إتحـاد كتـاب الإنتـرنت المغاربـة |
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
أزمة الثقافة العربية.. أو تزويج الوافد والموروث
د. حسن حنفي
لا يعني لفظ “أزمة” أي معنى سلبي. فالأزمة تعبير عن مجتمع في مرحلة انتقال وإعادة تشكيل، نهاية قديم وبداية جديد، مثل آلام الوضع. الأزمة دليل على الحياة والنمو والحركة. الجماد وحده هو الذي لا يتأزم. بل إن اللاهوت المسيحي جعل الوجود الإنساني كله يبدأ من أزمة Predicament. وأصبح لاهوت الأزمة أحد فروع اللاهوت المعاصر.
وليست الأزمة خاصة بالمجتمع العربي وحده. فلا يكاد يوجد مجتمع يخلو من أزمة. هناك أزمة في المجتمع الغربي، وأزمة أخرى في المجتمع الشرقي. توجد أزمة في الثقافة الفرنسية وتوجد أزمة أخرى في الثقافة الأميركية. إنما الرغبة في تعذيب الذات، وتضخيم العيوب بل وتبرير العجز والتي تدفعنا إلى إيهام أنفسنا وغيرنا بأن أزمتنا فريدة من نوعها، تستعصي على الحل، وتهدد الكيان، وتقضي على الوجود، وتحكم عليه بالانقراض.
أولاً: ماذا تعني أزمة الثقافة العربية؟
إن الوعي بالأزمة أولى مراحل تجاوزها بداية الإحساس بها وتشخصيها ومعرفة أسبابها ثم تحريكها من أجل استيعابها ونقلها من السلب إلى الإيجاب. ومن دون هذا الوعي تتخبط المحاولات، وترتجل الحلول، وتتعثر الخطى. إن خطوة إلى الوراء تسمح بالإدراك خير من خطوة إلى الأمام تؤدي إلى الهاوية. ويؤدي إلى الهلاك نطح صخرة أو حائط تسيل بعدها الدماء، ويسقط الشهداء والصخرة باقية، والحائط سد منيع لا يمكن اختراقه إلا بخلخلته من الأساس.
ولا يوجد وصف سحري لعلاج الأزمة بل هناك مسار طبيعي لها وتفاعل الإرادات البشرية معها. الأزمة مرتبطة بتكون المجتمعات بتحقق الإرادات الإنسانية الحرة المتصارعة، وبمدى القدرة والجهد والتخطيط لإدارة الأزمة. الأزمة والحل طرفان لعملية جدلية واحدة، أزمة ثم حل ثم أزمة جديدة ثم حل جديد. كما لا توجد أزمة أخيرة، ما دامت المجتمعات حية تقوم وتسقط، تنهض وتأفل، كذلك لا يوجد حل نهائي وإلا كان الموت نهاية الحياة. لا يعني إذن حل الأزمة نهايتها وبالتالي استرخاء الجميع. فلا تكاد تنقضي أزمة حتى تظهر أخرى. تلك طبيعة الحياة. أزمة الجوع تتلوها مشاكل الشبع، وأزمة الفقر تتبعها الآثار السلبية للترف. وأزمة القحط تتلوها عيوب الوفرة. تلك سنة الحياة، التحدي والاستجابة التي تنقلب إلى تحدٍ جديد تتطلب استجابة جديدة. وتنهار المجتمعات ويقضى على الأمم في الوقت الذي تنتهي فيه الاستجابات مع بقاء التحديات أو تنتهي التحديات مع بقاء الاستجابات.
