http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  في وداع 2010
 
في وداع 2010
كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الجمعة، 24 ديسمبر، 2010
جوائز وألوان من الابداع
ما بين غونكور والقشتالية ونوبل وأورانج
 
في وداع 2010
رلى راشد
الرواية، في منطق الكاتبة الأميركية باربرا كينغسولفير، فعل اتهامي. تروّج في مؤلفاتها لرسائل رفيعة المثالية في شأن البيئة والفقراء والعاملين ولاجئي اميركا الوسطى والأمهات العازبات وحقوق الهنود. غير ان استئثار روايتها "الفجوة" (دار "هاربر كولينز") بجائزة "اورانج برودباند" 2010 الممنوحة لأفضل عمل تخييلي بالانكليزية، تكتبه سيدة، لم يحلّ بسكون. ترافق الاعلانَ عن فوزها مع الانكماش كصدى لخيبة أمل وقورة عبّرت عنها طائفة من النقاد وحفنة من القراء على السواء
عدّاً من مكان محدد، ليس ثمة مجال للعودة، ينبغي عندذاك ان ننطلق. تلك كانت فحوى نصيحة الكاتب التشيكي الجميل فرانز كافكا. بيد انه سيسمح لنا مع انفضاض 2010 بأن نداوي لحظة الفراق بمحاولة رصد لأهم ما خبّأه في جيبه الأدبي. نبدأ جولتنا مع محطة أولى تعرّج على الجوائز ووقفات الذكرى والوداع المؤلم لأصوات كتابية استثنائية، فضلاً عن ثلة من القضايا شغلت الاوساط الأدبية في عواصم العالم، على ان تليها محطة ثانية حيث نجول على ابرز اصدارات العام المندثر في اكثر من لغة وعلى مقابلات اجريناها في بيروت. أما بوصلتنا في هذا الفعل فاقتناع بأن أعوام الحياة ليست هي الاهم وانما حياة الأعوام.
جوائز أدبية
صارت الاسبانية آنا ماريا ماتوتي ثالث سيدة تنال "جائزة ثرفانتس" الأكثر رفعة في الاداب بالقشتالية في اعقاب ماريا ثامبرانو ودولسي ماريا لويناز. تبلغ ماتوتي الخامسة والثمانين، وفي هذه السن أقرّت الجائزة بمنجزها ويشمل اثنتي عشرة رواية ومجلدات قصصية عدة جمعت اخيرا في عنوان "باب القمر". تشكل "جائزة ثرفانتس" الامتياز الذي كان يعوز الكاتبة بعدما حصدت جميع الجوائز الاخرى تقريبا. نالت جائزتين وطنيتين مخصصتين لأدب الاطفال وجائزة الآداب الوطنية وجائزة الكتابة الوطنية وتلك المرصودة للنقد ايضا بفضل "الابناء الموتى" ناهيك بـ"نادال" عن "الذاكرة الاولى" وجائزة "ثيوتات" في برشلونة من طريق قصة رائعة بعنوان "نهاية الجميلة النائمة الحقيقية". تكوّن عالم ماتوتي السردي المسكون بالغرف المقفلة مبكرا، ذلك انها أتمّت اولى نوافذه بعنوان "المسرح الصغير" في السابعة عشرة ليأتيها بجائزة "بلانتا"، ولتضجّ اعمالها لاحقا بثيمات لافتة كاستحقاق متوسط العمر والطفولة والاجحاف الاجتماعي والتهميش وغياب التواصل الى الحرب وتبعاتها.
