أدونـيـــس
جذور الإنسان فـي مستقبله وليس فـي ماضيه
علي عبد العال
عندما ينضج الإنسان العادي يصير ثمرة بشرية، طيبة أو لاذعة؛ لكن عندما ينضج الشاعر الأصيل يتحول إلى حِكمة تنويرية شاملة، حِكمةُ تقول كل شيء بمعزلٍ عن الخوف؛ إذ أن الحكمة الأكيدة لا تخاف. الحكمة هي المعنى الآخر للجرأة، والجرأة بذاتها هي مغامرة، أو على الأصح مشروع مغامرة، والمغامرة لها طابع خلاب لا يقدم عليها سوى الشجعان من البشر. عندما يخوض الأبطال معاركهم مع الخصوم والأعداء على سوح القتال فهم إما يُقتلون وإما يقَتلون. إما يفوزون وإما ينهزمون. هذا في ميدان القتال الذي يتضمن بعض الرومانسية في مفاهيم البطولة والفروسية والشجاعة الواضحة والمباشرة، لكن عندما يتعلق الأمر بالإبداع والخلق والفكر والكتابة، تكون المهمة أصعب بكثير من فنون القتال بالسيوف والأسلحة الحديثة. معركة الفكر أصعب بكثير من معارك الميدان الطائشة حيث فقط يمكن للقوي استعراض عضلاته وأسلحته. الفكر أقوى من العضلات. حتى العضلات القوية من دون عقل لا تجدي نفعا. لكن لا يمكن للعضلات القوية، مهما بلغت شدة قوتها وأسلحتها الشديدة الفتاكة وقف سيل الأفكار الجديدة والمتجددة. تلك هي المفارقة الكبيرة بين العقل وبين الجهل. بين الخنوع و التحدي. بين الاقتحام والتردي. الأمر ليس سهلا على الإطلاق. الجهل كبير والفكر قليل. تمثل الأديان التوحيدية الثلاثة في عصرنا الراهن نمط الأسلحة التقليدية الكلاسيكية من ناحية العقيدة ومن ناحية الأداة. العقيدة جاهزة، ومنصوص عليها أما الأسلحة المستخدمة لتطبيق هذه العقائد فهي أسلحة تقليدية جدا إلى أمدٍ قريب، فلم تكن تتعدى السيوف والبلطات والسكاكين الحادة، ثم دخلت الأسلحة الرخيصة في أطوار متأخرة من القرن المنصرم، كالمسدسات والأسلحة الأوتوماتيكية الأخرى، والآن تطور الأديان نفسها لامتلاك الأسلحة النووية لتطبيق العقيدة بقوة السلاح. تستطيع العقائد هزم البشر في كل مكان على الأرض، وتستطيع الأسلحة سحق البشر في كل مكان على وجه المعمورة، لكن هذه العقائد والأسلحة مجتمعة لا تستطيع التغلب على فكرة بسيطة واحدة من الفكر الحر والمتنور والمتحرر. ليس بالإمكان هزيمة الأفكار وطردها من رؤوس البشر. في هذه المنطقة الحيوية من تاريخ الإنسانية الجاري إلى ما لا نهاية يعمل الشاعر والمفكر والإنسان أدونيس على تخليص الفرد من عبودية العقيدة ومن رخص الموت. هكذا رأيته، وهكذا حاورته، وهكذا تعلمت حكمته البسيطة التي تقرب إلى حكمة الأنبياء، ليس القدامى، ولكن الأنبياء الجدد؛ أنبياء العصر الحديث المبشرين بحرية العقل وحرية الإنسان وحرية المعتقدات الإبداعية المتجددة عرفتُ الشاعر أدونيس عن طريق الكتب وعن طريق الشعر منذ كنت طالبا في المرحلة الأولى من دراستي الجامعية في كلية الحقوق جامعة بغداد 1976. كان اسم الشاعر السوري محمد الماغوط يتردد في أوساط المثقفين العراقيين الشباب بكثرة يتخللها اللغط والشجار على أهميته الشعرية. حتى الشاعر نزار قباني كان يتمتع بصيت أشبه بـ "الدوي العاطفي الرومانسي" في "قلوب الفتيات" أولا، وهذا هو أهم شيء بالنسبة للشاعر نزار قباني، ومن ثم في