رفض فكرة الهجرة إلى إسرائيل لأن الديانة لا تحدد الوطن
إدمون عمران المليح.. رحيل كاتب مغربي استثنائي
عن سن يناهز 93 سنة، توفي الكاتب المغربي والمثقف والروائي والصحافي إدمون عمران المليح، صباح الإثنين 15 نونبر 2010 بالرباط، بعد عطاء فكري وأدبي، وإن بدأ متأخرا، فقد أثمر مراجع وتحف أدبية كان لها عميق الأثر على الوعي الجماعي المغربي والعالمي.
وتعتبر أعمال إدمون المليح، الذي رأى النور سنة 1917 بمدينة آسفي الهادئة في كنف عائلة يهودية من الصويرة وتربى وسط تعايش كبير بين المغاربة اليهود والمسلمين، علامات مضيئة مستلهمة من الذاكرة اليهودية والعربية التي تحتفي بالانسجام الثقافي الذي يتميز به المغرب.
انخرط إدمون المليح، الذي يعتبر نفسه كاتبا عرضيا أتى للكتابة بالصدفة، في مسار الكفاح من أجل استقلال المغرب، قبل أن يهاجر إلى فرنسا حيث اشتغل أستاذا للفلسفة وصحافيا. وباشر منذ سنة 1980، وهو في سن ال63، تأليف سلسلة من الروايات والمؤلفات التي ما فتئت أن تحولت إلى مراجع عالمية بفضل الأبعاد الشاملة التي احتوتها والمواضيع الهامة التي تطرقت إليها.
وقد كان للتربية التي تلقاها إدمون المليح، في وسط تميز بتعايش كبير بين المغاربة اليهود والمسلمين ونسج فيه صداقات مع عدد من جيرانه المسلمين دون مشاكل أو شعور بالاختلاف مع المسلمين، عظيم الأثر على أعماله الخالدة.
ومن أبرز أعمال هذا المبدع الاستثنائي المفعم بالإنسانية، التي وظف فيها بفنية كبيرة تفاصيل وصورا التقطتها مخيلته على مدار سنوات حياته، "المجرى الثابت" (سنة 1980) و"أيلان أو ليل الحكي" (1983) و"ألف عام بيوم واحد" (1986) و"عودة أبو الحكي" (1990) و"أبو النور" (1995) و"حقيبة سيدي معاشو" (1998) و"المقهى الأزرق: زريريق" (1998) و"كتاب الأم" (2004 ).
تكشف مختلف كتابات إدمون المليح عن فضاءات وقضايا من قبيل الهوية الثقافية واللغة الأم والسيرة الذاتية. كما تميزت كتاباته بتصوير الطقوس والعادات المغربية، إلى جانب تقديمه لمناخ النضالات التي خاضها المغرب من أجل استقلاله.
ورغم كون كتاباته كلها باللغة الفرنسية، فإن الدارجة المغربية حاضرة فيها باعتبارها حاملة للدلالات التي سعى إدمون المليح إلى إيصالها إلى المتلقي والتي تركز في مجملها على المبادئ الإنسانية السامية وقيم العدالة والمساواة ورفض الظلم أيا كان مصدره وأيا كانت دواعيه.
ولم يتوان إدمون المليح عن التأكيد في مختلف المناسبات عن تشبثه بوطنه، وهو الذي أكد في حديث لوكالة المغرب العربي للأنباء قبل بضعة أشهر على أن "الخيط الأساس الذي ينتظم مسار حياتي هو ارتباطي القوي بوطني". كما أنه لطالما بدا مفتخرا وهو يتحدث عن أصوله الأمازيغية وانحداره من قبيلة آيت عمران جنوب الأطلس.
كما أن صفة التواضع انطبقت دوما عليه، فقد امتنع عن الحديث عن نفسه معتبرا أن "في ذلك الكثير من التمحور حول الذات". وأكد أن الأمر بسيط. فهو يكتب مثلما الآخرون يرسمون أو يغنون أو يبيعون الخضر..".
