأزوم، بحيث لم نعد نستطيع تمييز الظواهر الشعرية لهذا الشاعر أو ذاك، والمتون الحقيقية نادرة ندرة الكبريت الأحمر، وغاب الديوان الشعري الذي كان يعصف بأعماق القرار.
2 ـ إنني أصاب بالذهول أمام هذا الحشد الهائل من الدواوين التي تصدر عندنا في المغرب، هي التي لا تقدم جديداً ولا تطرح أسئلة ذات خصوصية.
3 ـ لقد استسهل الكثيرون ما يسمى بـ "قصيدة النثر" فدخلها المبتدئون وكتاب الخواطر والفاشلون في كتابة أجناس أدبية أخرى، وكل واحد من هؤلاء يرغب أن يكون "شاعراً" بالقوة عن طريق كتابة ما يسمى ب "قصيدة النثر". لقد باتوا، جميعاً، يتنافسون، بشدة، في إصدار المجموعة تلو الأخرى، بحيث صار من الصعب، على أمثالي، التمييز بينها. إنها كتابات تتشابه ويفترسها التكرار.
إنني أرى أن قصيدة النثر، ومن خلال النماذج الكثيرة التي أطالعها مغربيا وعربيا، تحتاج الآن إلى وقفات نقدية جادة، لأن الاستسهال الذي وفرته للأدعياء وفاقدي الموهبة والثقافة، لم يوفره أي شكل آخر.
في هذا الإطار يجب علينا أن نحدد أولا شاعرية "قصيدة النثر"، وهل لقصيدة النثر شاعرية معينة؟ وما هو الحد الفاصل بين الشعر والنثر؟ إن كثيرين يكتبونها الآن بدون ضابط ولا تصور عام.
إن "قصيدة النثر" قصيدة صعبة وذات مناح تركيبية، يتوجب على كاتبها أن يكون ملماً بثقافة واسعة، وحائزاً على عدة معرفية كبيرة تمكنه من إنتاج "قصيدة" "نثرية" تحتوي على عناصر جوهرية وجمالية تجعل منها قصيدة بحق. وبما أن هذه "القصيدة" تعتمد على الإيقاع الداخلي للنثر، فعلى كاتبها أن يكون على معرفة قوية باللغة، حتى يستطيع أن يخلق إيقاعاً متميزاً، خصوصاً أن جانباً من نغمية الإيقاع يعتمد على السلامة النحوية والتركيبية ... فهل معظم كتابها، على بيّنة من هذا؟.
4 ـ افتقادنا في المغرب لنقد شعري حقيقي يعتد به. فإذا كان للنقد مسؤولية أخلاقية وأدبية. فإن أصحاب بعض الكتابات التي تسمى (نقدية) تساهلوا كثيرا في أداء واجبهم تجاه أسماء شعرية معينة. حيث نجد قدراً كبيراً من المحاباة في مقارباتهم، بل إنهم حين يتناولون الشعر، لا يتناولونه كنشاط إبداعي، وإنما ينظرون إليه من خلال موقع صاحبه. وتدخل في هذا المجال ظاهرة صارت لافتة للنظر عندنا ـ وتدعو للإشمئزازـ وهي (أُكتب عني أَكتب عنك)، كتابات جاهزة صالحة للمطابقة على أية تجربة شعرية.
5 ـ عجز شعراء التجارب "الجديدة" عن إيصال نتاجهم إلى المتذوقين. ثمة، في الحقيقة، قطيعة بين هذه التجارب والمتلقي. وليس من الضروري أن نفسر هذه القطيعة انطلاقاً من منبرية الشعر كما كان سابقا. إنني لا أقصد هذا، إنما أقصد أن العلاقة الوجدانية التي تربط الشاعر بالحياة العامة وبمتذوقي الشعر قراءة أو سماعاً، هي مفقودة حالياً. ذلك أن الشعر الذي أصبح مادة للقراءة الهادئة ابتعد عن الحس العام والروح الجماعية. (الغياب الكلي لمتذوقي الشعر عن الأماسي الشعرية والأيام الدراسية لأصحاب هذه "التجارب" صار ظاهرة لافتة للنظر).
