الرواية العربية لم تعد تغري بالقراءة
كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الأحد، 26 ديسمبر، 2010 | 0 التعليقات
برهان الخطيب
الرواية العربية لم تعد تغري بالقراءة (1/2)
قبل أيام، تحدث الروائي برهان الخطيب، بدعوة من الصالون الأدبي العربي في العاصمة البلجيكية، عن راهن الرواية العربية، هنا نص بحثه، فيه يحلل ويناقش علاقة الأدب الروائي الجدلية بالثقافة والسياسة في بلاد العرب، ويستعرض روايات وأسماء معروفة اليوم في الساحة الأدبية، مستكشفا دلالات بعيدة لمواضيعها وتنوعها.
راهن الرواية العربية من راهن الثقافة، من راهن السياسة، في ديارنا وخارجها، لتداخل هذي الميادين، لارتباطها جميعا بوشائج، محفزة لتقدم أو لتراجع عام. واضح، من الناحية العددية في الأقل، إن الرواية العربية تنهض اليوم بجهود عدد كبير من الكتاب، من موريتانيا والمغرب والجزائر والسودان ومصر إلى السعودية والعراق وسوريا ولبنان، مثل تايتانك في بحر عريض، بمواجهة ثلاجة طافية من الشؤون العامة.. المواجهة في ظلام ونور أيضا، ملامحها البارزة:
1 تعقد أو سهولة الإبحار، أقصد النشر هنا أو هناك.
2 شباك الانترنت، سعتها أو ضيقها، لهذا الإبحار أو ذاك.
3 غياب وحضور الطابور الخاص، أعني النقد، داخل سفينة الرواية وخارجها.
4 المحفزات، من أين ولأي من ربابنتها تُمنح، وأيٌ يُكبَح.
5 الأمسيات والمؤتمرات الأدبية، مَن يدعو إلى شاطئه، ولمَن الإرساء ممنوع والعتب مرفوع.
6 الكاتب، الربان، مدى استقلاليته في اختيار اتجاه الإبحار، نوع الركاب، أعني مواضيع الرواية.
7 الغزو الجليدي، أقصد الثقافي، روعةُ الإبحار فيه، ومخاطرُه.
8 مؤسسات الرصد، مؤسسات الثقافة، حكومية وغير حكومية، دورها لتوجيه دفة قيادة كاتب ورواية.
9 استراتيجية الإبحار وتكنيكه، أي الكتابة وعلاقتها بالفضاء الفسيح، بمحيط الإبحار، بدولة ما.
10 ظاهرة الربابنة الإناث، المزاحمات لطاقم إبحار قديم، يأخذن قارئهَن إلى أعالي البحار أم يغرقنَه في الحب والقيل والقال؟
ويمكن إضافة أحد عشر واثني عشر للمحيط الذاخر بالظلام والنور والتحديات والشجاعة والمغامرة.
هكذا يبدو راهن الرواية العربية من خارجها؛ ومن داخلها يمكن لمراقب تتبّع ما إذا كان مازال لها مواضيع مشتركة، أو أنها تشظت إلى روايات وقصص قطرية لكل منها همومُها ومزاياها. من خلال متابعتي المتواضعة وجدت مشتركا لها، لما يمكن أن نسميه رواية عربية، وخصوصية أيضا لها في آن، لو أُخذت منفردة. المشترك آت من التحديات المتشابهة التي تواجهها، والخصوصية من طريقة معالجة تلك التحديات، حسب ظرف كل بلد، وكل كاتب.
حرية المرأة الواسعة مثلا في سوريا ولبنان أبرزت كثرة من الكاتبات، يدلين كما شئن بدلوهن في مشكلة المرأة، بينما تعاملت الكاتبة السعودية مع هذه القضية بأناة، فيما تكاد هذه القضية تضيع عند الكاتب والكاتبة العراقية، لغرقها التام في مشكلة البلد الكبيرة العامة، إلخ. بنظرة إلى الأمس القريب نرى إن مشترك القصة والرواية العربية كان منذ الخمسينات ومازال نزعة تحرر من استعمار وبقاياه، تجاوز ثقل عادات بالية، طموح إلى حياة معيشية وجمالية أفضل.
وأكثر اشتركت القصة العربية في الستينات.. بانتفاضها على الواقع، شكلا ومضمونا، قبيل هزيمة حزيران 1967، فكأن الهزيمة جاءت لتستبق أو لتصادر بوادر تغيير متوَقع، مهدت لظهوره الحركة الأدبية الفعالة في منطقتنا منذ أوائل الستينات، تغييرا امتد من الثقافة إلى السياسة، فإلى ردة فعل سلبية من السياسة، لفقدان تفاهم الساسة، نحو الأدب والمجتمع، ارتجاعا لازال ظاهرا في تشرذم وتراجع شبه عام. ثم نشط الأدب آنذاك شعرا وقصة، أفرز في ردة فعل مؤثرة ظاهرة أدب المقاومة.
وأيضا جاء تسيب السبعينات السياسي والاقتصادي، ثم حربا الخليج الأولى في الثمانينات والثانية، وخُرب الأدب العربي الحديث ثانية، بموضوعة الانفتاح غير المدروس والحرب. ومنذ غزو العراق، بل وقبله أيضا في التسعينات، تميزت القصة العربية بتبلور مواضيع جديدة، أولها احتداد التصادم الثقافي، تصادم القديم والجديد، موضوعة المرأة، ثم موضوعة غزو العراق، موضوعة الهجرة، التي أنتجت في ذاتها أدب الغربة. وما زالت القصة، الرواية، تلخص إيجابيات وسلبيات النفس والأمة، تعرضهما لنقد، في محاولة لرأب صدع تحدثه السياسة غير الوطنية عادة في حياة الناس، لسوف نتأكد من ذلك حين ندخل ونتفحص غمار نصوص قصصية مكتوبة في العقد الأخير، والقليل قبله.
