مؤسسة البابطين ورحلة الإبداع القومي والإنساني
الدكتور عبد المنعم قدورة
شاءت المقادير ان حضر وفد من مثقفي هنغاريا عربا ومستشرقين الدورة الثانية عشرة دورة خليل مطران ومحمد على ماك دزدار لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للابداع الشعري وذلك في سراييفو في الفترة من 22/19 أكتوبر 2010. في الطريق الى سراييفو كان المستشرقان المجريان فودور شأندور وهرتشر لايوش يشيران الى ألق الدبلوماسية المجسدة في السيد محمد خلف السفير الكويتي السابق في المجر عندما اقترح دعوة وفد من المجر مجسدا بذلك تواصل حضاري وانساني ومضفيا على الفاعلية المقصودة الرداء الانساني والكوني. والواقع ان ثمة الكثير من الانطباعات والآراء التي يمكن للباحث ان يبسطها بعد أربعة أيام من الندوات التي حفلت بمعلومات جديدة عن شاعر لبناني عربي عاش في مصر وشاعر بوسني عاش في بيئة متباينة مع كينونته، فأبدع الشاعران أدبا انسانيا تلهج الأفئدة وتبذل الجهود الخيرة لتعميم مضامينه الانسانية في الحياة الدولية المعاصرة وعليه فقد رافق الدراسات الأدبية عن الشاعرين ندوة فكرية أصاب القائمون على المؤسسة باختيار عنوانها «حوار الحضارات في نظام عالمي مختلف: التباين والانسجام». ولا يستطيع الباحث سوى التوقف عند تلك الارادة الخلاقة التي تحكم عمل مؤسسة جائزة البابطين ارادة شيخ عربي جليل انتدبته العناية الالهية لرسالة في الحياة قل الذين رغبوا بتنكبها. انه الشيخ الدكتور الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين الذي نهج واسس من ثلاثة وعشرين عاما مؤسسة تعنى بالابداع الشعري حرصا منه على لغة الضاد واعتزازا بالموروث الثقافي للحضارة العربية الاسلامية مطورا لعمل مؤسسته لتضحى رسالة تنشد حوار الحضارات والأديان وتعلي شأن الثقافة كثروة قومية وإنسانية. في دورة سراييفو حضر أكثر من خمسمئة مفكر وشاعر وباحث عربي وأجنبي والقيت كلمات الافتتاح الدالة على توجهات المؤسسة وقلق الحاضرين من المصير الانساني بفعل ما يموج بالعالم اليوم من هجوم وتفتيت للعرى الجامعة. افتتحت الدورة بكلمة من رئيس المؤسسة الشاعر عبدالعزيز سعود البابطين وفخامة الدكتور حارث سلايجتش، وممثل رئيس الوزراء معالي المستشار راشد الحماد نائب رئيس الوزراء للشؤون القانونية ووزير العدل ووزير الاوقاف والشؤون الاسلامية في دولة الكويت، ومعالي أمين عام الجامعة العربية، وسماحة السيد عمار الحكيم رئيس المجلس الأعلى الاسلامي في العراق، والدكتور فاروق تشاكلوفيتنا مدير جامعة سراييفو كبير الأساقفة آليساندرو دريكو ممثلا لقداسة البابا وفضيلة الشيخ الدكتور أحمد عمر هاشم ممثلا لفضيلة شيخ الأزهر فسعادة السفير جوزي أغوسطو ليندغرين ألفيس ممثل حكومة البرازيل في هذه الدورة. وكان ضمن الحضور أيضاً فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي وما يمثله من وسطية وبعد عن الغلو والمشير عبدالرحمن سوار الذهب الرئيس السوداني الأسبق الذي زهد بالسلطة وأعطاها لمن يعشقها. كانت كلمة الشاعر البابطين حاملة في ثناياها الأبعاد الانسانية المبتغاة وناضحة بأفق انساني لطالما