قراءة في الحالة المغربية: المثقف والسلطان
يحيى بن الوليد
في فترات سابقة، وبالنظر لـ ' الجروح ما بعد الكولونيالية'، كان الحديث، وعلى أشده، عن ' المثقف الفرانكفوني'، واليوم، وبالنظر لـ ' التصدع الهوياتي'، و' الانفجار الثقافي'، راح الحديث، وعلى أشده كذلك، عن ' المثقف الأمازيغي'، واليوم، كذلك، وبالنظر للعلاقة القديمة / الجديدة للمثقف بـ ' السلطة'، راح الحديث يأخذ منحى آخر عن ' المثقف التكنوقراطي' الذي أخذ في ' الاستحواذ'، أكثر، داخل ' التحليل الأكاديمي' و' النقاش العام'. والمؤكد أن الصنف الأخير من ' المثقف' ما كان له أن يبرز، وسواء كـ ' فاعل' أو كـ ' مفعول به'، لولا جملة من المتغيرات التي مسّت أنساق التصور ومقولات التفكير. غير أن تخندق المثقف التكنوقراطي في دوائر ' التحليل' و' الخبرة' و' التشخيص'، وغير ذلك من ' المستندات' التي تسند ' أداءه العام'، لا يعفيه، وفي النظر الأخير، من ' الموقف' الذي يجدر به أن يتموضع فيه...حتى يضع لنفسه ' مسافة' تحميه من ' السلطة التي توجد في كل مكان ' تبعا لعبارة الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو.غير أننا لا نقصد، هنا، ' السلطة المنتجـِة' التي كان فوكو نفسه قد ميز بينها وبين ' السلطة القامعة' في نطاق تصوره للسلطة. هذا وإن كانت الحال المغربية تتجاوز السلطة الأخيرة ذاتها نحو ' السلطان' الذي يسارع ' المثقف'، وعن طواعية، إلى أن يتواجد ' بين يديه' عملا ببيت المتنبي القائل: ' كأن السّـُمانَى إذا ما رأتـْك / تـَصَيّـَدها فإنها تشتهي أن تـُصادَا'. ولا يكمن المشكل، في تقديرنا، في ' الارتباط' بالسلطان فقط، والذي لا يقر لا بالثقافة ولا بالسياسة، وإنما في ' المشروع' الذي يدافع عنه المثقف وفي ' الاستراتيجيا' التي يستند إليها في ' أدائه' أو بالأحرى في إدارته لـ ' الأفكار' التي تفارق دوائر ' النقد' ودوائر الانتساب لـ ' اليسار' الذي كان يصدر عنه هذا المثقف في كتاباته وتحليلاته وردوده ومناقشاته وسجاله وحروبه...وكل ذلك في المنظور الذي كان يجعل من الثقافة ' جبهة' لـ ' المواجهة' وليست ' منبرا' لـ ' المخايلة'. لقد تخلى عن ' سيفه الرمزي'، ومال، وبالكامل، للسلطان، بل إن ' جينات كرموسة' هذا المثقف بدت كاشفة عن ' عقدة القابلية للسلطان'. ثم إن ' سقوط جدار برلين'، وفي غير عاصمة واحدة، والتسارع نحو تثمين عدم نجاعة ' التمييز' ( الكلاسيكي) بين ' اليمين' و' اليسار'، بل والتبرك بـ ' أفول الخطاطة'، كل ذلك أفضى، في مثل حالنا، المأسوف عليها، لا إلى ' ظاهرة المثقف الخبير' فقط، ومن حيث هو مثقف يقدم ' استشاراته' بـ ' مقابل'، أو يبيع خبراته بصريح العبارة، وإنما إلى مثقف من نوع آخر هو ' المثقف المنبطح' أو ' المثقف الواقع أسفله'. وهو توصيف تحار في أمره فروض سوسيولوجيا الثقافة وتنبؤات الملائكة في آن واحد. وفي مثل هذه الحال تغيب، عن ' دماغ' هذا ' المثقف'، حتى ' فاعلية الاستشارة' لفائدة ' إغماءة الانبطاح'؛ مما يفقد هذا الأخير حضوره النقدي الذي هو قرين حضوره الذاتي المستقل. ذلك أن هذا ' المثقف'، وسواء على مستوى