ويغدو طبيعيا التساؤل لماذا ذلك التأثير السلبي للسياسة في الوطن العربي على الإبداع خاصة والحياة الاجتماعية عامة؟ لماذا الفوضى؟ الرد يحضر تلقائيا، لعدم نضج الإرادة الوطنية وتشرذمها، لغيابها، لتغييبها، لتراجعها بانشغالات فوق طاقتها أحيانا، كل ذلك ينعكس على العقل الجمعي، على الثقافة والأدب، على الكتابة، على النشر، على تثمين ما ينشر، على الترويج لهذا وذاك، هنا وهناك.
في هكذا جو يَحقن الإعلام المنوَّع والمطوَّع بدن مجتمعنا بمنشطات أيضا، كتلك المستعملة لتكبير عضلات، لتبدو ثقافتنا فنطازية مستقبلية، ومنها ذلك التنوع للروايات على رفوف المكتبات من كل الوطن العربي. في كل بلد عربي الآن روائيون، قدامى أزهرتهم تربتهم فأشاعوا أنسا في المكان، وجُدد، براعم، لهم طموحات بلا حدود. جميعا تطلعوا إلى الأفق، معذبين بنوء تصحر راهن في منطقتنا، بعصفٍ محتملٍ ظاهر.
إنه نوء يُجابه بتحدٍ، لحفظ الجذر، وباستجابة.. تخزِّن ما يأتي من بعيد، بأوراق خضر تحكي وتحاكي التقاء الجديد بالقديم، في سعي لاكتساب الهواء والنور والماء، أي الخبز والحرية والتلاؤم مع المحيط. الكتّاب الأحدث راحوا يركزون على الجنس والفردية، والأعرق تمسكوا بالقيم والمجتمعية، في مجابهة عامة، لذات المواضيع التي شقت الساسة والعامة، على طريقين، نحو الشرق، وآخر نحو الغرب.
الروائي، لديمومة وتداخل صراع الخير والشر على الأرض، تميز بعقل تصالحي، بخطاب تحاوري، التنويري نختلف عليه مع غلبة نزعة الهيمنة حاليا، هكذا نرى الروائي يذيب في إبداعه مختلف الهموم الخاصة والعامة، الجذرية والجوية، مغمضا عن تناحرها غالبا، كما سمحت موهبته، كما احتمل من غضب النوء ونعمته، للحصول على استقرار لروايته، داخل العاصفة. إنما في ضغط من اتجاهين وأكثر تَضمُر خصوصية كاتب، يُحجَّم إلى مقاس صغير، في هذا تنبيه لا شكوى، لأنه بالضغط أيضا تُصنع نفائس، وليس حريا بمجتمع إعادة صياغة نفسه ليُرضي تطلعات كاتب، بل على الكاتب العمل لصياغة خطابه متلائما مع تطلعات مجتمعه وتغيّر حاصل في الذائقة والجماليات.
في هذا الحال يصبح هامش الاختلاف أيضا صغيرا بين كاتب وآخر، إلاّ ندرى، والمواضيع.. حتى الكبيرة تصغر، حتى لو ُرسمت أمام مَشاهد فسيحة. لكن تبقى العبرة بفحوى العمل ومستوى التناول والأداء. ننتظر إذن أو ظهرت روايات محطات الباص الملقاة إلى سلة مهملات بعد وصول الراكب. أيضا ذلك ظرف لمنازلة مواضيع كبيرة عامة، خارج تأطير سائد، وخانات وفهرسة لا بد منهما، لمؤثرين في الوسط الثقافي، لفهم ما يجري والتعامل معه، لمصلحة معينة.
المواضيع الصغيرة ليست مواضيع الحب والعلاقات العائلية مثلا، ولا الكبيرة موضوعات التاريخ فترات التحول والانعطاف. كل المواضيع يمكن أن تكون صغيرة أو كبيرة بطريقة معالجتها. الكاتب وسعة ثقافته وموهبته مصدر المواضيع الصغيرة والكبيرة. لا النفس المغلقة، ولا التاريخ المفتوح، يصنع المواضيع.. صغيرة أو كبيرة. وهنا أؤكد بأن رقي السرد وتكاملَه، من أول إلى آخر سطر لنص، هو المعيار، لكنه أيضا طريقة التفكير.. لا التفكير كله. إذن السرد وحده، مهما كان عاليا، لا يصنع رواية جيدة. كل مستلزمات الرواية الجيدة ينبغي توفرها في نص ليكون رواية عالية.
