إتحـاد كتـاب الإنتـرنت المغاربـة |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
التنكر وسيرة البطل «الملوث» |
|
|
التنكر وسيرة البطل «الملوث»
محمد زينو شومان
استوقفني العنوان منذ النظرة الأولى، فما هي العلاقة بين إيفان والفلسطيني؟ ومصدر الإشكال والتساؤل هو الاسم الأجنبي غير المعهود في معجم الأسماء الفلسطينية، وهذا ما يحفز القارئ على استجلاء حقيقة الصلة بين غرابة هذا الاسم وغربة صاحبه الفلسطيني.
فمن هو إيفان هذا؟
انه الاسم المستعار للفلسطيني المتحول «عرب». أي هو القناع الخارجي لـ«عرب» العربي الفلسطيني فاقد الوطن والهوية والمشتت في «العراء الثقافي والاجتماعي» في الغرب الأوروبي.
لقد نفخ عبد العال في الطين الفلسطيني فاستوى بطلاً على قدمين، ليضعنا أمام مأساة بشرية من العيار النفسي والاجتماعي والوجودي والتاريخ الثقيل.
لم يكن عبد العال مؤرخاً، بل راو رأى في سيرة إيفان أو «عرب» معادلاً رمزياً لسيرة الفلسطيني الطريد المتنكر الذي وجد نفسه، دفعة واحدة، أشبه بغصن مقطوع من شجرة التاريخ والذاكرة، ليواجه مصيراً محتوماً على غرار مصير الأبطال الأسطوريين في الميثولوجيا الإغريقية التي فاقتها الميثولوجيا الفلسطينية رعباً وألماً وقسوة.
وبطل عبد العال غريب كغريب ألبير كامو، محنته محنة سيزيف المعروفة لكنها أقسى نوعاً إذا قارنا بين حمل هذا وحمل ذاك. سيزيف الإغريقي كتب عليه حمل صخرة واحدة، أما سيزيف الفلسطيني فحامل وطناً برمته. فهل يستوي حامل صخرة وحامل وطن على ما بين الحملين من اختلاف نوعي في الثقل وفي درجة المشقة والكبد؟!
فلنتوقف في هذه الإطلالة السريعة على أهم المنافذ الرئيسية لهذه الرواية.
أولاً: لعبة الوجوه المتعاكسة أو لعبة الأقنعة.
لقد اعتمد عبد العال تقنية الوجوه المتعاكسة في التعبير عن أزمة الذات ومأزق البطل الوجودي والصراع الحاد بينه وبين شبحه، أو بين الوجه والقناع المستعار.
وقد كان التنكر مفروضاً على شخوص الرواية، وأولهم إيفان، من الخارج والداخل على السواء.
أما رحلة التنكر فقد بدأت منذ اغتصاب فلسطين ـ الوطن وفقدان التوازن، وتدفق اللاجئين إلى مخيمات لم تكن، بمرور الزمن، سوى مخازن ومستودعات بشرية تتكدس فيها العائلات بعضها فوق بعض في مشهد سوريالي يتعذر فيه التمييز بين النوع البشري وأنواع البضائع الأخرى، وكلاهما عرضة لرطوبة المكان ـ العالم السفلي ورطوبة الإهمال والنسيان معاً.
في مكان كهذا إذا لم يكن أسوأ بكثير، ولد بطل عبد العال حاملاً فيروس الصراع الوجودي، وشعلة التجربة فوق البشرية في مكابدة لا هوادة فيها ولا خلاص.
ومن هنا بدأت رحلته الأولى حتى نهاية المطاف في «دورتموند» في طواف لم يكن، على الرغم من تعرجه، إلا دائرياً. لقد دار البطل الأسطوري دورته الحتمية ليهوي صريع الاسم صائحاً: «أقتل نفسي دفاعاً عن النفس» ص204.
فهل كان قتل النفس جزءاً من القربان الفلسطيني؟ وهل كان القناع المتمثل بالاسم الالماني الجديد إيفان بيتربورغ امتثالاً لمشيئة القدر؟ وهل كان التنكر وسيلة المنفي للحماية من عوامل التعرية النفسية والاجتماعية، كما من عوامل النسيان أو الذوبان التدريجي الذي يؤدي إلى فقدان خاصية النوع على غرار ما يصيب الثلج الذي يفقد وجوده برمته إذا ما تحول إلى ماء وهلم جراً؟
لهذا السبب، على الرغم من قسوته، لجأ الفلسطيني المنفي إلى التحايل على الزمن متمسكاً بقشة الحلم بأسنانه خشية الغرق في لجة الواقع الفلسطيني أو العربي أو الدولي لأنها لجة خادعة ومضللة.
ولعل التنكر الفلسطيني هو أقسى امتحان بشري على الاطلاق يتعرض له شعب على وجه الأرض. وقد بلغ أوجه حين تحول في بعض حالاته إلى ما يشبه القانون الفيزيائي وحال السوائل في الإناء سواء بسواء. وقس على هذه الحال الوضع الفلسطيني في المخيمات الموزعة على عدد من الدول العربية واضطرار لاجئي كل بلد عربي بحكم الظروف والقيود المفروضة عليهم إلى مراعاة شكل إنائه السياسي وحجمه.
ولأن التنكر أضحى سبيلاً إلى التكيف والاندماج، كان الأب جوزيف أول المتنكرين عن فلسطينيي الداخل الذين آثروا البقاء في فلسطين المحتلة، فاضطر لمتابعة الدراسة في دير الفرنسيسكان في بيت لحم إلى التحول من الإسلام إلى النصرانية مستبدلاً اسمه الأول رزق باسم جوزيف الذي ظل كاتماً سره حتى ساعة النزاع الأخيرة في منفاه الالماني، تاركاً وصيته الغريبة التي يدعو فيها إلى الرقص على قبره: «أوصيكم بأن ترقصوا فوق قبر رجل عاش حياة غير حياته، ولبس اسماً غير اسمه، ورحل في أرض ليست له» (ص86).