لم يحرّك محكّمو جائزة "غونكور" مستنقع ألبابهم بعنف للمجيء بمستحق للامتياز الأدبي الأكثر عراقة في فرنسا. ذهبوا الى اللافتة الأدبية الأكثر سطوعا واستقطابا للإعجاب والمقت. في سنة 2010، منحوا رواية الفرنسي ميشال ويلبيك الخامسة "الخريطة والأرض"، جلّ ما حُرمت منه سابقتاها اللتان بلغتا نهائيات الجائزة، اي "الجزئيات الأساسية" و"احتمال جزيرة". استمهلت اللجنة نصا قاسيا يعتدي على الفنون ويزدري النفس ايضا. في الرواية الصادرة لدى دار "فلاماريون"، ثمة تعديل واضح في خطاب ويلبيك، نعثر على ابتعاد عن القولبة المعروفة حيث كان لا غنى عن تدفّق الحكايات من ثلاث حلقات. ارتفعت من الاولى ادخنة الجنس والفظاظة وكره النساء في معادلة توائم حس القارئ التسلوي، في حين تسلّلت من الثانية الدلائل التوثيقية ليطلّ ويلبيك على علم الأحياء والجنس والتسويق، بينما كشفت الثالثة عن منصّة تجمع الشخوص او تفصل بينهم. في "الخريطة والأرض" كسرت الحلقة الأولى تماما، في حين طرأ انزلاق الى بهلوانيات المرايا من طريق شخصية تعدّ انعكاسا لويلبيك عينه.
لنصوص ماريو فارغاس يوسا سطوة على وعي القراء وحواسهم، تتصور الفانتازيا وترتحل اليها ردّا على الإخفاق اليومي. انها العملية المولّدة للأدب أفاد منها هذا الكاتب البيروفي العارف الى اقصى حدّ. والحال ان جائزة الاكاديمية الاسوجية مررت ايذاناً بها. مُنحت جائزة نوبل الاداب للحالم الفطري والواهم العضال و"وحش الكتابة"، على ما وصفه الناشر كارلوس بارال في العام 1967، كحركة قطع مع درجة الدفع بالأسماء ذوي الانتشار المحدود الى الواجهة، واصغاء الى ارتدادات النصوص الحسّية على طائفة قرّاء بلغوا نصوص فارغاس يوسا بالقشتالية اولا، وبعدذاك بعشرات الالسنة اللغوية. خلال ما يزيد على نصف قرن من النشاط الفكري الدؤوب، كان فارغاس يوسا الاسم المنتظر، والبعيد الإحتمال لشدّة انتظاره. غير ان الطريق المرصوفة جوائز من كل حدب وصوب، تولّت الإضاءة على سعة كتابيّة شبه بالزاكية (نسبة الى بالزاك)، بيد انها مقفلة وباطنية كذلك للمفارقة، لما لتقنيته من نموذجية واستدعاء لسجلاّت عدة تنوء تحت التماع الفكاهة والمجاملة وصولا الى اعمق التراكيب التاريخية والنفسانية الغضّة. والحال اننا تفرّدنا عند اعلان فوزه، بنقل مقتطف من روايته "الحلم السلتي" الى العربية قبل اكثر من شهر على صدورها بالقشتالية.
ليست رواية الاميركي بول هاردينغ "المصلحون"، التي نالت في 2010، بضرب من مباغتة، امتياز "بوليتزر" للعمل التخييلي، شتويّة تماما، على رغم الغلاف الملبّد بياضا. فهنا الصقيع المتسلّل الى المفاصل لا ينفي نفسا آخر اشد دفئا يهجع في صفحاتها المئتين تقريبا. صحيحٌ ان الفحوى مفاجأة ادبية من الصنف الرفيع، إلاّ ان الحيثيات الإجرائية الملازمة لمنح الجائزة ايضا تقع في خانة اللامتوقع. ذلك ان صاحب الباكورة الظافرة بالجائزة المهيبة، ابن الثانية والأربعين، اتى الى الآداب من عزف الدرامز في فريق للروك بإسم "كولد واتر فلات". ناهيك بأن الحكاية اؤتمنت على نبرة غنائية وصدرت عن دار نشر "بيلفيو ليتراري بريس" ليس لها من العمر سوى خمسة اعوام فحسب، وبالكاد سمع بها احدهم قبل اليوم. اما الأكثر اذهالا، فإن المؤسسة النشرية لا تبغي الربح، وملحقة بكلية الطب في جامعة نيويورك، ومقرها مستشفى بيلفيو في المدينة الاميركية!