المعرفة أو الوجود، فاقد لـ ' النصف الأيمن' من ' بطارية العقل' التي هي ' علامة هوية' على نوع من ' الأداء' أو ' الحضور' في مجال ' حرب الأفكار' ومجال ' الصراع على القيم' داخل عصرنا هذا الذي ينعته هذا المثقف، ومن باب التراجع والتزايد، بـ' عصر ما بعد الإيديولوجيا' أو ' عصر ما بعد التيارات'. وهذا النوع من المثقف لا يهمه أن يكون ' مثقفا عضويا' تبعا لغرامشي أو ' مثقفا نوعيا' تبعا لفوكو أو ' مثقفا منشقا ونقديا' تبعا لإدوارد سعيد أو ' مثقفاً جذريا' تبعا لتيري إيجلتون. غير أنه يحافظ على ' امتياز المثقف' وفي المدار الذي يجعله يفرغ هذا العنوان من مضامينه، لأنه غير مهموم بالتفكير في صياغة ' الدلالات' الكبرى التي تسهم في صياغة ' المعنى الإجمالي' للمرحلة، وكل ذلك من خلال ' الأفكار' التي تجعل من ' المجتمع' مجالا لتمظهراتها وعلى نحو ما يتجسد في سلوك الأفراد والجماعات وعبر ' إواليات التأثر' التي تصل ما بين الأفكار والمجتمع، بل إنه حتى ' الجماعات المتخيلة'، كما سماها بندكت أندرسون، تظل وقفا على هذا النوع من الأفكار ذات الصلة بعمليات ' الاستبناء الخطابي' (Mise en Discours) التي تجعل من المجتمعات مجالا لها. ومن ثم منشأ انخراط هذا المثقف في ' صياغة' أو ' صناعة' من نوع آخر هي ' صناعة الإجماع'، ' السكوتي' كما نعته الفقهاء، الذي هو قرين ' صناعة الطاغية' تبعا للعنوان الرائج. هذا وان نفوذ الطاغية لا يتعزز إلا من خلال ' الهالة' التي يحيطه بها المثقف، وذلك حين يزيّن له ' حكمه' وحين يوهمه بأنه لا ' أحد' بإمكانه أن يسقط عنه ' تاجه' الذي هو علامة على ' حضوره' الذي لا يمكن ' الشك' فيه. وكل ذلك من خلال ' الماكياج الثقافي' الذي هو قرين ' الكلمات' التي لا تكف عن ' الذهاب والإياب' في إطار من ' المديح التخييلي'. ويتفاقم ' المشكل'، أكثر، حين يَستدرجُ المثقف ذاتَه، وطوعا، وطمعا، إلى دوائر هذه الصناعة المقيتة. ومن ثم يرتمي، بعقله، وبلحمه، وشحمه أيضا، في ' مربع السلطان' مجندا ومخلصا ووفيا...وبليدا في أحيان وأحيان كثيرة؛ مما يجعل منه حالة قابلة لأن تقرأ ' إكلينيكيا'، ومما يجعل القادم على محاولة ' فهمه' يتجاوز ' التحليل الإكلينيكي السلوكي' نحو ' التحليل البيطري' الذي يفرض ذاته هنا بمعنى من المعاني. غير أن ثمة صنفاً من المثقفين، وهم من نقصده هنا، يبرعون في ' صيانة' الانبطاح عبر ' ألاعيب الثقافة'. وهؤلاء يحمون، وبإتقان، ' انبطاحهم'، ويجعلونه، وظاهريا، بمنأى عن ' المرض العصابي' و' الاضطراب الذهني' و' اضطرابات الشخصية' و' انقسام الشخصية' ...أو ' مفهوم الضغط النفسي' و' الضغط الانفعالي'...