وهي كثيرة من تكامل الشكل إلى توظيف التفاصيل في السياق بضرورة، إلى تصاعد البناء، وغيره، قد تجد من ذلك 50 أو 70 أو 80 بالمائة في راهن الرواية العربية، وما زالت تعلو وتعلو. ذلك العلو ليس مصادفة، بحتم الترابط العضوي بين الجذر والأغصان والثمار، بين الكاتب ومحيطه، نحن نشهد تحولا وارتفاعا لمتوسط الأداء الروائي، إنما نحو الفردية والوطنية شبه المغلقة، بموازاة تحولات أخرى في البنية الاقتصادية والفكرية لهذا البلد أو ذاك على حدة، وفيها مجتمعة، ولو نسقت هذه البلدان فيما بينها أكثر، التعليم والطرق والتجارة والسياحة والمواطنة، أسوة بالاتحاد الأوربي في الأقل، ثم بينها وبين المحيط، علت أسرع وأعلى. حرارة الأرض ترتفع؟ يعني في كل مكان. أفكار ووسائل جديدة للتواصل تظهر؟ يعني تزحف من المراكز إلى الأقل حضارة. ليس معقولا إذن حبس القارئ العربي والروائي في مجال وطني وهو مفتوح، أو ينبغي أن يُفتح، على مجال جغرافي وتأريخي أوسع.
الكتابة هي تنظيم الفوضى، فوضى الأحاسيس، فوضى العقل والواقع.
في فلوريدا، بمزرعة تجريبية، رأيت ثمارا مكعبة، لها ذات الحجم ودرجة اللون، وشجيرات عمودية، متراصة، مشنوقة بخطاطيف من أعلى، تستهلك نورا صناعيا، تشرب الرطوبة رذاذا مبثوثا بحسبان، كما يُجنى منها بحسبان، على ديدن مصانع يابانية، بلا عادم، إلاّ الأقل. أيضا رأيت حيث كنت أشجارا متراصة كالجند، لها ذات الارتفاع، ذات تسريحة الأغصان والأوراق، كأنها تلاميذ مدرسة نموذجية، في زي موحد.. وكما ُقولب ذلك الزرع والشجر، كذلك يُقولب هنا وهناك بشر بعسكرة، وكتّابٌ بامتثال، لمؤسسة أو غيرها بديل عن كنيسة، عن مسجد، في حملات لن يمكنها تجنب التشهير، إذ تحوِّل الإبداع إلى تبشير، وتعبئة للرأي.. لقبول متغيرات لم تُهيأ لا أرضنا ولا غيرها لاستنباتها المرير.
والكلام في العموميات له حسنة الإحاطة بما لا يحاط، وله سوءة القبض على هباء.
لننتقل إذن من مكان الرجع إلى النبض، نتحسس راهن الرواية بوضوح أكبر.
في المكتبات العامة لأوروبا، السويد خاصة، حيث كنت، نجد كتبا عربية كثيرة، دراسات، روايات، إصدارات منطقِتنا وافرة على الرفوف، خاصة المكتبة العالمية وسط ستوكهولم، كذلك مكتبات الضواحي، استعر خمسين كتابا في اليوم لا بأس، والانتقاء هنا غير عشوائي، بنظرة يمكنك معرفة حال السوق الأدبية في منطقتنا، مؤسف طبعا تسميتُها بالسوق، لكن ها أمامنا ماركات أقصد أسماء معروفة وغير معروفة، إنما يبقى معيار الاختيار تلمّس النسيج الروائي، اقرأ صفحة صفحتين تعرف يستحق الكتاب الاستعارة والاقتناء، أو الأفضل تركه للواجهة والفناء. بالفحص تتبدى كثرة منها دُبِّجت لملء فراغ، في عالم يصبح ضيقا، غير أن سالك الطريق يتبين خطوَه، حتى بين ضباب وغبار، في النهاية يرى سماء القصة العربية بدأت تلمع بالنجوم.
القصة في المغرب تسطع
ثمة مختارات من قصة المغرب لصدوق نور الدين بعنوان "المنتقى" شملت الرواد وبعض الجدد، تستحق الثناء، يرى قارئُها ثمة للكتاب المغاربة ما يجمعهم مع أخوتهم المشارقة، باهتمامهم بالهم السياسي، بالاجتماعي، بالوطني، وأيضا ما يميزهم عنهم، بتركيزهم على موضوعة الذات، والبحث عنها، والنكوص غالبا في تعبير عنها بجدوى، نتيجة صلابة محيط خارجي لا يفتح آفاقا رحبة. بالتالي يصبح البحر في وجدانهم المعادل الموضوعي للتغلب على الإحباط، لكن لا يُستسلم له، منه يُستهلهم التفاؤل رغم الصعاب. أيضا لا تخلو روحهم من فكاهة المتوسط طبعا، ونزاهة، وقيم ايجابية، مع نزعة تحرر واضحة، تجعلهم يغلون في قدر، يواجهون عالمهم بإدراك متوازن واقعي. يقول الصديق محمد عز الدين التازي في قصته: خرب هذا العالم من زمان، كل بكارات الرجال والنساء مفترعة، والريح لم تعد مساعدة في لقاح الشجر، فقد أثقلت بغازات الآزوت "ص 64 المنتقى" حتى يقول: لو لم تكن لك براءة لما بقيت في هذا العالم.
إذن الكاتب المغربي ما زال يعوّل على مواجهة الشر المستفحل، بالخير الغريزي فيه.
ولعل تلك فكرة تبدو غير واقعية، في عالم صعد محتالون إلى سقفه. هنا مشكلة معضلية، دائمة. هل نقاوم الشر؟ وكيف؟ الخير نفسه قد يصبح شرا في منازلة مع الشر! أيضا مقاومة الشر بإهماله لا تثنيه عن غيه، مقاومة غاندي السلمية هل تأتي بأكلها دائما؟ خيارات هذه، في زقاق شبه مسدود. ذلك موضوع تأمل متشعب طويل. لكن القصة المغربية لا ترتفع اليوم بمناقشات فلسفية كما باحتضانها تفاصيل الواقع اليومي للناس البسطاء والصعود عليه ومعه. خذ أنموذجا لذلك قصة الرائد عبد الكريم غلاب الرائعة "شامة" وكيف يقدم لنا تلك الإنسانة التي كتب عنها وجعلها بسطور قليلة ماثلة في ضمائرنا.
