إتحـاد كتـاب الإنتـرنت المغاربـة |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
طليطلة هذا البرزخ الناعم... هل تستقبلني؟ |
|
|
طليطلة هذا البرزخ الناعم... هل تستقبلني؟
عزيز الحدادي
على هامش المؤتمر الدولي للفلسفة واللغة بإسبانيا:
'لا يهمني من أين أبدأ، لأن لدي عودة إلى هنا' كانت مدينة طليطلة هادئة في هذا المساء، تشبه تلك المدن المهجورة من سكانها، ربما لأنها لا تزال تحمل في قلبها ذلك الحنين، وذلك الأمل إلى أولئك الأحباء الذين هاجروها بدون عودة، ولم يتركوا إلا منازلهم وأطلالهم، وذكرياتهم التي تقذف بك في جحيم الماضي الذي يخيم بظلاله على الآن وهنا. لكن بمجرد ما تستيقظ طليطلة من سباتها تمنح للروح آفاق التجول في كينونتها من أجل القيام بحفر أركيولوجي في ذاتها. لعلها تتعرف على حقيقتها، وبخاصة وأن هذه المدينة تمنحنا الإحساس بالحميمية والقدرة على الإصغاء إلى نداء الوجود العربي الذي تحول إلى مجرد ضباب فارغ من المعنى. وأصبح عبارة عن كلمات محفورة في جدران الأنقاض، عشق الأنقاض باعتبارها دلالة على عظمة
الروح. فما الذي يجعلني أستحضر هذه اللحظات المنقوشة بحبر الزمن في بياضات الروح؟ هل يتعلق الأمر ببكاء على الأطلال بطريقة حديثة، أم أن الروح تسعى إلى تحقيق كمالها انطلاقا من تسكعها في عتمات تاريخها؟ بل ما علاقة هذه الشطحات الصوفية بالمؤتمر الدولي للفلسفة واللغة كفن للعيش الذي أحضره منكسرا، حزينا لأنني تركت بلادي وحيدة في مخاضها وآمالها في التحرر من الزمن الوسطوي؟ قد أكون مخلصا لوصية أرسطو التي تقول: قد نزحت عن موطني كمن لا حسب له، بيد أن الشعور بأن الفلسفة هي أعظم وطن ينتظر الفلاسفة بعد هروبهم من طغيان أوطانهم، يكفيني لأعيش نشوة الروح بالكينونة مع هؤلاء الفلاسفة الذين جاؤوا إلى مدينة طليطلة، لا من أجل الانتماء إلى الحنين وإيقاد نار العشق للأطلال، بل بغية الدفاع عن أطروحتهم واستعراض مشاريعهم العلمية وابتكاراتهم، وآفاق إبداعاتهم، باعتبارها تجليات لعظمة الروح، عندما تعتز بانتمائها إلى أمة حققت قوانين العظمة في الحاضر، ومنحت للعلم والمعرفة سلطة تفوق سلطة السياسة والتيولوجيا. نعم إن الغرب استطاع أن يهيمن على إمبراطورية الفلسفة والمعرفة، وأصبح يشرع قوانينه للمستقبل، لأنه يؤمن بأن أسرار العظمة لا تأخذ طريقها نحو روح الأمم، إلا بعد أن تتماثل الفلسفة إلى الشفاء، حين تغادر كهف العدمية وتنتفض ضد الفكر الوسطوي الذي يحكم على الناس من خلال إخلاصهم، أو عدم إخلاصهم للعقيدة. أما عندنا، فلا زال السخط يحل بالفلاسفة، وتهمة فقهاء الانحطاط تلاحقهم، وترمي كتبهم في النار، وتصادر آمالهم وأحلامهم وكشوفاتهم، وتتم مطاردتهم واضطهادهم من قبل الرعاع وحراس العدمية، خدام الاستبداد الأوفياء. يا لها من مفارقة عنيفة رافقتني طيلة أيام هذا المؤتمر، لأنني كنت وحيدا منفردا في صيغة الجمع، أحمل هموم وآلم أمة بكاملها حكمت على نفسها بالإقامة في العدمية والفكر الوسطوي، وحرمتنا من الحق في الفلسفة وعظمة الروح، ومع ذلك استطعت أن أمنح لهذا القدر الحزين نزعته الإنسانية، وأخذت عطلة من نفسي لأعلن لهؤلاء الأصدقاء بأننا لم نشيع جنازة الفلسفة بمجرد ما قمنا بتشييع جنازة آخر الفلاسفة، أي ابن رشد، على الرغم من أننا قمنا بذلك في جنح الظلام، وحملناه على ظهر دابة، واخترنا له إقامة أبدية في تربتهم، وكأننا كنا نخشى أن تستيقظ روحه، التي تخيف الأرواح الميكانيكية، كما يخيف ضياء الشمس بصر الخفاش. لقد أدهشتهم عندما قلت لهم بأن روح ابن رشد استيقظت من جديد عندنا لأن الليل كان طويلا وممتلئا بالأشباح لكن من حسن حظنا بأن شروق شمس جديد ورائع، قد