شعراء بلا قصائد
خيري منصور
قد يبدو هذا العنوان اشبه بأحجية، لأن المتعارف عليه نقديا وجماليا هو عدم الفصل بين الشاعر والقصيدة، لأن ما من شعراء بلا قصائد وما من قصائد لقيطة، وحين طالب الشاعر تي . إس . اليوت بفصل الشعر عن الشاعر عند أي مقترب نقدي، فذلك لكي يكون النقد متحررا من سطوة المؤلف، أو ما سمي فيما بعد لدى بارت موت المؤلف، وان كان من الصعب التعامل مع رواية او قصيدة او قصة على انها أرامل! خطرت لي الفكرة منذ زمن بعيد واثناء مشاهدة فيلم سينمائي لا علاقة له بالأدب هو 'الجنرال باتون' الذي سميت فيما بعد دبابة باتون الشهيرة باسمه، ففي احد مشاهد الفيلم يقول احد الشخوص بأن له صاحبا يمتلك كل مقومات الروائي، بنظارته الطبية وشعره الطويل وقدرته على الحكي، انه روائي لكن بلا روايات، فهل هناك بالمقابل رسامون بلا لوحات؟ وقصاصون بلا قصص؟ في عالمنا العربي يحدث هذا بلا اي استهجان حيث يعج هذا الوطن بجنرالات لم يخوضوا حربا واحدة، وبمثقفين لديهم من فائض الأمية المعرفية ما يتجاوز أية اميّة تعليمية او مهنية، لهذا تداول المثقفون العرب طرفة سوداء عن نقابي محترف اختار ان يصول ويجول في مجال الانتخابات الخاصة باتحادات الكتّاب العرب، بحيث أصبح كل من يراه رائحا غاديا في ممرات الفندق الذي تعقد فيه الانتخابات يسأله عن موعد صدور اعماله الكاملة، وهي أعمال لن تصدر حتى القيامة .. لأن مؤلفها ليس كاتبا! ان ما حدده الشاعر يفتشنكو لتعريف الشاعر وهو انه حاصل جمع قصائده فقط كان ردا غير مباشر على من سخروا من الاداء المسرحي ليفتشنكو وهو يلقي قصائده، ومنهم من قال انه يستغل قامته المسرحية الأشبه بوثن اغريقي او صوته الجهوري او رشاقة ساقيه اللتين تشبهان ساقي راقص الباليه الشهير فازلاف نجنسكي. وبمعزل عن نوايا هذا الشاعر الروسي في الرد على منتقدي ادائه الشعري في الالقاء فان المعادلة التي توصل اليها دقيقة جدا اذ كان المقصود بها تجريد الشاعر من كل القرائن او ما يمكن ان نسميه الاكسسوارات التي تصاحب نشاطه الشعري، فمن يجلس ساعات امام الانترنت بحثا عن اسمه في خبر او مقالة او حتى فهرست لا يشاركنا الاعتقاد بأن الشاعر هو حاصل جمع قصائده، لأن العالق بهذا المنجز قدر ما يعنيه ما يقال عنه، لهذا فإن هاجس البحث عن اعتراف يشغل العديد من الكتّاب والشعراء العرب وعلى نحو يثير الاشفاق احيانا، لأن هذا الاعتراف يأتي من سائق تكسي احيانا او من طبيب اسنان او من زوج الاخت او زوجة الاخ، وكل هؤلاء لا علاقة لهم بنقد الشعر وتقييم نماذجه رغم ان لهم الحق في التلقي والانتشاء بما يقرأون! ولو انفق عشر الوقت الذي ينفقه استجداء للاعتراف في تطوير التجربة وتخصيبها لكان الامر مختلفا عمّـا هو عليه الآن ! * * * * * * * * * ما قاله اليوت عن عزل الشعر عن الشاعر بدأه بعبارة تبدو طريفة على صعيد نقدي وهو ان معظم الناس شعراء حتى سن الخامسة والعشرين، واذكر انني سألت الشاعر تيد هيوز ذات يوم في دكا، العاصمة البنغالية، عن معنى هذه العبارة لإليوت فاجاب بأنه رغم اختلافاته العديدة مع شاعر 'الارض الخراب' الا انه يوافقه. وفي اليوم التالي وبعد ان قرأ عدد من الشعراء قصائدهم في مساء اسيوي رطب وكئيب قال هيوز ان بعض هؤلاء وهم من الشباب سوف يتوقفون قريبا. ولم يكذّب المستقبل نبوءة هيوز اذ سرعان ما اقلع هؤلاء عن العادة الشعرية الى عادات اخرى، اما الاكثر حماسة