حاز "في مكان ما صوب النهاية" لديانا اثيل، الصادر بالإنكليزية لدى دار "نورتون" جائزة "حلقة نقّاد الكتب الوطنية" للسيرة الذاتية. والحال، ان في جعبة عمدة الناشرين بالانكليزية واكثرهم استثناء، قصصاً ذاتية جمّة تتلوها، وتحاذيها أخرى، تقع بين فكّي العام والادبي الخاص، وليس اقلها شأنا مسيرة مذهلة في عالم النشر، وتعاونها مع اكثر الكتّاب وقاراً، اولئك الذين تقدّموا واجهة الآداب في القرن العشرين. ضجّت حياة اثيل بالانعطافات اللامتوقعة. كان هناك العلاقات الغرامية المتكسّرة، والانغماس في صيغ زيجات "ثلاثية الطرف" كما يعاينها الفرنسيون، جعلتها تُرمى بكنية "المرأة الاخرى"، كأنها النسخة الحيّة من اغنية نينا سيمون الرائعة. اختارت ديانا اثيل ان تسلك تجربتها اليومية بسذاجة مذهلة، هي عينها التي توظفها لتروي حياتها في الحادية والتسعين في هذا المؤلف.
كان للالتباس الجغرافي سطوة لا تثمّن على الفرضيّات الأدبية اللامتناهية التي عجّت في مؤلفات الاسبانية كلارا سانتشيث، وقد تذكّرتها الجوائز اكثر من مرة. كان آخرها في مطلع 2010 حين منحت راويتها "لغز اسمكَ" (دار ديستينو) جائزة "نادال" الإسبانية الأدبية. مذّاك، منذ صدور تلك الحكاية، حيث يقيم ثنائي نروجي مسنّ بهناء في الساحل الشرقي لاسبانيا الى حين يعكّر صفو يومياته ديّان يعتبر الوقت قد حان لتسديد جزية افعال هذين النازيين المستترين، لم تنفك الروائية تتلقى رسائل مؤرقة تنطوي على نصح "أخويّ" بترك "هؤلاء المساكين العجّز وشأنهم". اثبتت سانتشيث، من طريق استدعاء الجلاّدين المنسييّن، ان الزمن لم يتخطّ الثيمة النازية، وان الموضوع حي يرزق يستطيع حرق الحيوات وتحريك الهامد.
الرواية، في منطق الكاتبة الأميركية باربرا كينغسولفير، فعل اتهامي. تروّج في مؤلفاتها لرسائل رفيعة المثالية في شأن البيئة والفقراء والعاملين ولاجئي اميركا الوسطى والأمهات العازبات وحقوق الهنود. غير ان استئثار روايتها "الفجوة" (دار "هاربر كولينز") بجائزة "اورانج برودباند" 2010 الممنوحة لأفضل عمل تخييلي بالانكليزية، تكتبه سيدة، لم يحلّ بسكون. ترافق الاعلانَ عن فوزها مع الانكماش كصدى لخيبة أمل وقورة عبّرت عنها طائفة من النقاد وحفنة من القراء على السواء. اشار البعض الى ان الرواية الثنائية الرأس التي تفصّل آخر أيام تروتكسي في المكسيك وتروي أحوال فريدا كاهلو ودييغو ريفيرا، فضلاً عن مطاردة مكارثي للشيوعيين في اواخر الأربعينات من القرن المنصرم في الولايات المتحدة، تؤسّس لكتابين منفصلين، لا يدخل ايٌّ منهما العجلة الروائية ويخرج منها على نحو ملائم. والحال ان الكاتبة تجيء بقصة حنونة ومأسوية ومتفائلة، واحيانا مثبطة للآمال وانما ملزمة في المحصلة.