كذلك قصة عبد الجبار السحيمي، وكيف حول حادثة صغيرة عن اعتقال شخص بنقلة فنية في النهاية إلى حادث كبير عام. أيضا قصة إدريس الصغير، ومحمد صوف عن الكاتب الذي لا يُعرَّف سوى بالمتسكع، وغير ذلك. وما زالت القصة والرواية المغربية ترتفع مع نزول كاتبات وكتاب جدد إلى المعترك الأدبي، كفاتحة مرشيد التي كتبت "لحظات لا غير" رواية أكثر من مقبولة، قُدمت على صحيفة العرب الأسبوعي برحابة قبل أشهر، كذلك سمعنا عن رواية للشاعر محمد الأشعري صعدت إلى مباراة روائية وتصفية هذا العام.
الحرية أكبر للكاتبات الشاميات
تزايد عدد كاتبات القصة والرواية يظهر جليا في سوريا ولبنان، مع تمتعهن بحرية أكبر في هذين البلدين لممارسة العمل والهواية والكتابة، قياسا بأقطار عربية أخرى. ومع الانفتاح الواسع الذي يشهده بلدهن على الخارج، ومواجهة تحديات حضارية كبيرة بعقلانية، بحفاظ على تنوع وتصالح المجتمع، واستيعاب تلك التحديات في الإبداع بأساليب متنوعة، فيصيب من امتلك أو امتلكت رؤية فنية ووطنية، ويتعثر من دوّم ودار حول الذات، غير منتبه لعضوية الارتباط وضرورته بين المبدع ومجتمعه، كذلك حتمية استمرارية الجدل بينهما، بالأفكار. تنقطع تلك الصلة؟ تنقطع سلسلة الأدب المتصلة حلقة بأخرى، للإبداع والمبدع. ذلك لمسته في رواية تطلعت إلى الغرب، أقصد "هو في الذاكرة" للكاتبة بيانكا ماضية صادرة مؤخرا، كذلك في أخرى نحت نحو الشرق، أقصد رواية "كما ينبغي لنهر" للكاتبة السورية أيضا منهل السراج.
في كلتا الروايتين، على اختلافهما بالأجواء والمنحى، تمسكت الكاتبتان بالقيم المرنة، باعتبارها راعية لحرية المرأة، والبلد في آن، فحققتا لروايتيهما نجاحا فنيا ملحوظا. رواية بيانكا، رغم سمتها النسوية وموضوعتها الرومانسية على غرار "حب في باريس" وهي تدور في باريس، عن صحافية عربية، تُدعى لمهرجان هناك، هي كلام جميل عن مدينة وحبيب، صورة عاطفية لمشهد عريض، بتجاوز الذات إلى المحيط، ذلك عبر البحث عن جمجمة شهيد في متحف، وربما نجحت الكاتبة أكثر لو توصلت الصحافية، على خلفية نهضة بلد وأمة، إلى ضرورة استكمال التحرر، وهي أمنية الشهيد، على صعيد شخصي وعام. لكن ظهور محاور الرواية، الثلاثة، قارئة الرواية، كاتبتها، والجمجمة، كشخص واحد، في أصوات مختلفة، غير مترابطة، إلاّ برابط الذات مع ظلها، ذوبها بعض الشيء في مونولوغ فردي. ذلك وجدته في أكثر من عمل قصصي وروائي عربي، يعكس حالة مراجعة ذات، وصولا إلى ذات جديدة أعلى. النتيجة كاتب يحاور نفسه، أي مقال، رسالة غرام، في صيغة روائية.
عفوية الأسلوب من غير ضابط خارجي، عن شكل مدروس، لا تؤسس لفن. الرواية تقوم على النقض، لا التكرار. الدوران بغنائية حول الذات يخمد الموضوع، أكان ذلك في مجال ضيق، ولو تضمخ شِعرا، أو في فضاء وسّعه خيال. أمامنا هنا صحافية، في مقدورها جعل حتى منفضة سجاير موضوع قصة كبيرة، على مذهب تشيخوف، عند إطلاق الموهبة. لكن، بنكوص، بإغراء من الخارج، بالسرد من أجل السرد، تصبح حتى المواضيع التاريخية الكبيرة، المولدة لمئات المواضيع، تصبح فقيرة، غير ذات شأن، لنوع أدبي رصين كالرواية.
الصحافية برواية بيانكا تبقى جوار الفندق حيث نزلت، خشية التيه في المدينة، فهل لا خريطة لها في مكتب استقبال أو إعلام؟ وهي صحافية، فأية تجربة ورواية يمكن أن تصدر عنها في ذلك الحيّز؟ رواية فنجان قهوة؟! بطلة الرواية متحررة من بدايتها إلى نهايتها، لم تبق لنفسها إذن ما تتحدث عنه. ذلك أربك حيوية النص. لو تحررت البطلة بالرواية، أو في الرواية، لسُمع الصدى من ذلك أبعد.. مما يصدر عادة لحكاية حب صغيرة، تحدث كل يوم، ولم تعد باريس ولا غيرها تعبأ لها. تتوالى الخواطر حتى النهاية، حتى نقرأ: "لكن هل سيعجبها ما سأكتبه الآن؟ هل ستشتغل على الرواية كما سأشير لها؟ أم أنها ستبقيها كما هي، مدوّنة بألم الجراح؟" هكذا أنهت بيانكا روايتها، والأفضل أن أنهي تقديمي لها، كما أنهتها هي.