جعلنا نعيش النهار، ونحتفل بعودة الفلسفة إلى مملكة الحقيقة الخالصة، هكذا عاد إلينا ابن رشد، بعد إقامة طويلة في النسيان يرافقه معلم الإنسانية أرسطو، وعدنا إلى فرحتنا، ومات الحزن في قلوبنا، وانتفضنا ضد أعداء النزعة الإنسانية. إنها الحقيقة التي تحررت من الوهم وفرضت نفسها على أمة بكاملها، بيد أن محبة الحكمة تحولت إلى طريق يقود إلى الإقامة الشاعرية والفكرية في الوجود، هكذا تحول الفيلسوف في المغرب الأندلسي من مجرد كينونة ملقى بها في الوجود، إلى مشيد لإقامته، ولإقامة الوجود في نفس الآن. لأنه بات يشعر بحسن الجوار، ذلك أنه من العيب أن يتغير ما هو أقرب وحميمي للوجود إلى ما هو أبعد ومغترب. إن ما تقترحه الفلسفة علينا اليوم هو أن نخلصها من هيمنة العلوم الوضعية، وميتافيزيقا التقنية، لأنها ولدت في تربة البحر الأبيض المتوسط، حيث يمتزج الشعر بالفلسفة، والأسطورة بالمعرفة، ولذلك فإنها تسعى إلى هذا الانتماء المشترك، هذا المحراب الأكثر حميمية للروح. اسمحوا لي إذا قلت لكم بأنني احترم إخلاصكم وبيعتكم للمعلم فيدغنشتاين، ولكنني انظر إليكم نظرة أفلاطون لأولئك السجناء الذين تعودوا على الإقامة في الكهف، وأصبح بصرهم يعتقد في ذلك الظل الذي تحدثه الأشياء بعد حجابها بالنار، أنني أجد نفسي المشارك الوحيد الذي فر من الكهف الأفلاطوني ولذلك لازلت أدافع عن الميتافيزيقا وعظمتها وقدرتها على ترميم روح الإنسانية، أما أنتم فقد أعلنتم الحرب عليها وأردتم إزاحتها، وربما ستحرمون أنفسكم من هذه الإقامة الشعرية التي أحملها في قلبي. إنها برء من الإفراط في الحزن. أجل أن الفلسفة ولدت في الفضاء المتوسطي، ولا يمكن أن تشعر بالأمان إلا في هذا الفضاء، كما قال لي ذات يوم جياني فانتمون ولذلك فإننا نتقاسم معكم قدر التطرف، لأنه إذا كانت التيولوجيا عندنا تحارب الفلسفة، فإن النزعة الوضعية تضطهد الفلسفة وتدمر الميتافيزيقا، على الرغم من أنكم تمنحون مكانة رفيعة للفلاسفة في حين أن أجسامهم النحيلة صارت ترمي في النار عندنا نزولا عند رغبة الفقهاء والطغاة والرعاع. والحال أن الآراء المختلفة والأسئلة العميقة استطاعت أن تجعل من هذا المؤتمر مؤتمرا للحوار الحقيقي الذي مكنه من تحقيق النجاح. وسيظل شاهدا على نداء تلك الفضاءات المشعة لجامعة كاستيا لامنتشا، التي أدهشتنا بهندستها وسمو عمرانها الذي يرمي بنفسه في أعماق هندسة ما بعد الحداثة التي تنفض الغبار على الأنقاض وتمنحها صورة معاصرة هكذا تم تشييد هذه الجامعة على تلك الأنقاض الوسطوية التي تركها العرب. ولعل صخب الأسئلة وعمق الأجوبة التي تداولها المشاركون في هذا المؤتمر قد أيقظت بصخبها هذه الجامعة من استراحتها، وجعلتها تساير جلسات المؤتمر التي تميزت بروح برغماتية تستنجد بالفلسفة من أجل إنقادها من أزمتها. فكلما اقتربت من طليطلة، إلا وابتعدت عنها ووجدت نفسي كذلك النسر المنكسر الذي يواجه العاصفة لوحده. هكذا قررت أن أرحل لأترك تلك الذكريات اللذيذة تنام في عمقها، وقد تأثرت كثيرا بالاستقبال والضيافة من صديقي الدكتور خيسوس باديلا الذي أشكره عميق الشكر على دعوته، وضيافته ومحبته التي يوزعها على الجميع، لأنه يعتبرها أعدل قسمة بين المشاركين في مؤتمر طليطلة، الرائعة التي ستنام في قلبي مثلما نامت في قلوب من هاجروها مرغمين. أنت وطني أيتها العزلة ولم يعد لي وطن سواك، طالما انتظرك، وسأتخذك رفيقة لي في هذه الرحلة التي تلاحقني كالظل، وقد تعودت على ذلك منذ أن أرغمت عبد الرحمن الداخل على العودة إلى أصله، على الرغم من أنه ولد هنا، وترك كل شيء إلا ضياء الشمس.
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|