أغدق نص مُثخن بجروح الحياة على الألماني بيتر فافرتسينك في الخامسة والخمسين، "جائزة إنغيبورغ باخمان" الأدبية، جاعلا منه اكبر الفائزين سنّا بأحد ابرز الامتيازات الجرمانية. من طريق نثر ينتمي الى الأدب الرفيع، يسرد طفولة نمت في احد المياتم في اعقاب توارٍ للوالدين وفرار نحو الغرب، رُكنت الى فافرتسينك جائزة قدرها خمسة وعشرون الف أورو، تقنص منذ عام 1977 موهبة على فرادة محدودة الانتشار خصوصا. تحمل الجائزة هوية الكاتبة والشاعرة النمسوية باخمان المولودة في هذا الركن الجغرافي في عام 1926 والذاهبة الى قدرها المأسوي منتحرة في روما. بيد ان التقليد انقلب على صانعته هذه السنة، فاستبقت الجائزة المرافقة لـ"أيام الآداب الألمانية"، صاحب حديث يتمحور على المانيا الشرقية سابقا لم يعد في تجاربه الأولى، وانما اسم كرّر اقتراف التهكّم والنقد في اعمال عدة استوقفته في زمن تجزئة البلاد بلدين. النص سيرة ذاتية سمّيت "حبّ الغربان"، تفقز على الحواجز الداخلية لتتمحور على نشأة موجعة في احد مياتم ألمانيا الشرقية.
ترنّحت التعليقات بين ناقد مرحّب وحانق بعيد تأبط الروائي اللندني وكاتب العمود هاورد جايكبسون جائزة "بوكر" الأدبية للعام 2010. في الأساس عدّت روايته "مسألة فينكلر"، المسمّاة تخييلاً كوميدياً، جنساً قاصراً لا مكان له في رحاب المسابقة. بيد ان العمل المختار تخطى الملاحظات على تشعّبها، وصار باكورة النصوص المقهقة بصخب يظفر بأرفع الجوائز الأدبية الانغلوساكسونية منذ انطلاقها قبل أكثر من اربعة عقود. تحوم رواية جايكبسون الحادية عشرة، في فلك كينونة الشخصية اليهودية راهنا. انها حكاية صداقة وفقد وانتماء وحكمة ورشد انساني وصداقة ذكورية، في حين اهملت تظهير اسلوب الكاتب في تألقه، كما تبدّى في "ليالي كالوكي". نغادر مطالعة "مسألة فينكلر"، معلّقين بحبال شخصية محورية بإسم جوليان تريسلوفي، تدين الى وودي آلن بالشعور المرهف، وسيغموند فرويد بالمنطق النفساني. يروقنا ان نلاحق تريسلوفي الذي منح هبة التلوّن، في ظنّه ان كل شيء الى سوء، بيد ان في وسع بزوغ الحب المباغت ان ينير السواد الكوني.
قضية في المانيا
مذ اشتكى الكاتب المسرحي الروماني ترنتيوس في القرن الثاني قبل الميلاد بأنه ليس هناك شيء يقال لم يقل في السابق، لم تكف جنحة تملّك الآخرين في شتى الفنون عن التفشي. في العام 2010 في المانيا، حصلت هيلين هيغيمان التي تبلغ بالكاد سبعة عشر عاما، على مجموعة من المراجعات النقدية المداهنة، وخطت دعساتها الاولى في حظيرة مؤلفي الكتب الأكثر مبيعا، واستبقيت الى نهائيات امتياز ادبي محوري في لايبزيغ بمجرد اصدارها عنوانا واحدا هو Roadkill Axolotl. تردّد ان اسلوب هيغيمان فريد، قبل ان يكشف احد المدوّنين ان الرواية مأخوذة في أجزاء كبيرة، من عمل اقل شهرة بعنوان "ستروبو" لكاتب يحمل إسم ايرين المستعار. اقتطعت صفحات كاملة من ذاك العمل ولم تلحظ سوى بعض التبديلات الطفيفة. تغيّر عندذاك المديح الصاخب سيلاً من الاستهجان. جنحت مسألة هيغيمان صوب أماكن متشعبة. ذلك ان الكاتبة المراهقة، وبعدما أذيع اقدامها على هذه الدعسة الناقصة، لم تتّبع سيناريو التندّم والانسحاب بغية مسح الشائبة، بل أكدت ان تملّك المقتطفات، كما مصادر أخرى، جاء في صلب مشروعها المدرك.