ومما يجعل انبطاحهم خارج دوائر ' علم القياس النفسي'. فهؤلاء أشبه بتلك ' الأخشاب الغامضة' التي لا يلفظها البحر إلا بعد أن تشربت بمياهه وأملاحه؛ مما يجعل التعامل معها أشبه بالتعامل مع ' الهم الثقيل'. وربما أمكن القول بأن مرض الانبطاح يتعذر علاجه، لأنه لا يكشف عن ' عامل الخطر' (facteur de risque) كما يسمى في ' علم الطب'. هذا بالإضافة إلى أنه من ' الأمراض' التي يتعذر ' التخلص' منها، لأنها مرتبطة بالتكوين الثقافي لا العضلي. ولذلك فإن معالجته تستلزم ' وصفات' تراعي ' البعد الثقافي' لهذا النوع من المرض، مما يفرض على المعالجة أن تصل ما بين ' التقنيات الطبية' ــ التي لا نفقه فيها ــ ومعادلة ' المجتمع والثقافة'. ولعل هذا ما يندرج في نطاق ما يعرف بـ ' المعالجة التعددية' أو ' التعددية الطبية' (pluralisme m'dical) التي تفيد من ' العلوم الاجتماعية' في ' تشخيص' الحالات المزمنة. وليس غريبا، وفي ظل هذا الانبطاح، وغير المشروط، وحتى نفارق ' التعددية' سالفة الذكر، أن يقلق الكثير من هؤلاء لأي نقد يستهدف، وبغير المعنى العسكري، السلطان. فليس من شك في أنهم من ' الأوفياء' و' المخلصين' وبـ ' أفواههم' التي تجيد مهام ' الأبواق' المكلفة بالإعلان، الزاعق، عن ' المكاسب': مكاسب السلطان. بل إنهم يتجاوزون ' هدأة التبليغ' نحو ' لوثة الشراسة'. وعلى هذا المستوى فإنهم، وفي ضوء ' الإشارات والتنبيهات'، يقلقون أكثر من السلطان نفسه، بل إنهم، ومن أجله، مستعدون، وعلى الورق، أو ' الشقشقة اللفظية'، وحتى في الأمكنة التي تهم السلطان، لأداء ' دور الملاكم' و' استعارة مخالب القط' بل و' الاستشهاد المرحلي'...وكأن هذا الأخير منزه عن ' النقد' و' النقد المحايث'. ولأن التاريخ، وبفعل المتغيرات، لا يسير في اتجاه واحد كان لا بد من أن تتزحزح ' القطيعة الفولاذية' وأن يأخذ العديد من مثقفينا في ' طقوس العبور' التي بلغت ' بثور السقوط'، ولا يخفى أن وتائر السقوط متفاوتة...وإذا كان هذا الأخير عند البعض مدروسا ومحسوبا، وبالمنطق التجاري، فإن آخرين، وهم الأغلبية، وللأسف، كان سقوطهم هيّنا ويدعو للشفقة.وبعضهم نهض في الصباح الثالث، أو حتى العاشر، من دوخة السقوط، لكن على إيقاع البحث عن ثمن تذكرة ذهاب إلى ' بيته'. تلك هي ضريبة ' النمط النعيمي' في دنيا التبرك والكرامات. ومثقف في حجم ' المثقف الواقع أسفله'، ومن حيث هو، وأصلا، حجم مبتور، وبالنظر لـ ' الأنساق الراسخة'، وبغير المعنى الأنثروبولوجي، الأنبل، لـ ' الترسيخ الثقافي'، عارف بـ ' الجسور' المفضية إلى مكاسب ' الغنيمة'، الدنيئة، في ظل ' خرائب التاريخ' وفي ظل اختلاط القيم النبيلة بالزبالة المقيتة. وفي هذا الصدد تتبدى لهذا المثقف، وهو المالك لـ ' ماء الكتابة'، و' عراك الجبين'، أهمية العض، الخالص، والمتوحش، على ' المديح' الذي بموجبه يتم الارتقاء بمولاه ' السلطان' أو ' الثعبان'، وبالفصيح تارة، وبالعامي تارة أخرى، إلى ' فرعون العصر'.وكل ذلك في المدار الذي لا يفارق مراح ' ثقافة المديح' التي تهدئ من ' فوضى الحواس' و' عنف الدماغ'. و' ليس عيبا أن يعبد الناس فرعون، ولكن العيب أن يعتقد فرعون أنه إله'، كما قال نجيب محفوظ ذات مرة. ولا يبدو نشازا أن يستغل هذا ' المثقف'، وسواء كان ' معارضا' من قبل وعلى مدار عقود، وهذا هو ' الأخطر و'الأفظع'، أو كان حديث العهد بـ ' مكاسب الثقافة'، أي ' قناة' متاحة لتأكيد حضوره ' النابه'.