أما في أماكن اللجوء الأوروبية وفي المنافي الغربية عموماً، فيستعاض عن الأسماء العربية بأسماء أوروبية، ففي فرنسا مثلاً يتحول اسم محمد الفلسطيني إلى الياس سعياً وراء الرزق وحرصاً على التأقلم. كما أصبح فراس فرنسوا. وفي كندا غدا أسامة سايمون، وفي المانيا انقلب اسم محسن إلى موزين واسم عرب إلى إيفان، وحوراء إلى إيفا عشيقة إيفان.
ثانياً: ظاهرة الانفصام والازدواجية.
تتجلى هذه الظاهرة في موقف التونسي بن هواش الذي هو ضحية النظام الاستبدادي وسياسة القمع، والهارب من بلاده إلى المانيا بعد أن تعرض للتعذيب الجسدي باقتلاع أظافره قصاصاً له على اتجاهه اليساري المناهض للحكم الدكتاتوري ومشاركته في التظاهرات النقابية.
لكن المفارقة العجيبة أنه سرعان ما يتنكر لمعتقده اليساري عند أول امتحان إيديولوجي فعلي يتعرض له فإذا به يرفض رفضاً باتاً أن تتزوج شقيقته الهاربة معه بغير مسلم، ويدفعه غضبه للتهديد بقتلها مقسماً بحياة ستالين على غسل العار!
ثالثاً: تهاوي الأخلاق والشعارات.
والشواهد على ذلك كثيرة. يقول إيفان: «صار صديقي (صخر) يكشف لي عن نوع من القادة السماسرة يعملون في مؤسسات جديدة، كانوا خلف المتراس وصاروا خلف منابر حلقات الدرس والبحث والتحليل في فنادق فاخرة وأروقة المعاهد والجامعات» ص75.
هذا النموذج كافٍ للدلالة على النهج التدليسي لبعض القادة الخونة الذين يعانون هشاشة القصيدة وضعف البناء النفسي والإيديولوجي.
رابعاً: اختلاف المعايير وتضارب الأحلام.
تكشف لنا الرواية عن خدعة الإيديولوجيا وإخفاق النموذج المثالي الذي هو وليد التبشير الإيديولوجي وقوة البوق الرعائي وبريق الشعارات الذي يخطف الأبصار ويعمي البصائر. فإذا بالحالم بجنة اشتراكية على الأرض يكتشف أنها مجرد سراب كاذب، بل هي جهنم نفسها بالنسبة إلى قاطنيها.
ويكفي دليلاً على ذلك قول إيفان بعد دخوله بلغاريا: «ما إن دخلت في عمق الحياة أكثر حتى أدركت أن الناس هنا يعتبرون مثلهم الأعلى هو الغرب ولو سألتهم لقالوا: ما أجمل الرأسمالية!» ص126.
فأي فردوس اشتراكي هذا وأقصى أمنية كل مواطن يسكنه هي اقتناء سيارة مرسيدس!
خامساً: الغرب منفى العرب ومستودع الحنين.
لقد تحول مقهى إيفان «أرابيسك كافيه» في دورتموند إلى محجة للرواد العرب، وجلهم بل جميعهم فارون مطاردون قد ألّف بينهم ورتق فتقهم المنفى الواحد، أما الأسباب فمتعددة. فمنهم المنفي من وطنه وأرضه وزمنه بسبب الاحتلال الصهيوني (إيفان الفلسطيني والراهب جوزيف)، ومنهم المنفي من بلده هرباً من الاستبداد السياسي (بن هواش التونسي)، ومنهم المنفي من موطنه فراراً من الثأر القبلي واشتداد شوكة القوى الظلامية (حواء أو إيفا الجزائرية).
سادساً: الفرق النوعي في الغربة.
نستطيع استكشاف هذه الميزة من خلال التمييز بين غربتين: غربة المواطن وغربة اللاجئ.
فغربة المواطن على قسوتها لا تتساوى إطلاقاً وغربة اللاجئ التي هي ضرب من فقدان الرجاء، وهذا ما أسميه الفرق النوعي بين هاتين الغربتين. إحداهما غربة موقتة (زائلة) وغربة دائمة لانهائية!
لا أدري إلى أي حد استطاعت هذه القراءة السريعة أن تتعقب خطى أبطال في رواية ذات منحى إشكالي تصدت لطرح مسائل ذات أبعاد وجودية وسياسية وإيديولوجية وخلقية، وكانت جريئة في نقد الأفكار والشعارات والممارسة، وتبيان التناقض والمواقف الازدواجية، ومفارقة النموذج المثالي (الإيجابي) وتبني نقيضه السلبي (الملوث) الساعي إلى حتفه بظلفه من دون التدخل في نهايته المأسوية تدخلاً يغير مسار البطل الميثولوجي تغييراً مصطنعاً، أو مجاراة مفتعلة وفجة لضرورة إضفاء مسحة التفاؤل ولو كان ذلك الصنيع مخالفاً لمنطق الأحداث والحبكة الروائية وسياقها، مخالفة لا يبررها إلا دفع الأمور دفعاً إلى النهايات السعيدة!
يكتشف القارئ «دياسبورا» عربية جهد مروان عبد العال في تجسيدها روائياً من خلال رؤيته الفنية الخاصة ولغته الشعرية المجنحة التي زادت النص الروائي ألقاً ومتعة، على ما خالطها أحياناً كثيرة من لسعات التهكم والسخرية والتلميحات الذكية والفكاهة السوداء.
([) صادرة عن دار الفارابي
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|