على طرف مقابل رواية منهال السراج عن فطمة وذكرياتها وأحداث حارتها ومدينتها المنتهي اسمها بتاء مربوطة، نفهم حماة، العنوان "كما ينبغي لنهر" أيضا فيه الكثير من الرمزية، كذلك أبو شامة بطلها، الذي ينشر بين الأهالي المصائب بسخاء، خارج قانون الفعل ورد الفعل، حتى يكاد الواقع القصصي يفقد إحداثياته، المكان، الزمان، الرؤية المبتكرة الكاشفة للخفايا، للناقص الذي يسبب ألم وخوف الناس. النص على أي حال حصل على ثالثة جائزة الشارقة، تقديرا على الأرجح لبعض تفاصيل الحياة اليومية فيها، ولكاتبتها التي رأت في حديث لي معها أنها كتبت بتلقائية عن تجربة مرة عاشتها دون أن تحاول اصطناع عقدة مفتعلة لها، وأنها قدمت أشخاصها كما هم في الحياة دون تزويق أو تحميلهم بأفكار فوق طاقتهم، هكذا أرادت لروايتها، أن تكون صادقة، وهكذا ظهرت لنا.
أي رواية لا ينبغي أن تكتفي بعرض الواقع كما هو، طبيعيا، يجب تكثيفه، إعادة تشكيله، كما الوطنية في ذاتها غير كافية، مطلوب أيضا استراتيجية لها، تحفظ مصلحة الوطن، كحياد نص، يتدخل في حياة الناس ليفض إشكالا، لا ليثيره، مع الإمساك فنيا بتلابيب القارئ منذ أول سطر، وإلاّ انعدم المبرر الضروري لتبنيه، لمواصلة القراءة. لكن لكلٍ طريقته طبعا في فهم وأداء مستلزمات الرواية.
أيضا لا يكفي جمال السرد وحده، التركيز على الجملة الأولى يبقى من الكلاسيكيات، ثم التدفق بانسيابية، نعم، لكن مناقضا ثم مصالحا نفسه. إن لم يفعل السرد ذلك نقضه القارئ ورماه جانبا، كذلك إذا لم تحضر المصالحة، وتعيد القارئ إلى النص، فالدحض، أو النقض، أو الرفض، فالمصالحة مجددا، هكذا يسير النص الروائي على قدميه، إذا عرج خذوه لمستشفى، لمؤسلب، لكن هذا لن يتمكن سوى أن يغير القليل فيه، الكثير يبقى موصولا بطريقة تفكير الكاتب، غيرت في هذه؟ غيرت كل النص. لذلك ليس كل مَن يريد أن يحكي حكايته له حق في سردها، في مستمعين. رغم ذلك حازت رواية منهل على إعجاب قراء ونقاد من منطقتنا وخارجها.
والقادر على نقض نفسه، تصويب رؤيته، مؤهل ليلبس عمامة السرد، ويا للعجب.. ليقدم جديدا! والجديد ليس بمعنى عدم وقوعه، أو عدم حدوثه، بل بمعنى وقوعه أو حدوثه بصورة غير التي نعرفها، كما أتكلم الآن مثلا وأنتم لا تدرون ماذا ستكون جملتي التالية، رغم احتمال تخمينها، إنما أشك في ذلك، لتجاوزي المحتمل بما بعده، ذلك يصنع الجديد ويجعله مقبولا. الجديد يمكن أن يكون مستلا من معرفة مألوفة، بطريقة العرض، من الذكريات.
رواية الذكريات شائعة اليوم.. لكنها تفتقد الكثير المهم.
الذكريات وحدها لا تحتاج كلمات لاستعادتها، الذكريات وحدها لا تصنع رواية فنية، فقط حين تُدخَل مختبر العقل وتُفكَّك، ُينقض فيها ويُصالح، تبدأ في التحول لمادة روائية، هذا غائب عن بال كثرة من روائيي مرحلة اليقظة العربية المنشودة اليوم. لذلك يصبح ممجوجا، في روايات حديثة، تكرار الكلام عن زوج مكروه، وأنوثة مضيعة في انتظار ما لا يأتي، وأب متسلط رمز لسلطة مطلقة، وقوة شخصية مُصادَرة من سلطة، وزملاء حشريين، وفراق وطلاق، وحبيب جلف وولف غائب، وغير ذلك من مواضيع الساعة الروائية القائمة، حيث تُركز السلبيات في جانب، الرجل أو السلطة غالبا، ويُغفل الجانب الثاني من المشكلة، المرأة، الذات المقابلة، الذات الخفية. الرافضون. تماما كما في السياسة، حين تُرمى كل الشرور على حكومة وطنية، ويُؤلَّه أشخاص منهم فالتون، معارضة ناقمة، لا منهجَ مستقبليا لها، أو حالم في قلب البلد دون حسبان مخاطر مهددة للكل، حتى ولو بالإطاحة بكل القيم، بدعوى تحرر مطلق.. تستهجنه حتى أوربا، لمعرفتها جيدا أن للحرية أيضا قيود.
التحرر صار نزعة، جزءا من مجتمعاتنا، وروايتنا العربية، يُحسن أخذه بنقد حصيف.