تثير كلمة “أزمة” إلى الحالة الراهنة للثقافة العربية. ولما كان الحاضر ما هو إلا تراكم للماضي فإنه يصعب تحليل الأزمة الراهنة من دون الرجوع إلى جذورها في الماضي، خاصة أن هذا الماضي ما زال حياً يؤثر في الحاضر قدر تأثير الحاضر المباشر نفسه. ولما كانت الأزمة الراهنة للثقافة العربية هي أيضاً تشخيص لمستقبل الثقافة العربية. فالأزمة في التاريخ، الماضي حاضر، والحاضر مستقبل. فكيف يتم المسار حتى لا يكون الحاضر ماضياً ولا يكون المستقبل بعيد المنال؟ وما زلنا نرصد هذه الأزمة، ونحاول علاجها منذ فجر النهضة العربية الحديثة. منذ حوالي مائتي عام وحتى الآن نقوم بالتشخيص ثم نقدم الحلول. فلا يصدق التشخيص، وتتعثر الحلول. وما زال كل جيل يقدم محاولاته، جيلاً بعد جيل. وقد يظل الأمر كذلك لعدة أجيال قادمة. ولا يعني بقاء الأزمة واستمرار محاولات حلها أنها تستعصي على الحل أو أن محاولاتنا فاشلة، وأن هناك محاولات أخرى أفضل منها. فقد قدمت الكثير في تحقيق آمال الأمة من حيث الاستقلال الوطني والتنمية والتصنيع. وتتلخص هذه الأزمة أو هذا التحدي في بداية مرحلة جديدة في حياة جديدة للأمة أي المجتمع عبر التاريخ. فأزمات المجتمع إنما هي في الحقيقة أزمات انتقال من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى. المجتمع كائن تاريخي، والعلوم الاجتماعية علوم تاريخية. من ثم كان التحليل التاريخي للظواهر الاجتماعية هو السبيل إلى معرفة الحالة الراهنة للظواهر الاجتماعية المتحركة بتحرك المجتمع في انتقاله من الماضي إلى المستقبل.
ولقد مر المجتمع العربي في قلب الأمة الإسلامية بمرحلتين سابقتين. الأولى من القرن الأول حتى القرن السابع الهجري، نشأت فيها العلوم القديمة، وتكونت واكتملت ثم توقفت وانهارت. وكانت ذروة هذه المرحلة في القرن الرابع الهجري عصر المتنبي والبيروني والتوحيدي وابن سينا، العصر الذهبي للحضارة الإسلامية. وهي المرحلة التي ظهر ابن خلدون في نهايتها ليؤرخ لها واضعا سؤال: كيف قامت الحضارة العربية ولماذا انهارت؟ والمرحلة الثانية من القرن الثامن الهجري حتى النهضة العربية المعاصرة، سبعة قرون أخرى، مرحلة التدوين الثاني. حلت فيها الذاكرة محل العقل. فشرحت ولخصت وحصلت وجمعت في عصر الشروح والملخصات، ودونت الموسوعات الكبرى في العصر المملوكي والذي انتهى بسؤال شكيب أرسلان: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ أو بسؤال أبي الحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ قد نكون إذن على مشارف مرحلة ثالثة لمستقبل الثقافة العربية، عصر الإبداع الثاني للحضارة الإسلامية والذي بدأت إرهاصاته منذ فجر النهضة العربية الحديثة. فترات الانتقال من مرحلة إلى مرحلة لا تعد بالسنوات بل بالقرون حيث تنتهي مرحلة وتبدأ أخرى، قرن في نهاية مرحلة، وقرن في بداية أخرى.