منهم وتطرفا في هجاء الكلاسيكية والغنائية فقد انتهى كما انتهى بيريلوف الروسي التوأم اللدود لماياكوفسكي وهي نهاية غير سعيدة على الاطلاق لأنه احترف اصدار كتب عن فنّ الطبخ لربات البيوت والخادمات! * * * * * * * من حيث لا يدرون، ورطنا اول من ترجموا السير الذاتية لرامبو وبودلير، والى حد ما فيرلين، بنمط من الثقافة الشعرية يصبح فيها الشاعر منهمكا في البحث عن مؤهلات من خارج الشعر كي يستكمل صورة الشاعر، وقد تسكع هؤلاء وناموا على الارصفة ومنهم من كان يربي القمل بين خصلات شعره ليلقيه على المارة، لكنهم اضافة الى هذا كله كتبوا شعرا، وما كان لنا ان نعرفهم لو انهم لم يكونوا شعراء، فهناك آلاف وربما ملايين اللامنتمين والكلوشورات وجيل 'الييبيز'، وهو بالطبع غير جيل 'الهيبيز' ، فعلوا اضعاف ما فعل رامبو وفيرلين لكننا لم نسمع بهم! وقد مرّت بنا فترة لا تزال ظلالها قائمة كان على الشاعر فيها ان لا يستحم لأسابيع او شهور وان يصطنع مظهرا يخلو من الاناقة والكياسة كي تستحق هذا اللقب، لهذا كانت تلك القرائن اللاشعرية في اساسها هي البديل الوهمي عن القصائد، خصوصا بعد أن اوشك البعض على تصديق تلك المقولة الخرقاء عن جودة المقلّ، حتى لو كان هذا القليل قشرة موز او ما تبقى من عرف ديك أصلع! * * * * * * * * * ان 'غربال' ميخائيل نعيمة يبدو الان وبعد عودة عقود كما لو ان ثقوبه أضيق من ثقوب إبر الخياطة، فالاحتكام النقدي الآن ليس لما يصدر او ينشر تبعا لقيمته الجمالية بل هو لما ينشر فقط، فالصحافة والفضاء المتلفز تكاثرا في عصرنا على نحو أميبي، ويحتاجان الى علف على مدار اللحظة وليس الساعة فقط، لهذا يصبح كل ما ينشر صالحا للعرض والقراءة الاعلانية الأفقية، ولو أخذنا عيّنة نموذجية من التعليقات الصحافية او المتلفزة على ما ينشر لاختصرنا الكثير مما يمكن قوله في هذا السياق. فعبارة مثل: تستمد هذه المجموعة أهميتها من كونها صدرت في هذه الآونة، او يضيف هذا الكاتب او الشاعر منجزه الابداعي كتابا سابعا او عاشرا.. مثل هذه العبارات المهترئة من فرط الاستعمال اليومي فقدت دلالاتها تماما فهي تصلح لأي كتاب وعن أي مؤلف، وبها من مهارة اخفاء الجهل والكسل ما يكفي لأن يورط من يكتبها نفسه بأي تدخل في النصّ، فهو بائع متجول ولا يهمه ما الذي سيقال عنه في هذا الشارع او تلك الحارة! ان ما كتبه د. عبد الفتاح كيليطو عن القصيدة متعددة الأزواج، وهي قصيدة المديح التي تصلح لكل الممدوحين ولا تحتاج سوى الى تغيير الاسم، يقابلها في النقد المقالة المتعددة الأزواج ايضا، فثمة من كتبوا مقالة واحدة يعاد انتاجها عشرات المرات كي تصلح لكل القصائد ولكل الشعراء. * * * * * * * * * * احيانا نقول لمن خلعوا أوهامهم ومشوا حفاة منها على الجمر... كان الله في عونكم، واحيانا نقول طوبى لكم، وفي الحالتين يبدو لنا من تحول الوهم لديهم الى صدفة سلحفاة فعزلهم عن العالم وتحول من بيت الى قبر.. كما لو انهم محرومون من لحظة الاكتشاف وعودة الرّشد، لأن من استطاع ان يحتفظ بأوهامه في هذا الجحيم الارضي وبعد ان سال نخاع الاطفال في الشوارع وتحول كوكبنا الى خوذة فولاذية تدور حول رأس الجنرال الذي يرتديها هو كائن يعيش ولا يحيا، على الأقل بذلك المعنى الذي أراده اليوت عندما سأل نفسه والملايين الذين يعبرون الجسر تحت ضباب فجر بارد: أين هي الحياة التي أضعناها في العَيْش؟؟؟؟ عن القدس العربي
|