وموضوع تحرر المرأة، الأصغر، يمكن العزف عليه بنعومة أو صخب. في رواية هيفاء بيطار "امرأة من هذا العصر" لتحررها أبعاد فوق أوربية، لم تعد مقحمة على شرقنا، فما ترينا الرواية، من خلال تصرفات بطلتها مريم، التي تبدل عشاقها كمناديل من غير إثم، أن فيه حرية كما في أوربا نفسها، التي فيها محافظون ومتحررون، للحرية عندهم ضوابط أخلاقية، رغم ذلك، ورغم الحرية لمريم، نسمع هتافات عن حقوق الإنسان هناك، كأن الكمال هنا راسخ، والعقوق أرسخ هناك، ونسمع تكرارا عن جريمة شرف في سوريا والأردن، بينما تُهمَّش جرائم قتل العراقيين والفلسطينيين!
نركن الحرية وسعتها ومشاكلها للضمير، نقترب لمفهوم الكاتبة هيفاء عن التحرر، يتبدى بالرواية كأدب بورنو، كما عند كاتبة سورية أخرى هي سلوى النعيمي. تصف هيفاء في كتابها كيف تُضاجع بطلتها وُتقارع، دون أن تتساءل هل حرية المرأة مرتبطة بالجنس فقط؟ أم بشروط عديدة؟ ليس أولها تنظيم المجتمع ورقيّه اقتصاديا، ولا آخرها تحرره تماما من الهيمنة الأجنبية. الكاتبة لم تلامس ذلك، إنما أشارت مرتين، من باب العشم، إلى إن اهتمامها الشديد بالجنس مبعثه ربما تأثير فضائيات، تركز على الجنس، وقد تكون ضحية لذلك.. لا جلادة لذاتها، أو لغيرها، بالابتعاد عن ابنها، بل عن إدراك وتصميم "كبطلة النعيمي" إذ تعترف مريم بأن الرادع الأخلاقي لا يوجد عندها، وإن الأخلاق أكذوبة، وهي مهندسة جيدة، ولها ابن تحبه. إذن لتسقط كل الأطر حسب منهجها، ليخرج الدم منا ويسير خارج أوردته، ليعزف القلب ما شاء له من الضربات، لنأكل في اليوم عشرين وجبة بدل مرتين ثلاثة، إلخ..
هكذا الحرية على مدى بعيد عند متحررين أضاعوا بوصلتهم النفسية والوطنية. الآن ستوب!
كنت وعدت نفسي أن لا أناقش أحدا في أفكاره، حتى لو كان "بطلا" روائيا. على قول والدي: اللي ما يسوقه مَرضعه سوق العصا ما ينفعه. لأرجع إلى القيمة الفنية لتلك الرواية. تصاب مريم بسرطان الثدي، في كل جلسة علاج تستحضر ذاكرتها للأنس أحد عشاقها، كيف التقت معه، كيف افترقت عنه، في دوران حول الذات يتبدى أخيرا أنه لولا كلفة ورق الطبع لاستمر الاسترجاع حتى الصباح، واللوم كل اللوم عندها على الرجل، في أي إخفاق.
ذلك اللوم أيضا رأيناه في قصص السعودية زينب حفني "هناك أشياء تغيب" دون أن يساور أياً من الكاتبتين إن بعض اللوم قد يقع على بطلتهن، لسبب ما، بينما رجّح السرد نفسه وقوع اللوم حينا على هذه أو تلك، لانفلات عاطفي، لعدم سيطرة على الكلمات، وتقرأ لغيرهن وتشعر كأن الكتابة أمتُشقت سلاحا لتصفية حساب مع الرجل. صدقوني لا أكتب هذا لأني رجل، فأنا من أشد المناصرين لهن، إنما أتساءل: هل من حق كل من استطاع للنشر سبيلا فتح فيوض عاطفته، غضبه، وصبها دون حساب على عقول محبي الكلمة والتغيير، ذلك يغيرهم في النهاية، إنما في اتجاه مضاد لتفاهم ووئام بين الأنام.
هكذا هي فتنة الكتابة والمرأة، إذ تثير فتنة، في غياب الضبط والربط.
السورية المقيمة في باريس سلوى النعيمي تفتتح "برهان العسل" روايتها، الأصح اعترافاتها، هكذا:
هناك من يستحضر الأرواح، أنا استحضر الأجساد، لا أعرف روحي ولا أرواح الآخرين، أعرف جسدي وأجسادهم. وكلام على المكشوف عن مغامرات جسدها حتى تنهيها: لم أعش حكايتي فضيحة، ولا أكتبها فضيحة. الفضيحة كانت في السر. لم يعد السر سرا.
العقل عندها إذن هو الجسد، أبدلت الجزء بالكل، موضوعها طبي إذن، نفسي، أكثر منه أدبيا. ونحن الأدباء، أتباع الجمال، لا زلنا نراه كشيخنا شكسبير في الروح، كما في الجسد. أيضا موضوعها لغوي فلسفي خداعي، لا أقول خلاعي، هو امتداد لكتب العرب في الجنس وحياة البعض منا قديما وحديثا. فهل في ذلك بعض الأدب والفن؟ نعم.. ضمن ما يدخل في أدب التهتك وفنه.