في اسبانيا
لا يمكن اللحاق بالخيط الزمني لبزوغ الأدب في مختلف هوياته من دون التوقّف مليّا عند "حياة لاثاريو دي تورميس وبَخته ومحنِه". دلّ المؤلف الى الرواية الحديثة وبسط الدرب امام "ايل كيخوتي" لثرفانتس ونفخ روحا في ابطال سلبيين على هيئة غير معتادة. ظل لغز نسب "لاثاريو دي تورميس" لزمن طويل اكثر الأسرار كتمانا في تاريخ الاداب بالقشتالية، لتصير غفلية واضعه جزءا من مغزاه. في العام 2010 استنبطت هوية جديدة لصاحب الكتاب، غير ان صدور الحكم عن الباحثة في اشكال الكتابة القديمة والاكاديمية المعروفة مرسيدس اغويو (مدريد 1925) جنّبه مزيدا من التمحص والتدقيق. في كتاب صدر عن دار "كالامبور" بعنوان "عودة الى مؤلف لاثاريو"، جاء قول اغويو مدموغا بالوثيقة، ليفيد ان دييغو اورتادو دي ميندوثا، ابن القرن السادس عشر، هو الصوت الذي تم البحث عنه طويلا. الكتاب خلاصة مطاردة للحقيقة خلال اعوام، وغرق في متاهات المحفوظات الكنسية وارشيف البروتوكولات والوثائق التاريخية الوطنية. والحال، ان دي ميندوثا شخصية عامة فذّة ولد في الحمراء في نحو عام 1500، وشغل منصب موفد الامبراطور كارلوس الخامس في البلاط الانكليزي وفي روما والبندقية. عُرف راعيا للرسّامين والكتّاب، وقارئا نهماً للمخطوطات، متحدثاً باللاتينية واليونانية والعبرية والعربية وألسنة اخرى. تكتب اغويو في صدده: "كان دون دييغو اورتادو دي ميندوثا رجلا جسورا، قاد مهمات عسكرية محورية. وكقلة من الناس شكّل مثال النهضة والاتحاد بين كلمة الأسلحة وكلمة الآداب".
رحيل
في الاعوام الاخيرة قابل البرتغالي جوزيه ساراماغو الموت بشيطنة المراهقين، غير انه استسلم ايضا لحتميته حين رصده الراوي في كتابه "استقطاعات الموت" معلنا: "نحن الآدميين لا يسعنا فعل الكثير باستثناء اخراج ألسنتنا في وجه السفّاح الذي يوشك على قطع رؤوسنا". والحال ان الثامن عشر من حزيران 2010 استطاع ان يغلق عيني الكاتب الفائز بنوبل الآداب. في جوار اليوتوبيات، اعتبر ساراماغو ان نصح احدهم بالتحلي بالأمل، لا يختلف كثيرا عن نصحه بالتمسك بالصبر. بالنسبة اليه، كمنت الأزمة الانسانية في ظاهرة الفوضى التي نقيم فيها من دون ادراك منا. اندثر الآن القصر الورقي، يقول ساراماغو، ودقّت ساعة ايجاد اسلوب لإعادة البناء، علّنا نبقى احياء. شكل كتابه "المدوّنة"، الذي جمع فيه نصوصا حوتها مدوّنته الالكترونية في عامه الأخير، احد تلك الاساليب للانتفاضة على حتمية الغياب، فناً مدوّيا ودامياً. اتسمت مؤلفاته بنزعة تلقينية وغواية تخريبية. تتلاشى في طبقة البناء السردي نقاط الوقف، في مقابل كتابة ارتجالية تُقرأ كما الخطب. يسترسل الكاتب في جمله التي تستعمر صفحات عدة، يتفادى التقاط النفس ليمتزج حوار شخوصه مع اقوال رواته، بغية صوغ خليط من اصوات غير متساوقة. كتب ساراماغو كأنه جالس الى جوار مدفأة. حكواتي، قص أخبار الجن والعفاريت على احفاد ملؤهم الذهول.