وتتكون الثقافة العربية من مكونات رئيسية ثلاثة: الموروث القديم، والوافد الحديث، والواقع المعاش بصرف النظر عن نسب التكوين لكل منها. فما زال الموروث القديم يفكر فينا ولنا، وما زلنا نحن نفكر فيه وبه. فلا فرق بين التراث الحي والثقافة المعاصرة. ما زال التراث القديم مستمراً في الوعي الحاضر، ولم تحدث قطيعة معرفية بيننا وبينه كما حدث في الغرب إبان عصر النهضة. ما زال التواصل هو الغالب بين الماضي والحاضر وليس الانقطاع بالرغم من محاولات النخبة لتأسيس مجتمع علمي علماني، “الدين لله، والوطن للجميع”. ما زال تصورنا للعالم والذي تحدده ثقافتنا المعاصرة هو التصور الموروث له: الله موجود، والعالم مخلوق، والنفس خالدة تنال الثواب والعقاب جزاءا على الأعمال وطالما أن الإجابات جاهزة فلا سؤال. أما الثقافة الوافدة المعاصرة عن الغرب فهي عنصر مكون ضعيف، لا يتجاوز سطح الثقافة إلى الأعماق، ولا يظهر إلا عند النخبة، ولا يتعدى عمقه التاريخي أكثر من مائتي عام منذ بدايات ترجمة الطهطاوي عن الغرب في القرن الماضي. ومن ثم كانت ثقافتنا المعاصرة في عنصريها المكونين الرئيسين، الموروث والوافد، ثقافة عرجاء، ساق طويلة في الموروث، وساق قصيرة في الوافد، أو ثقافة عوراء عين ترى عن بعد في الموروث، وعين ترى عن قرب في الوافد. أما العنصر الثالث المكون للثقافة المعاصرة فهو في الواقع الذي تعيشه هذه الثقافة وتتأزم فيه، تلتحم به أو تنعزل عنه، تخرج منه أو تؤثر فيه، توجهه وتغيره أم يوجهها ويغيرها، تتحد به وتشكل خطابها فيه أو يفرض هو خطابه عليها. ومن ثم يتعدد الخطاب العربي المعاصر إلى ثلاثة أنواع: الخطاب الموروث للشيخ المعمم، والخطاب الوافد للأفندي المطربش، والخطاب الإنشائي للضابط المقبع الذي حل محل “الخواجة” الأوروبي وإن اختلفت شكل القبعة ولونها. يمثل الموروث الماضي بعمقه التاريخي وثقله الفعلي. ويمثل الوافد المستقبل البعيد المحاصر، ويمثل الواقع الموروث الغائب بالرغم من التأزم والمعاناة التي قد تصل إلى حد الكفر به، الخروج عليه أو الهرب منه. وبالتالي تكون العناصر الرئيسية الثلاثة المكونة للثقافة العربية المعاصرة هي أيضا عناصر تكوينية في الزمان التاريخي، الماضي والمستقبل والحاضر.
ثانياً: النقل من التراث القديم
تتجلى أزمة الثقافة العربية أولا في نقل التراث القديم، المكون الرئيسي فيها، وتكراره وترديده بالرغم من تغير وتبدل المرحلة التاريخية كلها في الماضي إلى الحاضر. فالتراث ابن عصره، ينشأ في ظروف خاصة بمستوى ثقافي خاص باجتهاد رجال ذلك العصر. ويتغير بتغير الظروف وتبدل المستوى الثقافي وباجتهادات الأجيال. نشأ التراث القديم ولم يسبقه تراث آخر غير التراث السابق، ديانات شبه الجزيرة العربية وثقافاتها قبل الإسلام، الحنيفية دين إبراهيم، والمسيحية والوثنية، والشعر العربي، وبعض