لبنان التنوع لبنان الجدل
من لبنان لهنرييت عبودي قرأت "خماسية الأحياء والأموات" هنا خمسة أشخاص، أقارب وأصدقاء، امرأة رسامة، شاب خوان لزوجته، يتناوبون الحكي عن علاقاتهم، شائنة نعم لكن هي من واقع حياة البعض. الشكل الروائي تقليد لرواية "فونتمارا" ورواية "خمسة أصوات" التي اقتبست ذات الشكل، لا غضاضة في ذلك لو جوّدت الكاتبة فوق هاتين الروايتين، إنما لا يوجد عندها بناء تصاعدي، بل كلام في كل الاتجاهات، عبير تفكر يوجد عالمان، الواقعي الحقيقي، وعالم الكتب الوهمي. لها حق في ذلك، مع كتب النكوص. لكن عالم الكتاب، إذا كان جيدا، أكثر واقعية من أي واقع. ذلك يحيلنا إلى رفض دور نشر، قديما وحديثا، هكذا كتاب. كافكا عُِرف بعد موته. وأنا بعد موتي ربما أُعرف أكثر.
الترويج لكتب الوهم إذن قائم.. على مطابع وإعلام، ذلك مؤشر، على خلل في حياتنا الثقافية والسياسية، تصليحه يبدأ بإصلاح الساسة أم المثقف؟ مَن يصلح مَن؟ لو كان ذلك ما يزال ممكنا؟
نتيجة لوهم العثور على خلاص، خارج الإمكانيات الخاصة، يدور أبطال رواية هنرييت في متاهة بعيدا، حتى يتم العثور على حل مؤقت، في كسر قالب المتاهة نفسه، ويجدوا أنفسهم في متاهة أخرى، الفراق، الطلاق، المثلية، تقول نجلاء مبررة ذلك: أي معين من المحبة أنت يا حليم! 138 ثم تمعن في تغريب إنسانها عن نفسه، عن مجتمعه، بقولها: وهل الإنسان نبات حتى يحتاج إلى جذور! 139 وأما النتيجة فنراها: مازن يكره والده، بالتالي يكره دور الأب، زوجته تكره أمها، حتى العجوز الحكيمة تقول: غبي من يقاوم رغباته.
بتلك النماذج العابرة للرصانة تضعنا الكاتبة أمام مستقبل غائم، أقول عنه: أنا شخصيا مع الحرية الفردية، لكني ضد الانفلات الأخلاقي. احترام الذات والمقابل المختلف أعلى مراحل الحرية الشخصية، احترام هو بديل عن الدوران حول الذات، بتهتك، بذريعة لم يبق للكائن المعاصر مع سقوط الجهل والوهم غير تقديس ذاته، كأن الذات نقيض المجتمع والخير والصلاح!
نعم، الآخرون هم الجحيم، قال سارتر، ذلك لا يعني أنه أصاب، إنه خطأ انطلقت منه الكاتبة، ولا أقول الروائية، طرحت عبره نمط الحياة الغربية باعتباره خلاصا للشرقيين. إنما ليس كل الغربيين مرتاحين لنمط "بدلي أزواجك كما تبدلين أزواج أحذيتك" ولا كل الشرقيين ضجرين من حياتهم، وإذا ضجروا فبسبب معوقات من الخارج تضخم صعوبات الداخل وتعقدها. لذلك فإسقاط فكرة على مجتمع من خارجه ليس حلا.
نضج الروائي ضروري لنضج أبطاله، فليس كل من سوّد صفحات عن هذا وذاك صار روائيا.
وكثيرة هي الروايات العربية اليوم رغم عزمك على قراءتها لا تستطيع إكمالها، العيب ليس في قارئ دؤوب، بل في كاتب لا يجيد عمله، يكتفي بمعالجة شكلية، ويغفل عن العضوية.
أمامنا أيضا كاتبات لبنانيات مجيدات، سيطرن على اهتمام القارئ بفن عال، خذ سيدة الرواية أميلي نصرالله، نجوى بركات، هدى بركات، وغيرهن نموذجا لذلك.
أميلي نصرالله في قلب المشهد الروائي منذ أول عمل لها بداية الستينات. الراهن ليس ما صدر هذا العام فقط، بل الذي ما زال يُقرأ اليوم. "أيام" طه حسين مثلا تبقى من الراهن حتى بعد عقود، كإبداع غيره، قديم وجديد، كإبداع أميلي، ذات الروح العذبة المرفرفة على صفحاتها المشوقة إلى الأفق البعيد.
الطبيعة اللبنانية لعبت دورا كبيرا في تشكيل موهبتها وإبداعها، كذلك المجتمع المتسامح الذي تعيش فيه، وسعيها الدءوب وراء خصوصيات مواضيعها، خاصة في "الجمر الغافي" آخر ما قرأت لها.
تعود السيدة نزهة من الخارج إلى قريتها على سفح جبل الشيخ، عودة تذكر بزيارة السيدة، من فيلم لأنطوني كوين، لكن الفرق كبير بين العودتين، فالقرية اللبنانية في رواية أميلي لا تنقلب على نفسها كما بالرواية اليونانية، تبقى تمارس حياتها المعتادة، جاذبة إليها نزهة وما وراءها من عالم المهاجرين.
هكذا يذوب عالم الحداثة هنا في العالم الأصل، بقوة المحبة، ولا يتناقض معه. الرواية بمجملها عن قرية الجورة، تتفتح حياتها بحوارات أهاليها، عما كان لنزهة مع جبران، النبيل الذي أحبته، إلى زواجها بقريبه عبدالله لغناه، وهجرتها معه ثم عودتها من أمريكا بعد وفاته، لوصل ما انقطع مع جبران، لكنه يرفضها وتقع على شاب غيره، لنعرف قد تغير العالم إلى المصالح المتبادلة، بعيدا عن البراءة التي تمثلها الفتاة ليا، التي أيضا تزوجها عبدالله ثم طلقها سريعا، ليتضح في النهاية أنهما بقيتا باكرين لعنّته. الرمز واضح للا جدوى الهجرة، كرمز النماء والخصب والديمومة في الارتباط أخيرا بشابين من القرية.