انحنت المكسيك في حزيران 2010 إكراما لابنها كارلوس مونسيفايس في اليوم التالي على رحيل جوزيه ساراماغو. في توقيت زمني يكاد يتقاطع، تلاشى مفكّران متفرّدان لا يضاهَيان، بل رجلان مقدامان في مضمار آداب الاوجاع غير الزائفة. قيل في مونسيفايس انه ابهى كاتب مقال مكسيكي و"خاتمة المثقّفين العلنيين" في البلاد الواقعة عند نقطة الوصل والعالم الانغلوساكسوني، واشير ايضا الى انه "ضميرها" ووجه ادبي يتيم اعترف بشرعيته المواطن العادي قاطن الطرق والأزقة الفرعية، بعدما تابعه على انبساط خمسة عقود، يذهب الى نواة الموضوعات والشخوص. شابه الكاتب مواطنيه بالروح، وجعل رحيله الحداد يلفّ السياسيين البارزين في اعلى الهرم الاجتماعي والمياومين في المصانع في اسفله، فلوّح الناس وهتفوا وغنّوا لمن سمّته الملايين "مونس". لم يحظ مونسيفايس بالنجاح التجاري لمجايليه على نسق كارلوس فوينتيس، غير ان خبر وفاته حضر في كبريات الصحف الانغلوساكسونية التي تناوبت لتحية مثقف كان الى جانب اوكتافيو باث المخاطب المثالي للسلطة السياسية في المكسيك.
ذكرى
قبل قرن، في ظلمة ليل الثامن والعشرين من تشرين الأول من 1910، هجر ليو تولستوي عقار ياسنايا بوليانا في جنوب موسكو تحت جناح الغفليّة، ليتممّ رحلة شخصيّة ختامية. توارى الرجل الأكثر شهرة في روسيا والرمز العلماني المستحوذ على الورع والإحترام لعبقريته الأدبية ومفهومه السلمي والتزامه حاجات الأرض والفقراء. في طفرة الترقّب، امسى اختفاء العجوز المعكّز على أعوامه الإثنين والثمانين حدثاً باتساع الوطن الهائل، فانهمكت روسيا من طرفها الى أطرافها في ملاحقة مآل قصة باعثة للفضول. حدد مكان الروائي بعد يومين في احد الأديرة البعيدة، غير ان فراراً ثانياً تلا الخبر السعيد، لكأن الرجل اراد توكيد تركه وشأنه. بعد ايام عدة حصل الظهور التالي في محطة قطار استابوفو النائية، حيث انتهت رحلة تولستوي من جرّاء ذات الرئة. استلقى تولستوي فاقد الحياة في ذاك المطرح، ليغدو بطل رواية وطنية. مئة عام مرّت منذ رحيل كاتب استعادته روسيا في 2010 كمؤسس لمدرسة روحانية، مشى حافي القدمين ودرّس اولاد الفلاحين القراءة والكتابة. اقتنصته كاتب رسائل تعليمية واعتراضية ايضاً، وجهها الى القيصر. تتذكّره روسيا البيضاء سليل اسرة عُرف افرادها بـ"التولستويين المتمرّدين" جنودا وسياسيين وفنانين. كان جنديّا مدينا للتيار المتعوي في شبابه، فكاتباً ذائع الصيت، ثم فيلسوفاً متنسّكاً، مخلّفاً افكاراً طبعت غاندي ومارتن لوثر كينغ. رسم تولستوي الروح الوطنية الجامعة المجسّدة في مواكب الناس في رواية "الحرب والسلم"، فيما تعاطى مع روح منكوبة على مستوى حميمي ونفساني في "انا كارينينا".