وأبشع ما في الأمر، بل ومن باب الوقاحة، أن يروِّج هذا ' المأجور' لـ ' الأطروحة المهترئة' التي ترادف، وبفعل التأثير الساحر لـ ' فتات الضيافة'، ودون أدنى ' حياء' ( وأخلاقي ابتداء)، وعلى سبيل التأكيد على ' السلوك الانتهازي المعقلن'، وفي واحدة من الأمثلة الفاقعة، بين ' الجهة' التي تستضيفه و' المغرب' ( المتعدد). هذا وإن كانت الجهة التي تستدعيه، واستطرادا، في حجم ' علبة السردين' وغارقة في ' الإقطاع المعاصر'. ولا يراود هذا النوع من المثقف المترحل ( وبالمعنى الحرفي والسالب للكلمة)، أو المرتزق تعيينا، أدنى حرج في نسج ' خطابه' هذا اعتمادا على كل ما هو متاح من قياسات سخيفة وصور بلاغية صلعاء، وقاحلة، وكل ما هو متاح من كليشيهات بلاغية مهترئة وتنميطات بازارية جاهزة. ومن ثم إسهامه في ' الفساد الثقافي' الذي لا يقل خطورة عن ' الفساد السياسي'؛ هذا إذا ما لم نقل بأن الفساد الأول، وبسبب من آليات المداورة التي تلوي به، هو الأخطر. وسيكون من السخافة، أو من باب عدم تقدير ' السياق المتحرك'، أو ' الجاري'، أن ننظر إلى المثقف كـ ' بطل قومي' مطلوب منه، وبخاصة في زمن ' الانسحابات' و' الاستقالات' و' الانسحاقات' و' الانقلابات' و' الانقطاعات'، أن يخاطر بـ ' ذاته' وأن يحاذي ـ بالتالي ـ ' شفير الألغام' حتى نرضى عليه وباسم ' تيار إيديولوجي' دون سواه. لقد تزحزحت، ومن جوانب عديدة، صورة المثقف الملحمي أو المثقف الزعيم الذي كان ينزل إلى الشوارع ويشارك في المظاهرات والوقفات الاحتجاجية والذي كان ' يؤطر العقول ويسلب القلوب'. ثم إن فاتورات الحياة اليومية عقدت من الصورة الاجتماعية للمثقف، وكما أن السلطة الحاكمة، أو بالأحرى الدولة القامعة، وبطرقها المداورة، أزَّمت من ' الوضع الاعتباري' للمثقف أو الكاتب. وعلى الرغم من أن ' الدولة'، ومن خلال ' الدولنة' (Etatisme) ( أو ' الهجمة الدولتية' كما يترجمها البعض)، تمكنت من أن تفرغ الثقافة من مضامينها، وأن تقزم من دائرة ' الحضور الذاتي' للمثقف، فإنها لا تزال مصرَّة على مخاطبة المثقف بلغة غير ثقافية. فالمثقفون، أو بالأحرى الأغلب الأعم منهم، مجردون من ' المستحقات' لكي لا نشير إلى ' الامتيازات'. ينبغي أن نقدر الحجم الطبيعي للمثقف، وأن لا نطلب منه، بالتالي، ما يفوق هذا الحجم. غير أنه لا يمكن الاعتراض على ' تعويض' المثقفين الذي لا يرقى ـ وللمناسبة ـ إلى الحد الأدنى من التعويض الذي يتقاضاه نجوم الغناء والرياضة والطبخ...إلخ. هذا بالإضافة إلى أننا أصبحنا ' نعيش زمن الماركتينك' ( الثقافي) كما كان يردد، وبنوع من الانتشاء، الراحل محمد شكري الذي كان في أعوامه الأخيرة يفرض شروطه على ' سماسرة' الثقافة. لسنا ضد الثراء، ثراء المثقف، وإنما ضد ' الانبطاح'، خصوصا وأن الوضع الاجتماعي لبعض مثقفينا، ومن الذين يكثرون من الحديث عن الثقافة، غير مفلس وإلى ذلك الحد الذي يدفع إلى ' الجنون المعلن' أو ' الخارجي' لا ' الجنون الداخلي' الذي هو حال المثقفين والكتاب المتحدرين من ' الثقل التأصيلي' للكتابة والثقافة. فهؤلاء لا يمكنهم أن يتصوروا أن ' الجنون يغري لأنه معرفة' كما قال دارس الجنون الفيلسوف ميشال فوكو.