ما تخللها من ثقافات فارس والرومان في جنوب العراق وفي شمال الشام. نشأت الثقافة الأولى في عصر الفتوحات والانتصارات على الشعب المجاورة شرقا وغربا، في آسيا ضد سيطرة الشرق والغرب على المنطقة الوسطى من العالم. نشأت العلوم القديمة وبها صدى لهذا الانتصار. وأُسست العقيدة الدينية على محور رئيسي، الذات والصفات والأفعال، الله الواحد ليس كمثله شيء والذي يقدر على كل شيء. وأُسس علم أصول الفقه حتى يحتوي النص القديم، الكتاب والسنة، كل الوقائع الجديدة فتتم سيطرة النص على الواقع، والأصل على الفرع. ونشأت علوم التصوف حتى نصل إلى الغاية، وتملك العالم، ملتفة إليه من الخلف أو هبوطاً إليه من أعلى، خطوة إلى الوراء وخطوات إلى أعلى، البعد عن القليل ونيل الكثير، ترك كل شيء من أجل أخذ كل شيء، من الفناء إلى البقاء، نعيم الصوفية الذي لو علمه الملوك لقاتلوهم عليه بالسيوف. ثم تم استيعاب ثقافات الأمم المغلوبة في ثقافة المنتصر عن طريق الترجمة. ثم أُسست علوم الحكمة على هذا الانتصار المنطق، علم معياري يعصم الذهن من الخطأ، والطبيعيات تقود إلى الإلهيات، ويتربع على المدينة الفاضلة الله أو النبي أو الفيلسوف أو الإمام. فالكل يعني الشيء نفسه. وتم تدوين النصوص، القرآن والحديث، حتى لا تضيع، وتبقى قوة الوحي في التاريخ معيار الصواب والخطأ، الشرعية واللاشرعية. ثم وضع التفسير السني ثانية والقدوة حتى لا ينحرف تفسير هنا أو سنة هناك. وأخيراً ثم تقنين الفقه سلوكاً للناس جميعاً عبر كل العصور حتى يتم ضمان الأمن والنظام والسيطرة على سلوك الأفراد والجماعات. ونشأت العلوم العقلية الرياضية، والطبيعية التجريبية للسيطرة على العالم، العقل في مواجهة الطبيعة من أجل التوحيد بين حقائق الوحي والتجارب الطبيعية. ونشأت العلوم الإنسانية، اللغة والأدب والجغرافيا والتاريخ لتقنين قواعد الكلام، وتوحيد مقاييس الجمال، ومعرفة الأرض، ورصد قوانين التاريخ التي تثبت نهاية الوحي وتحقق الكمالات في آخر رسالات الأنبياء في يد خير أمم الأرض.
والآن تغيرت الظروف والأحوال كلية، وتبدلت المرحلة التاريخية بأكملها من القرون السبعة الهجرية الأولى إلى القرون السبعة الهجرية الثانية، من النصر إلى الهزيمة، ومن الفتح إلى الاستعمار، ومن الغالب إلى المغلوب، ومن الرائد إلى التابع. فهذا التغير يحتم إبداعاً ثقافياً جديداً من مبدعين جدد. فإذا كانت المرحلة الأولى قد أبدعت بلا نموذج حضاري سابق باستثناء ثقافات العرب ودياناتهم السابقة على الإسلام فإن الإبداع الآن ونحن على مشارف الفترة التالية لديه نموذج سابق وهو إبداع القدماء. وبالتالي يسهل الإبداع لأنه إبداع على إبداع، وتفكير على تفكير وقراءة على قراءة، وتأويل على تأويل. وقد يصعب الإبداع إذا ما تقيد بإبداع السابقين، واعتبر الإبداع ذا نمط واحد لكل العصور.