6 ـ بالنسبة للشعر المغربي بصفة عامة، أسجل أنني أميز بين حضورين في الشعر: حضور الإبداع الحقيقي والحضور الإعلامي، وأنا لا أحتكم إلى هذا الأخير، لأنني أعرف خلفياته.إنني أحتكم إلى النصوص وحدها، وإذا كان بعض الشعراء عندنا يرون أنفسهم باسقين كالنخيل فهم في جوهر الأمر أصغر من عشبة صغيرة في غابات تجوبها الرياح، بحيث ينكسر الذي يعتقد أنه باسق وتنمو العشبة وتتمايل دون خوف.
أولا: إنني، في الواقع، لا أجد ذاتي في هذه "التجارب الجديدة" وأستثني هنا، بالطبع، بعض الأصوات المتفردة من جيل الثمانينات (أحمد محمد حافظ ـ إدريس عيسى ـ محمد بشكار ـ عبد السلام بوحجر ـ جمال الموساوي ـ آل لقاح) ومن جيل التسعينات لفتت نظري بعض النصوص المتميزة للأسماء الآتية (أحمد زنيبر ـ نور الدين الزويتني ـ نجاة الزباير – مصطفى ملح.
ثانيا: أما عن جيلي، جيل السبعينات، فيمكن أن أقدمه من خلال اتجاهين:
      الاتجاه الأول: ويمثله (عبد الله راجع ـ محمد علي الرباوي ـ أحمد بلحاج آية وارهام ـ علال الحجام ـ محمد الطوبي ـ محمد الشيخي ـ عبد الرحمن بوعلي ـ أحمد بنميمون). وهؤلاء يمثلون أصواتاً شعرية أثبتت حضورها في الساحة الشعرية الأدبية من خلال عطاء شعري متميز حاول أن يحافظ على الخصائص الأساسية لحركة الحداثة المتوازنة في شعرنا العربي المعاصر، وهم يتميزون بأصواتهم التي تعبّر عن مواهب حقيقية، كما نجد عندهم رؤية واضحة للعملية الفنية وللعناصر الشعرية، وتمكنا من الثقافة العربية، واهتماماً بالمعرفة الإنسانية. ولكنهم، للأسف الشديد، لم يأخذوا حظهم الحقيقي من الدراسة والنقد والاحتفاء.الاتجاه الثاني: يمكن أن نطلق على شعرائه "التجريبيون اللغويون".إنها تجريبية لغوية خالصة، تخضع لنظريات ولأفكار مسبقة، وأرى أن مثل هذه التجريبية لا تحمل شعراً أبداً، فشعراء هذا الاتجاه يواجهون الآن مأزقا خطيراً يتمثل في عدم القدرة على التطور الفني أو الخروج من المشاكل التي خلقها لهم هذا الأسلوب الذي يكتبون به قصائدهم. فهل يسيرون في طريق مسدود؟ الإجابة هي نعم.
إن كتاباتهم تنساب في فراغ، بحيث تفقد البُعد الزماني، ولا ترتبط بما يحددها بمكان أو قضية أو حدث أو حتى شعور إنساني معين. إنها كتابات سديمية يجاهد أصحابها كي لا يمنحونا شيئا، بحيث أصبح اللامعنى عندهم غاية ليوهموا البسطاء، وغير المختصين، بالعمق وليصدقوا هم أنفسهم، فيما بعد، أنهم قد فعلوا ذلك حقاً. هي كذلك كتابات جافة تخلو من ماء الشعر، وتفتقد للحرارة الجوانية. غير أن لهذه الفئة الثانية، أكثر من جهة تهلل لها، وتقيم لها العروش، وهذه الأخيرة لا تتجلى، بالطبع، إلا لصانعيها.ويهمني أن أنهي هذه الفقرة بالذات ببيت للشاعر الحكيم "أبي العلاء المعري" وهو واحد من أحبابي العظام، حيث يقول:
والحـق يهمـس بينـنـا   v v    ويشـاد للبهـتـان منبـر

    
 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free