جسدته دولة الكويت من استقلالها لهفة وقلبا مفتوحا للعروبة والاسلام بمضامينها الخلاقة والانسانية. فمن استمع الى البابطين لابد أنه تذكر الكويت واحتضانها لمبدعين عرب اغنوا الثقافة العربية والانسانية وتذكر المجلس الوطني للثقافة والعلوم. ومجلة العربي التي أدت ولاتزال دورا تنويريا نهضويا تنتظرها الأجيال العربية المتعاقبة ينذكر بزوغ الفكر القومي ورحابته في الكويت واحتضان شعبها للقادة الفلسطينيين ومفكرين عرب من أحمد بهاء الدين وأحمد زكي الى هاني الراهب وناجي العلي واضرابهم من سجل التاريخ أنهم ثروة قومية وانسانية يتمنى المرء وهو يستمع الى الشيخ البابطين ان يفي العرب شعب الكويت ما قدمه منذ الاستقلال الى الشعوب العربية من علم وتعليم وجامعات وارهاصات فكرية وصمود وثبات وشخصيات فكرية تركت بصمتها على المشهد الثقافي العربي الراهن. أقول بعدما أصاب الشاعر البابطين حيث أكد في كلمته في الافتتاح: «أتينا الى هذا البلد هذه المرة لنتعلم درسا ً جديدا نحن بحاجة ماسة اليه، هذا البلد الذي تتجاور وتتداخل فيه الكثير من الاديان والعرقيات في اطار واحد، والذي دخل في تجربة مريرة، وخرج منها ليتعلم ألا أحد بمقدوره ان يلغي طرفا آخر، وأن القوة التي تتباهى بقدرتها على اخضاع الآخرين واستئصالهم هي قوة عمياء لابد ان تقع في مهواة وأن تستأصل نفسها، وأن القوة الخلاقة هي التي تسعى الى حماية الآخرين والدفاع عنهم بالدرجة نفسها التي تدافع بها عن حقوقها ووجودها، خرجتم من هذه التجربة المريرة وتعلمتم منها ان بلدكم هو لجميع أبنائه، وأن التنوع عندما تسود العقلانية والتسامح هو ثراء للبلد وليس تهديدا لكيانه وأن لا شيء سوى السلم الاهلي هو الذي يضمن للجميع حقوقهم وكرامتهم وازدهارهم». واذا ما رصد الباحث من تكريم ثقافي لشاعر عربي وبوسني وما يحمله ذلك من انفتاح انساني عبر عنه بطباعة ارثهما الشعري ودراسات وابحاث تاريخية نقدية عن حياتهما فان العاصمة البوسنية سراييفو شهدت وقائع ندوة حوار الحضارات، وذلك حين قدم الأستاذ عبدالعزيز السريع لمئات الحاضرين من مختلف الجنسيات العربية والعالمية المتحدثين في الجلسة الأولى من الندوة التي حملت عنوان «نحو مقاربة جديدة لأطروحة صراع الحضارات» والتي أدارها الشيخ ابراهيم الدعيج الصباح من دولة الكويت، وتحدث فيها أ.د.فنسنزو سكوتي مؤكدا ان ثقافة الشك تعبر عن مرونة التصميم وليس انعدام الأمن. قاصدا بالمرونة تغيير نظرتنا للواقعية على الرغم من الصعوبات التي تتضح من خلال الاختبارات التي جرت لتحقيق الأبعاد المتعددة للواقعية (سواء أكانت للأشخاص أم للسياسات)، مضيفا ان الأخطاء لا تضع في اعتبارها عناصر الشك التي تخص وضوحنا ونحن نمر يوميا بخبرات لتفرقة أوجه المجتمع وتعميم سوء الفهم العميق والمنافسات. وأكد ان القضية التي تواجهنا اليوم أكثر من أي وقت مضى هي المعرفة وكيفية التعامل معها مطالبا بأن ننظر للعالم على انه الفناء الخلفي لدينا. وان تكون لدينا ارادة التغيير والتكيف مع الواقع باعتبارها شرطاً ضرورياً للتغيير وأن نعرف مدى خطورة تقسييم البلدان الى فقيرة ونامية ومتقدمة وتأثير تلك الانقسامات