مقاهي بغداد الثقافية وشوارع العراق الشجية بالطرب لقصائده المغناة، وحتى الحارات الشعبية عرفت الشاعر نزار قباني كـ "شاعرٍ للمرأة" وتعلقت معظم الفتيات الرقيقات بأهداب شعره الأنثوي المُغنى. أما الشاعر أدونيس فلم نكن نسمع باسمه إلا من باب الغرابة. ولم نعّده إلا شاعرا عربيا مختلفا يثير الحيرة والشكوك على جميع الصعد الفنية والفكرية والشعرية بطبيعة الحال. ثم حدث وان رأيت الشاعر أدونيس في بيروت نهاية شهر آذار عام 1979 في مهرجان شعري كبير أقُيم في الذكرى الخامسة والأربعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي أقامتها منظمة الحزب الشيوعي في بيروت. كانت جمهرة من الشعراء المشهورين أتوا ليحيوا هذه المناسبة التي وضعت أسم العراق على وجه الخارطة الثقافية اللبنانية و هي الساحة العربية الأكثر حضارة وأصالة وتجديداً. ومن نافل القول أن العراق له موقع مميز في قلب ووجدان كل مثقف لبناني وعربي كونه صاحب الفكر المجدد بالشعر والمنتج الأول للجديد من الإبداع بفض حركة التجديد الشعري التي أنطلق من بين أنامل وأفكار الشعراء العراقيين بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وغيرهما من الرواد الأوائل. الشاعر الفلسطيني محمود درويش ومعين بسيسو والعراقي سعدي يوسف وغيرهم الكثير من الشعراء العرب لا داعي لذكرهم الآن. الجميع من الشعراء قرأ شعرا جيدا حيث أنهم سادة الشعر والمنصات والمنابر الشعرية آنذاك، لكن المتميز الوحيد، وصاحب العزف المنفرد كان وحده الشاعر أدونيس. " صرخ بجملته الشعرية الفريدة والصعبة القول: "أنا زلزلة الدنيا وخلخلة العقول.." ومما قاله في تلك المناسبة كلام لا أنساه وكأنه يتردد في مسامعي كما لو قاله قبل قليل. قال أدونيس بعد أن أعتلى المنصة: "منذ ثلاثة عشر عاما لم أصعد منصة ولم ألق على الجمهور شعرا خطابيا؛ ورفضتُ جميع الدعوات للوقوف على المنابر الشعرية لأنني لستُ شاعر خطابة. لكنني لم أستطع رفض دعوة الحزب الشيوعي العراقي لما لهذا الحزب العريق من احترام كبير في نفسي". بعد أن ألقى أدونيس ما ألقاه من شعرٍ غريب وعجيب، بعيد حقا عن فنون الخطابة المباشرة، بيد أن إلقاءهُ الشعري بتلك الطريقة الممسرحة والأخاذة، والأسطورية كانت كافية لأن تسلب الألباب وتلفت الانتباه الشديد لهذا الشاعر الذي يعزف على العود المنفرد. منذ ذلك الحين "خلخلني" فكريا هذا الشاعر الساحر ولم أعد أميزه عن بدر شاكر السيّاب إلا بمستوى فن الشعر. تماهى بقية الشعراء بعد قصيدة أدونيس، مع الاحترام الكامل والحقيقي لشعرهم ولقصائدهم، لكنه كان شيئا مختلفا تماما. وهاهو اليوم، بعد ثلاثين عاما من الشعر والفكر، مختلف كما طفلٍ يولد من جديد وهو في سن الثمانين. تلك هي عظمة الإبداع الحقيقي للشاعر الأصيل. صعد إلى المنصة بعده الشاعر محمود درويش، وكان الشاعر الرسمي للثورة الفلسطينية في لبنان من دون منازع على الصعيد السياسي. قبل أن يقول قصائده الخطابية الرنانة بصوته المتألق الجهوري وفن الإلقاء الساحر الذي يتقنه درويش بحيث يستطيع التلاعب بالجمهور كيفما يشاء، قال محمود درويش كلاما غير شعري في مقدمة لخطابه التالي. قال: "أنا شاعر قضية، ولا أستنكف من المشاركة في أية قضية وطنية، ولستُ كمن يدعي الشعر مفضلا الانطواء على شعره وعلى نفسه". وكان واضحا أن الكلام موجها إلى ما قاله أدونيس قبل قليل. أنشد محمود درويش شعره الثوري الكبير الذي يسلب لب كل مستمع يؤمن بقضية فلسطين. وتمايل الجمهور طربا لقصائد درويش الثورية النابعة من روح الثورة والمقاومة. عندها تجلت الفجوة الشاسعة بين ما كان يفكر به أدونيس في صميم الشعر وما كان يفكر به محمود درويش في مهمة الشعر. كان الفرق شاسعا بين القطبين. نجح محمود درويش في نيل التصفيق المدوي ولم يخسر شيئا، وتخطى أدونيس شعريا مسافات طويلة سوف يدركها درويش متأخرا عندما خسر المراهنة على الخطاب وأعتمد الشعر كأداة فقط. بينما أحتفظ أدونيس بخطاب الشعر كجوهر لا كمظهر. لماذا أقول ذلك الآن؟ السبب البسيط يكمن بالرهان على مادة الشعر الروحية وليس على القضية التي يعالجها هذا الشعر. لم يبق في زمننا الراهن من الشعر إلا ذلك الشعر الذي يجسد معاناة الإنسان في كل مكان، أما الشعر الخطابي فيمكن ترديده في الإذاعات الرسمية التي تدعي الثورية وهي تسحق البشر بمكائن وحشية هي أبعد ما تكون عن الشعر والأشعار، بل أحيانا يُسحق البشر في ظل تلك الأشعار الخطابية الرنانة. ذكّرت أدونيس بهذه الواقعة عرضا. قال أمام جمع من الأصدقاء والمحبين: "لم أبك في حياتي بحرقة سوى مرتين، مرة، وبعد ستة عشر عاما بكيتُ على موت أبي؛ بكيتُ عليه لأنني شعرت أنه كان لي صديقا وليس أبا فقط، والمرة الثانية بكيت عندما مات صديقي محمود درويش. ثم يضيف: "محمود شاعر حقيقي ومتألق ولا تنقصه ناقصة لا لغةً ولا معرفةً، لكنه لم يكن ليعثر على مشروعه الشعري الخاص به كشاعر إلا متأخرا وبعد فوات الأوان. إنه مبدع حقيقي أتلفته الثورة والسياسة. كان يحب التصالح مع الجميع، والشاعر المتصالح مع الجميع ليس لديه مشروع شعري يقتحم به العالم المتجدد. الشاعر الأصيل هو الذي يخلق مشروعه الخاص وليس يخضع لمشاريع الآخرين".* *جرى هذا الحديث في شهر أكتوبر بمدينة هيوستن الأمريكية 2010 أدونيس الشاعر.. أدونيس شاعر قديمٌ وشاعرٌ جديدٌ وشاعرٌ مجددٌ؛ الشعر مثل لِعْبِ الأطفال، بل مثل الأطفال ذاتهم. يولد الشعر كما يولد الأطفال. بكل ما تحمله تلك الصيغة من براءة وعنفوان. صرخة الطفل الأولى تشبه كثيرا صرخة القصيدة الأولى. إنه العالم من جديد. أدونيس صرخة دائمة في الشعر الحديث، إنه الشعر ذاته. كيف يمكن لي أن أنسى تلك اللحظات الحرجة ونحن نجلس بعيدا عن العالم العربي وكان أدونيس يشعر بالقلق الخفي الذي يخفيه بدخان السيكار وكأس النبيذ القاني كدمٍ طاهرٍ شاخصا أمامه كعلامة وجدانية حرة على التمرد الأصيل حتى الرمق الأخير. وقار أدونيس يجمع وقار جميع شعراء الكون، من طاغور العظيم مرورا بعمر الخّيام والمتنبي وصولا إلى أبي العلاء المعري وأبي نواس والبحتري، وأخيرا بدر شاكر السيّاب وسعيد عقل وشوقي أبي شقرا ويوسف الخال وأنسي الحاج، (عذرا عن الترتيب الزمني) إنه جميع هؤلاء الشعراء حباً وتمثلا وتشربا روحيا صافيا، بيد أنه يبقى أدونيس الفريد والمتفرد في الشعر وجوهره. لنقل افتراضا أنني