غير أنه، ورغم وضعهم سالف الذكر، نجدهم ' منبطحين' و' واقعين أسفله'. وسيكون من المفيد أن نعود إلى سيرة الراحل نجيب محفوظ، وعلى وجه التحديد إلى أحد حواراته يوم كان لم يتجاوز بعد العقد الخامس من عمره، وذلك حين عبَّر عن ' القلق' الذي كان يلازمه نتيجة ' مرض السكري' و' قلة المال'، القلة التي كانت تدفعه إلى الكتابة في الصحافة والعمل الإذاعي بحثا عن ' التكميلات' ــ كما كان ينعتها ــ لكن بما يستر من حاله وبما يجعله ' يكتب' وبالقدر ذاته ــ وتبعا لعبارته أو شعاره الأثير ــ ' يقرأ من دون انقطاع وفي جميع الاتجاهات'. ومثل هذه الدروس نادرا ما يتم استخلاص دلالاتها الكبرى. والذين شاهدوا هذا المثقف، مثقفنا المنبطح، وهو يناضل، يكيل المدح تعيينا، بعينيه الجاحظتين، وجبينه الذي يتصبب عرقا من شدة ' الإجهاد' و' الإخلاص'، والذين شاهدوا كذلك هذا المثقف وهو يبيض ' ذهبا' من فمه، ودون أن يشعر بأنه ' ساقط بين كرسيين' كما يقول المثل الفرنسي، قد تراودهم فكرة الممدوح الذي يكون أول من يحتقر المادح بالابتسامة الآسيوية الصفراء تمهيدا لسلطان الإقصاء العمد. إن هذا المثقف لا يفكر في ' النصيحة' التي تقع في أساس ' الآداب السلطانية' أو ' الخطاب السلطاني'، وذلك كأن يذكر السلطان، ومن حين لآخر، وعبر أسلوب ' التلميح' لا ' التصريح'، بأنه ' بشر'، بل وأن يتطاول عليه بعبارات مثل عبارة جون كاج ' هل يمكن لنا أن نفضل خنزيرا بتفاحة في فمه' وغيرها من العبارات الساخرة والأقوال المأثورة التي تزحزح ' مرض عبادة الشخصية'. ويحدث أحيانا أن يخرج السلطان عن ' طغيانه'، ويذكِّر بنفسه بأنه سيموت، وأنه سيترك جميع ' الغنائم'. غير أن المثقف، هنا، لا يرقى حتى إلى الاضطلاع بدور ' وعاظ السلاطين' تبعا لتسمية المؤرخ والمفكر الاجتماعي العراقي علي الوردي، وبالتالي لا يكلف نفسه حتى بخالق ' هامش صغير' يذكر من خلاله سلطانه بأنه يتصرف وكأنه لن يموت. فـ ' السكوت' عقيدة هذا المثقف، المتخثر والجامد بإزاء ' مفاسد التاج'...وإذا ما تحدث، هنا، فإنه لا يحيد عن ' تربيع الدائرة وتدوير المريع'. وأما ' المقاومة' فلا مجال لها في ' دماغه'؛ بل إنها لا ترقى حتى إلى مستوى ' الذبابة' التي تطنّ بجواره. وإذا كان ميشال فوكو يقول: ' حيثما توجد سلطة توجد مقاومة' فإنه في حال مثقفنا يمكن القول: ' حيثما يوجد سلطان يوجد انبطاح'. فالمثقف هو الأكثر تأثيرا على مستوى ' الاعتراض' على ' التسلط'، أو على ' ظاهرة إنتاج السلطان'، وغياب دوره هو الذي يجعل السلطان لا يقنع بـ ' ظل الله' ولا بـ ' المماثلة' بينه وبين الإله، بل ويجعل المقولة الكلاسيكية عن ' إعطاء ما للرب للرب وما لقيصر لقيصر' تنتهي إلى ' إعطاء كل شيء للقياصرة' كما قال الكاتب خيري منصور.ومن ثم إسهام المثقف في هجمة ' فقه التدجين والمسايرة والتقريد' بلغة خيري منصور دائما. لقد تجاوز مثقفنا التقرب والممالأة والتكيف والتأقلم والاصطفاف...بل وتجاوز التواطؤ والخيانة والخضوع والطاعة والنفاق...نحو ' نزيف الانبطاح'، ودون أن يدري ــ أو بالأحرى يتجاهل ــ أن ' من شارك السلطان في عز الدنيا فقد قاسمه ذل الآخرة'. ناقد وأكاديمي من المغرب
|