نشأت العلوم القديمة من المركز كعلوم دوائر، كلها تنبع من المركز وهو النص بالإضافة إلى الواقع الخارجي السياسي والاجتماعي الذي قرأ نفسه في النص. أما الآن فلا تنشأ علوم من نصوص. النص ذاته ظاهرة اجتماعية، سلطة معرفية، يكون هو ذاته موضوعاً لعلم تحليل النصوص. أما علم أصول الدين الجديد فليست غايته تأسيس نظرية الذات والصفات والأفعال وتأسيس الوجود على القمة بل إعادة فهم العقيدة كإيديولوجية سياسية حتى يعود إلى التوحيد فاعليته في المجتمع والتاريخ كما يقول سميح القاسم مؤولاً صفات الله العشرين:
وكأننا عشرون مستحيلا في اللد والرملة والجليل
وإذا كان القدماء قد تركوا بعض العلوم نقلية خالصة مكتفين بالعلوم العقلية الخالصة والعلوم العقلية النقلية فإننا في حاجة إلى تحويل العلوم النقلية الخالصة إلى علوم عقلية أو عقلية خالصة. فيمكن قراءة علوم القرآن القديمة طبقا لحاجات العصر: المكي والمدني هما التصور والنظام، وأسباب النزول هي أولوية الواقع على الفكر، والناسخ والمنسوخ هما التطور والزمان. ويمكن أيضا بدلا من التفسير الطولي للقرآن، سورة سورة وآية آية، التفسير العرضي أو الموضوعي للقرآن بتجميع الآيات في موضع واحد حتى يمكن معرفة رؤية الإنسان للطبيعة والمجتمع والتاريخ. ويمكن إعادة نقد الحديث ليس ابتداء من السند كما فعل القدماء بل ابتداء من المتن وتحكيم الحس والعقل في صحته. ويمكن إعادة كتابة السيرة لبيان الجانب الإنساني في حياة الرسول. ويمكن إعادة كتابة الفقه من جديد وإعطاء الأولوية للمعاملات على العبادات من أجل تأسيس فقه للتطور والتنمية والزراعة والصناعة والإنتاج والعمل. ويمكن أخيرا إعادة اكتشاف العلوم العقلية والطبيعية من أجل معرفة كيف تحول الوحي إلى تصور عقلي طبيعي للعالم وكيفية تأسيس الوحدة بين الوحي والعقل والطبيعة. وكما تشكل التراث القديم طبقا للصراع السياسي وأفرزت كل قوة سياسية تراثها، تراث الحاكم والغالب وتراث المحكوم المغلوب، كذلك يفرز عصرنا ثقافة جديدة تعكس الصراع السياسي بين الحكام والمحكوم، وبين الغالب والمغلوب. إن الصراع الدائر الآن بين السلطة والمعارضة لم يتأصل بعد في تراثنا القديم المكون الرئيسي للثقافة العربية. فبينما تعتمد السلطة على فقهاء السلطان الذين يعتمدون بدورهم على تراث السلطة، تستعمل المعارضة التراث الغربي الليبرالي والماركسي والقومي المعاصر فتنعزل عن الجماهير، وتظل الجماهير تحت هيمنة تراث السلطة وفقهاء السلطان، وتعاني المعارضة الحصار والتكفير.
كانت الثقافات المجاورة للشعوب المغلوبة في الفترة الأولى ثقافات اليونان والرومان غرباً وفارس والهند شرقاً. ونشأت العلوم القديمة في هذه البيئة الثقافية القديمة. وقد تغيرت الظروف الآن، وأصبحت ثقافات الغالبين الجدد، الاستعمار الحديث، هي الثقافات الغالبة على الشعوب المستعمرة. وهذا يحتم إعادة النظر في استخدام ثقافات القدماء التي لم يعد لها أي رصيد الآن واستبدال ثقافات الغرب الحديث بها. لم تعد للغة الثقافات القديمة ولا مصطلحاتها أي صدى في نفوس الناس، بينما تردد صدى للغة المحدثين مثل الحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتقدم والتنمية المستقلة وحقوق الإنسان. لقد قبل القدماء تحدي الثقافات القديمة واستوعبوها تلخيصاً وشرحاً وتمثلاً في جيلين ثم تأليفاً وإبداعاً لعدة أجيال بينما استوعبتنا الثقافات الغربية الحديثة وظللنا ننقل منها ولم نتحول بعد من النقل إلى الإبداع بالرغم من مرور أربعة أجيال منذ القرن الماضي حتى الآن.