مفتون بحضوره الزاهي المتألق دوما، وهذه الـ "دوماً" هي أقل من الحقيقة بكثير، إذ أدونيس يتألق جوهريا وشعريا ويتخطى مساحات شاسعة لا نبلغها نحن البشر العاديون. أقول ذلك بمنتهى الصدق والثقة كما لو أنني أشهد في محكمة مفتوحة على الزمان البشري الحديث. هذا الرجل عبقري بكل معنى الكلمة. ليس عبقريا شعريا وفلسفيا حسب، إنه يجسد أفق الإنسان القادم، أفق الإنسان الضال، أفق الإنسان الضائع. إنه مستقبلنا الوحيد الذي فيه من الإشراق الإنساني التنويري المأمول أكثر مما فيه من العتمة الظلامية للفكر الكهنوتي الأيكلروسي الديني المستبد. أدونيس الشاعر المصفى من شوائب الدين واللاهوت ومن رثاثة الآيديولوجيا البشرية هو شاعر الناسوت؛ بمعنى من المعاني هو شاعر الإنسان اليومي؛ أي هو شاعرٌ حاضرٌ في تفاصيل الأيام المعيشة. يكتب عن الإسكندرية كما كتب عنها كفافي، وكما كتب عن البحر سان جون بيرس الذي ترجمه أدونيس في المنارات. أدونيس شخص عظيم، عظمته تكمن بحقيقته الأبدية كونه شاعرا مجددا في الفكر وليس في الشكل. هذا المشوار الخّلاق الطويل القادم يتطلب من الثقافة العربية النائمة على إرثها الداجن والمدجن، وهي تبيض بيوضها الجرثومية الأكيدة في حاضنة السلطات والمؤسسات وتصدر كتبها في هذه القوقعة المغلقة التابعة للمؤسسة أو للدولة أو للحكومة. جميع الناس وجميع الشعراء وجميع الأدباء وجميع المفكرين وجميع الخلاّقين يجب عليهم وضع الحدود بينهم وبين أدوات الحكومة. أدونيس لا يقبل الشعر عندما يكون الشعر ضد الإنسان وفي صف السلطات الحاكمة ضد المقهورين؛ إنه يحتقر هذا النوع من أنواع الشعر المجاني. أبو العلاء المعري وأبو نواس والمتنبي وإمرىء القيس هم شعراء أدونيس العالميون والعرب. هؤلاء هم ذائقته اليومية. قال في لقاءٍ مع بعض الصحفيين وقد دونتُ الكلمات بالحرف: "أنا لستُ متصوفا.. التصوف له مسحة دينية وأنا لست متديناً؛ ربما أنا متصوفٌ وثني". وفي اللقاء ذاته أورد هذه العبارات قبل نسيانها: "كتاب ألف ليلة وليلة العظيم لم نستعده في الثقافة العربية إلا بعد قراءته الأوروبية". "ابن خلدون (محّرمٌ) في الثقافة العربية لردحٍ من الزمان". "ابن رُشد أُتهم بتخريب المسيحية في الغرب ومُنع من جميع المؤسسات التعليمية في المدارس الأوروبية". "الثقافة ذات طابع عالمي؛ فهل نتحدث اليوم وفي هذا الوقت عن الإلحاد الديني؟ لكل إنسان حرية الاعتقاد، وأعتقد أن الإسلام كدين ضمن للبشر هذه الحرية الطبيعية فلماذا يقتلون الناس الآن وكأنهم ينفذون إرادة الله التي لم يأمرهم بتنفيذها هو ذاته"؟
أدونيس الشاعر والمفكر: جذور الإنسان في مستقبله وليس في ماضيه قبلَ أن يأتي النهارُ، أَجَيءُ قبلَ أن يتساءلَ عن شمسهِ، أضُيءُ ،، أَسْلَمتُ أيامي لهاويةٍ تعلو وتهبط تحت مركبتي عملاق القرن العشرين ورائد القرن الواحد والعشرين في الشعر وفي الفكر وفي رسالة التحرر من جميع العبوديات التي صنعها البشر بأنفسهم وأخضعوا أنفسهم كنذور مجانية لها. العبودية للأديان والعبودية للآيديولجيات الحزبية الحديثة التي لا تختلف عن الأديان بشيء وتتوحد معها بالطاعة العمياء وسياسة القطيع. هو من ثلم الصنم