واحد وثلاثون عاما من العيش في إسبانيا الموجوعة. ثلاثة الآف صفحة كتابية واسطورة لا تضاهى. ميغال إرنانديث، شاعر احتمى بحبال الحكاية، ليحين وقت تحريره من طوق القدرية الذي زنّره الى حد الاختناق. في عام 2010 طوى إرنانديث قرنا من العيش الافتراضي. اتت الذكرى الشعرية واتى الشجار السياسي بالتكافل والتضامن. حمل ارنانديث وصمة السجن أينما حلّ، فمدّته بإيقاعها ظلمةً وتمزّقا وجوعا وارتيابا في الأبيات. جعله الاعتقال انسانا معزولا وضحية مثالية للقمع، في حين خضعت ذكراه مع حلول المئوية الاولى لولادته، لما يشبه المزاد العلني. بات اسم ميغال ارنانديث (اوريهويلا 1910- اليكانتي 1942) بدءا من تموز 2010 موضوع نزاع في اسبانيا، على خلفية ايداع اثره وممتلكاته. كانت تلك لحظة درامية لاحقة للموت، فيما أتت اللحظة الحياتية الدرامية الاخرى في ركاب احد عشر عاما من النشاط الأدبي العنيد ومن نضال سياسي متأخر، الى أن انتزع السل "الجمجمة الجميلة" في حجرة فرنكوية سوداء في عام 1942. ايرنانديث شاعر تأكله التبرم ورطوبة قضبان الزنزانة. افصحت قصائده عن تجارب شعريّة غير مسبوقة، حيث الحديث عن الحب الزوجي لخوسيفينا والعاطفة البنوية، وعن موت الابن الرضيع، كما عن الاعتقال والحرب.
في تشرين الثاني من عام 1835 شقّ صموئيل لانغهورن كليمنس غشاء الحياة الرحمي تحت وميض "هالي". سيخدم مذنّب الحظوظ الوافرة والحوادث المهيبة ركيزة ليبدأ عدّ ايامه، في حين يدمغ ظهور النجم اللاحق في عام 1910 نهاية لحلقة عيش، بالتزامن مع انطفاء مارك توين في الرابعة والسبعين. الرضيع المولود على حدود فلوريدا في ميسوري، هو عينه الذي سيتبنى لاحقا اسم مارك توين. كان حضور النجم الحائم في السماء كافياً لتشتغل النبوءة في اذهان قبيلة كليمنس. دان ناس تلك المنطقة بطيب خاطر لتطيّر سيؤتي جدواه من حيث لم يتوقعوا. ذلك ان اليتيم المتسرّب من المدرسة في الثانية عشرة لن يلبث ان يجالس تيودور روزفلت الى مائدة العشاء، ويلتقي غاندي وفرويد وامير ويلز، والأهم ان يقبض على حرفة كتابية تجعله يوقّع مؤلفين متطلبّين، "مغامرات توم سوير" و"مغامرات هاكلبيري فين"، ويستأهل التحية. في العام 2010، في مئوية وفاته، عاد مارك توين أول كاتب اميركي فعلي لم يلتفت الى اوروبا بحثا عن تأثير. في عز الحنوّ على ارثه، صدر في 2010 كتابان بالانكليزية يضيئان عليه كاتبا مبجلاّ ومحبوبا ومحاضرا منتظرا. ينبسط كتابا كلّ من مايكل شيلدين، "مارك توين: رجل بالأبيض" ولورا ترومبلي "امرأة مارك توين الأخرى"، في العقد الأول من القرن العشرين في حقبة كان لا يزال توين ابانها في حضرة الأبحاث والحكايات الخرافية، ومنغمسا في نصّ سيرته الذاتية على ايزابيل ليون. منح المؤلّفان اجابات متضاربة في شأن استفهامين على صلة بشيخوخة الكاتب. يهتم السؤال الاول بقدر السعادة خلال "عمره الثالث" اما الثاني فيرصد دور مساعِدَته الشخصية.