المهم ليس الحكاية طبعا، بل كيف سُردت، أي ما تجيده السيدة أميلي نصر الله أيما إجادة. الغريب إن كتابها هذا صدر كـ "مجموعة قصص" وهو رواية من أفضل الروايات اللبنانية، رغم مأخذ صغير عليها، لبقاء نزهة، القوية، المقتحِمة، عانس ثلاثين عاما في أمريكا. هو مأخذ صغير طبعا، لاحتمال أن يحدث ذلك حقا.
طريقة أميلي في التدرج بعرض التفاصيل، إخفاء المهم حتى النهاية، الدوران على الأزمنة والأمكنة لاستكمال المشهد، عدم التركيز على شخصية معينة، الروح الشعبية لإبداعها، إلى الإحاطة بخلفية الحدث ونقلها لتكون مركز السرد، لهو تكنيك برعت معه السيدة أميلي كما السيدة نجوى بركات، حتى لتشعر ثمة قرابة إبداعية بينهما، ذلك ليس غريبا، نشعر هذه القرابة بين معظم الكاتبات اللبنانيات، كما بين الكتاب المغاربة لمسناها، كما بين العراقيين، والمصريين، وغيرهم من كتاب بلد واحد، من تأثير المناخ الاجتماعي والسياسي عليهم، الطبيعة، تقارب الثقافة، كل ذلك يترك بصمته في إبداع الكل، ثم كل موهبة بما حملت، تتمثل، تهضم، وتقدم عبقها الخاص، خافتا أو ساطعا.
نجوى بركات بروايتها "باص الأوادم" تجعل من سفر أفراد، بباص النقل العام، من شمال إلى جنوب البلد، حاضنة للمجتمع اللبناني بأسره، للحياة الإنسانية عامة، ما فيها من ميلاد وقتل، نبيل وشنيع، باطن وظاهر، إلخ.. وكأميلي هناك، تصور نجوى هنا في سعة وعمق، المرأة وشجونها، المهاجرين ومشاكلهم، القديم والجديد، المواضيع التي تواجه الوطن العربي برمته، كذلك تكشف عند الخاتمة عن مفاجأة، صعبة التصديق، عن رأس مقطوع، تحمله امرأة حامل معها، لذلك ما يبرره طبعا، شيئا فشيئا نرى نحن نعيش بيئة واحدة، نجابه نفس المشاكل، الحل أيضا يمكن أن يكمن وراء زاوية ونتصوره بعيدا، تؤكد ذلك نجوى بركات بسرد محكم، بحوار شيق، بتحليق فوق الأزمنة والأمكنة، وتقدم بانوراما روائية متنوعة، كذلك أبدعت في روايتها "لغة السر" عالما خاصا له إيحاءات عديدة، بلغة عالية مستوحاة من كتب التصوف، أقرب لتذوق الخاصة الباحثة عن الجديد والاستثنائي.
أما شقيقتها هدى بركات فقد حققت أيضا نجاحا بروايتها "أهل الهوى" ثم "حارث المياه" وغيرهما ونقلت روح الشعر إلى المقال، وجعلته فنا وعلما في كتابها البديع "رسائل الغريبة" الطافح بالروح اللبنانية الطيبة، فعل الرائدة أميلي بإبداعها. ولقد شاكستُ نجوى بسؤال عمن الأفضل منهما وردت بتجرد المبدع الأصيل، فيما تعززت قناعتي بأنهما معا، كأميلي أيضا، فخر لبنان الثقافي الكبير.
لنص حنان الشيخ استراتيجية واضحة، منذ البداية تقرر ماذا وكيف تكتب، ذلك ساعدها على مط حدث قصة قصيرة، ذهاب شخص إلى شاطئ، كما بقصة "البحر" المنشورة عام 1981 لتجعل منها عام 2003 مع العولمة المتمددة "رواية" بديباجة الناشر، عنوانها "امرأتان على شاطئ البحر" ولا شيء هنا غير امرأتين، من جنوب وشمال لبنان، على الشاطئ، مسيحية متفتحة، ومسلمة "متحررة".
لقد ذكرتُ، حدث القصة ليس دائما هو الأهم، بل كيف يحدث، على أي مستوى، على أي اتساع. ولو تركنا جانبا أيدلوجيا معّبرة عن مصلحة، تنفذ إلى نص بتفصيل صغير أحيانا، فلا تفسد فنيته، إذا كان فنيا، يبقى المطلوب هنا مع ضيق المجال قنص الملامح الفنية، لا الفكرية، لا الخاصة، كالموضوعة الفلسطينية، مشكلة المرأة، غزو العراق، ولشيوع خلط أو لصق قصة طويلة برواية، أقول القصة مختصرة الحدث والأبطال، الرواية أوسع.
هكذا لا تصنع تسعون صفحة عن امرأتين على بحر رواية مع قدرة الشيخ على ضخ تفاصيل بعضها ممل، خارج السياق، حتى لو دبج ناشرها على الغلاف أسطع كلمات عنها دعاية، كأن اختيرت ضمن لائحة أهم الكتب العالمية، ذلك يؤكد تفشي ظاهرة المبالغات والإقصاء، من عالم السياسة والفنون إلى عالم الأدب.
|