ثالثاً: النقل عن الغرب الحديث
وتتجلى الأزمة الثانية في الثقافة العربية في النقل عن الغرب طول فترة النقل التي استمرت طوال النهضة العربية الحديثة على مدى مائتي عام. لقد تأخرنا في الإبداع حتى الآن مع أن نقل القدماء استمر جيلين، حنين بن اسحق واسحق بن حنين، القرن الثاني الهجري. ثم الإبداع الفلسفي عند الكندي، فيلسوف العرب، في النصف الأول من القرن الثالث. وكلما قل النقل زاد الإبداع حتى انتهى النقل كلية في القرن الخامس وعم الإبداع. ونحن ننقل منذ عصر الطهطاوي حتى الآن، وما زالت مشاريعنا القومية للثقافة النشر أو الترجمة، النقل عن القدماء أو النقل عن المحدثين. فعز التأليف وندر الإبداع الفكري. مشروع الألف كتاب الأول نقل، ومشروع الألف كتاب الثاني نقل، “عالم المعرفة” نقل، و”الثقافة العالمية” نقل. والنقل خلط بين المعلومات والعلم. المعلومات تحصيل ما فات، والعلم قراءة جديدة لما بين السطور أو إبداع نص جديد.
وتتمثل مخاطر النقل عن الغرب في اعتبار الغرب مصدر العلم والمعرفة. هو ينتج ويبدع والحضارات الأخرى تنقل وتستهلك، فتصبح العلاقة بين الحضارات علاقة أحادية الطرف، من المركز إلى الأطراف، ومن المعلم إلى التلميذ مع أن الحضارات في التاريخ قد تبادلت الأدوار يبن النقل والإبداع، بين الاستهلاك والإنتاج. وكانت الحضارات الأوروبية في العصر الوسيط الأوروبي تستهلك بينما كانت الحضارة الإسلامية في الوقت نفسه تبدع. كان الغرب هو التلميذ وكنا نحن نقوم بدور العلم.
ويؤدي النقل عن الغرب أيضا إلى اعتبار الغرب نموذج الثقافة العالمية، بمقاييسها وعلومها وتصورها للعالم وقيمها، وعلى كل ثقافة تبنيها نظراً للتباين بين المستويين. الثقافات المحلية المتعددة مصيرها إلى الانقراض، وتستبدل بها الثقافة الأوروبية الواحدة. وهذه في الحقيقة أسطورة فلا توجد ثقافة عالمية واحدة إلا من أجل الهيمنة والسيطرة من خلال أجهزة الإعلام ودور النشر والأقمار الصناعية أو بالقوة على مقدرات الشعوب (استراليا، العالم الجديد، جنوب أفريقيا، جنوب شرقي آسيا). كل ثقافة لها ظرفها التاريخي الذي نشأت فيه، بما في ذلك الثقافة الغربية ذاتها.
كما يؤدي النقل عن الغرب إلى انتشار الثقافة الأوروبية خارج حدودها الطبيعية وجعلها نقطة جذب لثقافات الأطراف التي تصبح مجرد مستقبل لهذا الإرسال المستمر الفياض. لذلك كانت حركة الترجمة استمرار من اللغات الأوروبية إلى اللغات غير الأوروبية، في اتجاه واحد. عرفت ثقافات الأطراف كل شيء تقريبا عن المركز بينما لم تعرف ثقافة المركز عن ثقافة الأطراف إلا القليل. فالترجمات محدودة استثناء أعمال المبدعين المهاجرين من الأطراف إلى المركز المكتوبة بلغات المركز حتى يتم الاعتراف بهم كجزء من الثقافة العالمية. وتتم إعادة توزيعه ونشره وتقييمه ثم إذاعته إلى الأطراف وترجمته إلى لغاتها التي هي في الأصل لغات المبدعين الوطنية. وقد أدى هذا السيل الفياض من ثقافة المركز إلى ثقافات الأطراف إلى أن يلهث المثقفون وراء المركز للحاق به ومعرفة الجديد فيه. فانقضى الوقت في النقل، ولم يبق شيء للإبداع. وكيف يتم الإبداع والنقل لم يتم، والتحصيل لم يكتمل؟ ومهما ازدادت السرعة في اللحاق فإن المسافة تتسع، وسرعان ما تصاب الأطراف بالصدمة الحضارية وترضى بقدرها المحتوم في التاريخ أو على هوامش التاريخ، نقل الإبداع، واستهلاك لا إنتاج، وتبعية للآخر وليس تأكيدا للذات. ولا حل لهذه الأزمة ذاتها وهذا الوضع الشاذ إلا تحجيم ثقافة المركز، وردها إلى حدودها الطبيعية حتى يفسح المجال لإبداع ثقافات الأطراف داخل حدودها ثم الامتداد الطبيعي لها خارج حدودها حتى يأتي وقت تتعادل فيه الثقافتان من حيث النقل والإبداع في علاقة متكافئة، أخذ وعطاء من كل جانب. عندئذ تقوم ثقافة عالمية جديدة على تعددية الثقافات والاعتراف بالخصوصيات الثقافية.