تقدّم الشاعر لويس روساليس الأخبار في مسقطه إسبانيا في ضوضاء مئوية ولادته، حاملا لطخة ذنب بعيد ودانٍ ووشيكٍ وماضٍ. في مقابلة مطوّلة أجريت معه في عام 1977 بثّها التلفزيون الاسباني، استعاد الظروف السابقة لاعتقال صاحب "شاعر في نيويورك" وصديقه فيديريكو غارثيا لوركا، واغتياله. روى روساليس بعد صمت، مجريات يوم قاتم في منزل ذويه المسؤولين الرفيعين في حزب الكتائب بزعامة فرنكو اليميني. لجأ لوركا الى غرناطة طلبا للحماية في منزل آل روساليس، ليقتاد منه أبهى شعراء القرن العشرين الى درب الموت رميا بالرصاص على رغم معارضة أصحاب المكان. في العام 2010 في مئوية مبتكر، من مثل لويس روساليس (غرناطة 1910 - مدريد 1992)، استعيدت هذه المحطة وسواها. قبل عام على اغتيال لوركا، انتشر اسم لويس روساليس كشاعر مستحق بعد اصدار مجموعته الأولى "نيسان" (1935)، حيث عبّر عن حيوية وعودة الى التيار الطبيعي التعبيري في التقليد الكلاسيكي. كانت مجموعة "نيسان" عملا عبقريا في سياق اعمال لشعراء عمّدتهم الحلقات النقدية لاحقا ابناء "جيل 36" (اي 1936)، ضمّ الى روساليس، نماذج ادبية من قامة ميغال ارنانديث ولويس فيليبي فيفانكو وليوبولدو بانيرو ورافاييل ديوس وسواهم في الشعر، وميغال ديليبس وآخرين في الرواية. انتمى روساليس الى "جيل 36"، بل كان الرأس المدبّر لجيل رافق النزاع الاسباني الداخلي في زمن اربك الشعراء الشباب، حيث رصدت التعريفات لتبويب الأصوات الأدبية النامية، فيما لم يفسح لسوى خيارات محدودة.
كاد يصعب في الأسبوع الأول من العام 2010 تفادي لقاء ألبر كامو. كان الطقس الاحتفائي بالكاتب الفرنسي في اوجه، في الذكرى الخمسين لغيابه التي صادفت كرونولوجياً في الرابع من كانون الثاني. لم يتم انتظار انفضاض العام او تقدّمه بعض الشيء لمحاولة تلقف كامو رويداً. أُريد للذكرى ان تحلّ للتو في العجالة. بيد ان الهرولة صوب كامو كان لها ما يبررها بالسياسة في فرنسا، خصوصاً مع رغبة الرئيس نيكولا ساركوزي في نقل رفاته من بروفانس الى البانتيون في باريس، والجلبة حولها، التي تخطت كل حدث آخر. للتمهّل المستعجل عند كامو مبرر اضافي كان مصدره "فعلا تكفيريا" مطبوعا بغريزة عاطفية شعبيّة ازاء اسم سعى الفرنسي العادي الى تأكيد تبنّيه له، بعدما ذبل الافتتان اللامشروط بجان بول سارتر، وصار جائزا ان توجَّه التحيّة الى صديقه اللدود. حكاية خصام كامو وسارتر العقائدي الإنساني، صارت من كلاسيكيات المشاحنات الأدبية التي لم توفّر الذمّ بالحرفة الكتابية. غير ان سارتر، وبعد يوم واحد على غياب كامو، استلّ القلم ليكتب: "كنا على خلاف، انا وهو، ليس الخلاف امرا بسيطا، ذلك اننا لم نعد نلتقي، كانت تلك طريقة اخرى للعيش معاً من دون ان يضيّع احدنا الآخر في كنف عالم صغير مُنح لنا. كان يمثّل في هذا القرن وضد التاريخ، الوارث الراهن لسلالة من الاخلاقيين، اعمالهم من الأكثر استثنائية في الآداب الفرنسية".
عن النهار بيروت

 

 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free