الحديث بعد الإمام علي بن أبي طالب الذي حطّم الأصنام قبل ألف وأربع مئة سنة ونيف. أزميل حاد من الذهن الوقّاد يفّتُ في صخر الفكر العربي الميّت. وضعتُ هذه العناوين وغيرها وأنا أتتبع سيرة هذا الكائن الفذّ الذي لا تمتلك الثقافة العربية صرحا أكبر منه في المعرفة والذائقة الشعرية والفكر المستنير في عصرنا الراهن. وإذا تمنعتْ وتمنع المؤسسات الثقافية العربية من وسائل متاحة في الإعلام فهي الجديرة قبل غيرها من الأعداء المرصودين من المعادين لها، الشروع بقتل وبتصفية أبنائها البررة من حملة لواء الفكر الجديد الذي يتفوق في الغرب ويُقمع في ساحات الفعل الجدي في بلادنا. أقول بما يشبه الصرخة بوجه هذه المؤسسات الإعلامية الرسمية وغير الرسمية: ابحثوا عن أدونيس.. فتشوا عنه.. إقرؤوه.. فهذا هو خلاصة عصركم الديني والفكري والشعري. سنموت عاجلا أو آجلا، لكن الأكثر بقاءً بيننا هو هذا المبدع الحي الذي يفتق عقولنا المتهرئة بأدواته البسيطة ويحاول أعادتها للخلق من جديد. سأله الشاعر فادي جودة وهو فلسطيني أمريكي ترجم شعر الراحل محمود دوريش للانكليزية: "هل تخشى أن تكون في المستقبل شاعرا على الهامش، رغم كونك في القلب"؟ أدونيس: ـ "أنا أحب الهامش؛ الشاعر المبدع، الكبير، لكي يكون في القلب يجب أن يكون في الهامش. عشتُ طويلاً، ولم أزل في الهامش العظيم، الجمهور والناس.. ويضيف أدونيس.. الفن والشعر في أزمة عالمياً؛ لغة الشعر تراجعت على الصعيد العالمي. الشعر خسر أفقياً وربح عمودياً؛ لا أقصد من ناحية الشكل بل النوع. أفقياً خسر الشعر قاعدته العريضة، الجماهير، وربح عمودياً على صعيد نوعية القارئ ونوعية الشعر. ويسأل الشاعر فادي جودة عن اللغة الدارجة وعن اللغة الفصحى وما هو رأي أدونيس بهذا الخصوص. أدونيس: نعرفُ اللغة الرسمية، ويجب أن نعرف كذلك "اللغة" الدارجة. أحبُ اللغة الدارجة وأعرض عنها في الوقت ذاته. حرضّتُ الشاعر العراقي مظفر النواب على الكتابة بالفصحى بعد أن قرأتُ قصيدته "الريل وحمد". ونشرتُ له أول قصيدة بالفصحى في مجلة "مواقف" 1969 ـ 1970 وهي أول قصيدة يكتبها النواب بالفصحى. لكن الترجمة في الوقت الراهن تلعب دورا كبيرا في نقل الشعر بين الشعوب مهما كانت اللغة أو اللغات التي يُكتب فيها هذا الشعر. يسأل الشاعر فادي جودة: "هل اللغة هي كل شيء في الشعر"؟ أدونيس: ـ "اللغة تتحول الآن ـ على صعيد الشعر العالمي ـ إلى أشبه بأداة. إلى (شيء) ما من الأشياء المجردة. الإنسان من غير لغة هو مجرد (شيء) كأس، طاولة، دابة.. عند العرب ترتقي اللغة، سابقا، إلى مرتبة "الغاية"، ويضمحل هذا المفهوم في أيامنا هذه. العمل على اللغة وتخليصها من مفهوم (الأداة) إلى مرتبة (الغاية) هي مهمة يجب الاضطلاع فيها من قبل جميع المهتمين في شأن الإبداع. لا الخارج بيتي.. والداخل ضيقٌ عليّ ،، حاولتُ خلقَ فراغ ًٍ يتسعُ لأهوائي.. ،، حيرتي حيرة من يعرف كل شيء.. حيرة مَنْ يُضيء.. *مادة مستوحاة من لقاء مع الشاعر الكبير أدونيس في ولاية تكساس ـ هيوستون على هامش ترجمة أشعاره التي صدرت مؤخرا في أمريكا عن جامعة يال العريقة. **كاتب وروائي عراقي مقيم في السويد
|