وأخيراً يؤدي النقل عن الغرب إلى زيادة حدة التغريب في الثقافة العربية وخطورة الوقوع في الاغتراب الثقافي وطمس الهوية الثقافية مما يؤدى بالضرورة إلى الولاء للغرب. فالثقافة مقدمة سياسية وشرطها. فيؤدي ذلك بطبيعة الحال إلى رد فعل الحركات السلفية لترفض الغرب برمته وتتهم المثقفين بالتبعية للغرب وبالولاء له وتخوينهم ثقافياً وسياسياً. ولما كان الموروث أكثر عمقاً في الثقافة الشعبية من الوافد استطاعت الحركات السلفية ضم الجماهير إلى صفها وحصار المثقفين والانقلاب عليهم. فتشق وحدة المثقفين الوطنية وتنقسم الجماهير إلى قسمين متصارعين متضادين، لا بقاء لأحدهما إلا بفناء الآخر. وبدلا من أن يكون الداخل في مواجهة الخارج يصبح الداخل في مواجهة نفسه مما يزيد الخارج هيمنة وسيطرة، مرة يغذي هذا الفريق، ومرة يدعم الفريق الآخر، في سعادة تامة لهذا الاقتتال بين الأخوة الأعداء.
وقد قامت محاولات لرأب الصدع، ورتق الفتق بين العنصرين المكونين للثقافة العربية المعاصرة، الموروث والوافد، بالرغم من التباين في عمقيهما التاريخي، أربعة عشر قرنا في مقابل قرنين، واتساعهما الجماهيري، الجماهيري مقابل النخبة. نشأت هذه المحاولات على عدة أجيال. ظهرت في جيل الرواد الأوائل ثم خلال تبني الليبرالية نمطاً للتحديث للمجتمعات العربية والإسلامية في التيارات الرئيسية الثلاثة في الفكر العربي الحديث: الإصلاح الديني عند الأفغاني، والاتجاه العلمي العلماني عند شبلي شميل، والفكر الاجتماعي والسياسي عند الطهطاوي. وتمت قراءة الليبرالية ومثل التنوير: العقل والعلم والحرية والتقدم والمساواة، والتعددية الحزبية، والنظم البرلمانية، والدستور، في التراث القديم عند الرواد الثلاثة على درجات متفاوتة. فهي لا تعارض التراث القديم عند الأفغاني، وهي قيم منه بلغة جديدة عند الطهطاوي، ويمكن تأسيسها فيه عند شبلي شميل. وفي الأجيال التالية انفكت عرى هذه الوحدة بين الموروث والوافد لصالح الموروث في الإصلاح الديني بعد هزيمة العرابيين في 1882 عند محمد عبده، وبعد الثورة الكمالية في تركيا في 1923 عند رشيد رضا، وبعد الثورة المصرية في 1952 عند سيد قطب. وانفكت لصالح الوافد في الفكر السياسي الليبرالي عند أحمد لطفي السيد بالعودة إلى اليونان، وعند طه حسين في “مستقبل الثقافة في مصر” في الارتباط بثقافة البحر الأبيض المتوسط خاصة فرنسا. وأيضاً انفكت لصالح الوافد في الاتجاه العلمي العلماني عند فرح أنطون ويعقوب صروف وسلامة موسى كرد فعل على التيار الإصلاحي السلفي. كما ارتد بعض الليبراليين إلى السلفية مثل خالد محمد خالد، وبعض العلميين العلمانيين إلى الدين مثل إسماعيل مظهر. وأثر فريق آخر الإبقاء على ازدواجية العلم والدين عند زكي نجيب محمود عن أصالة وصدق وعند مصطفى محمود عن تجارة وإعلان.