بصورة كاملة لتجاوز كل المحاولات التي تستهدف اشعال أوزار الحروب وعداء الانسان لأخيه الانسان، فكأن المؤتمر بعدد المشاركين فيه والجنسيات التي يحملونها هو بذاته مقصد للحوار وكاشف عما تكتنزه الشخصية العربية من توق للعيش المشترك والكرامة الانسانية فالفاعلية الشعرية والفكرية التي رعتها مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين هي بذاتها حامل لفكرة ان البشر ينتمون الى مناطق او دوائر مختلفة لكل منها خصوصيتها الحضارية ونظامها الثقافي والقيمي المختلف والذي يتعين احترامه والتعامل معه على أساس التكافؤ والندية ونبذ ادعاءات التفوق العنصري أو الحضاري. نزعات الاستعلاء وطموحات السيطرة او الهيمنة والتي وصلت الى درجة استعمار «الآخر» ونهب ثرواته وربطه بأشكال مختلفة من روابط التبعية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية تحت دعاوى مختلفة، كالتحديث «الرسالة الحضارية» وحقوق الانسان وسواد المعايير المزدوجة وترويج الادعاءات الهجينة عبر احتكار وسائل الاعلام وتسويق احداث ومنظومة مسبقة الصنع لخدمة هدف سياسي لا يخدم قيم الحوار. لقد قدمت الأبحاث التي القيت في سراييفو اضاءات جديدة على حياة الشاعرين مطران ودزدار وأثارت قضايا الاستشراق حيث كان الراحل ادوار سعيد حاضرا من خلال عرض اراثه في الاستشراق ونزعاته بيد ان الجدة كانت في اضاءة جوانب من حياة الشاعر خليل مطران وكيف انه كان يتقن الانجليزية وقام بترجمة شكسبير دون لغة وسيطة وعرض لنتاجه المسرحي بحيث أهله ذلك ليكون أول مدير للمسرح القومي في مصر كانت دورة سراييفو حافلة بالمعطى الأدبي والانساني كأن عذابات المدينة المترامية أمام النظر ألقت بظلالها داعية الجميع الى التفكير بالمصير الانساني. ولعل الفنانة غادة شبير ذكرت الجميع بتدفق صوتها العذب بأن الفن الأصيل لا يموت وان ما يسري من فن هابط سيذهب ادراج الرياح تماما كما يتطلع الشاعر البابطين من تعميم الفكر والثقافة الأصيلة والتي سيكون موعدها الدورة القادمة في دمشق احتفاء بأبي تمام وعمر أبو ريشة، فهكذا تورد الأهداف الكبرى وهكذا يتطلع المرء الى ان يكون المال العربي في خدمة الثقافة الأصيلة فالحريصون على المصير القومي يعرفون ان الجبهة الثقافية هامة وحيوية اذا ما تنبهوا الى ما يحيط من مخاطر بهذه الجبهة عبر تسويق كل ما هو هابط وهجين في الثقافة والفن وبرامج الفضائيات والمواقع الالكترونية. لقد أثارت مؤسسة جائزة عبدالعزيز البابطين للابداع الشعري أمام الحضور لندوة سراييفو الكثير من اللواعج والهموم التي يواجهها العرب ولعل كل محب ومولع بالثقافة العربية يردد ان يمنح الله تعالى المقتدرين من رجال الأمة العزم والارادة على التماهي مع رؤى وتطلعات البابطين الثقافية. كما يتمنى المرء ان يترك لرجال الكويت وقادتها السانحة لجعل الكويت مركزاً ماليا واقتصاديا دون ادخالها في تفاصيل تجاوزتها تاريخيا عندما حملت الهموم القومية الكبرى وكرست ريادة في الرؤى والانفتاح والتواصل الانساني وجسدت معالم وأفق نهضوي للمرأة العربية والحياة الديموقراطية. الدكتور عبد المنعم قدورة هنغاريا
|