ثم أتى جيلنا محاولاً إبداع فكر جديد يخرج من ازدواجية الموروث والوفد. يأخذ مذهباً من الغرب بناء على المزاج الشخصي أو التكوين الفلسفي في الخارج أو الحاجة الداخلية للثقافة العربية من دون الاكتفاء بعرضه في أصوله الغربية بل بتأصيل لهذه الجذور في الثقافة العربية الإسلامية القديمة أو المعاصرة حتى يبدو المذهب خارجاً من الموروث وليس آتياً من الوافد. فهناك شخصانية إسلامية (الجباني)، ومثالية إسلامية أو “جوانية” (عثمان أمين)، وإنسانية ووجودية عربية (بدوي، زكريا إبراهيم)، وماركسية عربية (العروي) تحولت في الممارسة إلى اشتراكية عربية. كما تم تطبيق اللسانيات الحديثة في اللغة العربية (اللسانيون المغاربة) أو المنطق الحديث في علم الكلام (طه عبد الرحمن) أو التفكيكية في الثقافة والفن العربي (الخطيبي).
وتبنت محاولات أخرى مناهج غربية في العلوم الإنسانية أيضا إما بالمزاج الشخصي أو التكوين الفلسفي أو الاقتناع العلمي مثل المنهج المادي الجدلي (الطيب تيزيني، حسين مروة، صادق جلال العظم، غالب هلسا) أو المنهج الظاهراتي (أدونيس، حنفي فيما يقال) أو المنهج التحليلي (زكي نجيب محمود) أو المنهج البنيوي (الجابري). صحيح أنها تمثل مظاهر إبداع وقراءات لمذاهب، وتطبيقات لمناهج، ولكنها تظل محدودة الأثر، قاصرة على النخبة، ولا تكون ثقافة عامة. أصحابها نجوم للثقافة والمجتمع، ينالون شهادات التقدير والجوائز والمناصب الرفيعة في الداخل والخارج ومن الأنظمة السياسية كافة يميناً ويساراً. وهي محدودة علمياً لأنها تفصل المذهب أو المنهج عن بيئته الثقافية التي نشأ فيها وظروفه التي خرج منها ثم تطبيقه على تراث آخر له ظروف مغايرة وإشكالات مختلفة. تقع في فصل الجزء عن الكل مرتين، مرة في الثقافة الغربية، ومرة أخرى في الثقافة العربية كما تفعل الخاطبة بتزويج هذا الفتى الوافد مع هذه الفتاة الموروثة. ولا تتجلى هذه الأزمة باعتبار الغرب ليس فقط مصدراً للعلم بل أيضاً موضوع للعلم، ليس فقط دارساً بل أيضا مدروساً. ليس فقط ذاتاً بل موضوعاً، وتأسيس “علم الاستغراب” تصبح فيه الأنا ذاتاً والآخر موضوعاً. وعلى هذا النحو يمكن إثبات تاريخية الثقافة الغربية، نشأتها وتطورها، تكوينها وبنيتها، بدايتها ونهايتها، تمفصلاتها ومراحلها، ماضيها ومستقبلها في تقابل مع مسار الأنا في التاريخ.
اقرأ المزيد : أزمة الثقافة العربية.. أو تزويج الوافد والموروث - جريدة الاتحاد http://www.alittihad.ae/details.php?id=80022&y=2010#ixzz16SG6Szfh
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|