بقدر ما يفتخر إدمون عمران المليح بأنه مغربي يهودي، بقدر ما يعبر عن رفضه لفكرة الهجرة إلى إسرائيل جملة وتفصيلا، قائلا إن الديانة ليست هي التي تحدد الوطن، بل ذهب لحد إدانة تهجير يهود المغرب إلى إسرائيل وكل من تواطأ في ذلك، معتبرا ذلك بمثابة سرقة مواطنين مغاربة من قبل دولة أخرى.
كما حرص دوما على التأكيد على إدانته الشديدة للصهيونية باعتبارها "حركة عنصرية وحشية تقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب"، و"للجرائم الإسرائيلية البشعة ضد أبناء الشعب الفلسطيني الذي يكافح بكل ما أوتي من قوة من أجل حريته واستقلاله وحقه في وطنه".
وبوفاة إدمون عمران المليح، الحاصل على جائزة الاستحقاق الوطني بالمغرب سنة 1996 عن مجموع أعماله، يكون المغرب قد ودع علما بارزا من أعلام الثقافة المغربية الذين طبعوا الساحة الأدبية الوطنية والعالمية بإبداعاتهم التي تثري المكتبات وتنهل من معينها مختلف الأجيال المتعاقبة.
أثرى التراث المغربي وساهم في نشره خارج الوطن
شخصيات مغربية بباريس تشيد بالراحل عمران المليح
عبرت شخصيات مغربية وفرنسية من أصل مغربي، عن حزنها وتأثرها لرحيل إدمون عمران المليح "الكاتب الكبيرالمتشبث بمغربيته"، الذي وافته المنية بالرباط عن سن تناهز 93 عاما.
وأشاد أحد ابن عمومة إدمون عمران المليح، ألبرت ماليت، رئيس منتدى باريس، في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، بهذا "الباحث الكبير" الذي أثرى التراث المغربي وساهم في نشره خارج الوطن، مشددا على أنه كان "مغربيا حتى النخاع أغنى التراث اليهودي المغربي، وساهم في إشاعته خارج المغرب".
وأوضح السيد ماليت أنه بفضل الراحل المليح يدرس اليوم التراث المغربي في بعض الجامعات بإسرائيل، على سبيل المثال، مشيرا إلى أنه يتم إبراز "تسامح وانفتاح المغرب وكذا مكانة اليهود في هذا البلد".
وأضاف رئيس هذه المنظمة الفرنسية غير الحكومية، التي تضم مدافعين بقوة عن الحوار الإسرائيلي- الفلسطيني، أن أعمال الراحل، الذي كان باحثا كبيرا محاطا بأناس كثيرين، "معروفة ومعترف بها".
وفي تصريح مماثل أشاد الفنان المغربي مهدي قطبي، رئيس منتدى الصداقة الفرنسية-المغربية، من جهته بهذا "الكاتب المغربي الكبير" الذي ظل دوما مواكبا للفن والفنانين".
وقال قطبي، الذي صاحب الراحل نحو 30 سنة، "كنت دائما شديد الإعجاب بإدمون وبمغربيته وبالقوة التي كان يمتلكها من أجل أن يكون عادلا تجاه الفلسطينيين"، مذكرا بدفاع الفقيد "عن القضية الفلسطينية"، وباختياره العودة إلى المغرب للعيش فيه.
وأشار مهدي قطبي إلى أن أعمال الكاتب المغربي إدمون عمران المليح، الذي شيع جثمانه إلى مثواه الأخير أمس الثلاثاء بالصويرة، "ستظل مسجلة وأساسية ورئيسية في الأدب المغربي".
أنـا أحـمـل الـمغرب بداخلي أينما ذهبت
|
في حوار قبل الرحيل مع الكاتب «إدمون عمران المليح»
هو من الكتاب المغاربة الاستثنائيين، كتاباته تركت أثرا عميقا في الوعي الجماعي المغربي والعالمي، في بيته بالرباط محاط بمكونات مكتبة نفيسة ولوحات فنية اقتناها بعناية متتبع لتفاصيل المجال الثقافي والأدبي والسياسي ،يستقبل أصدقاءه بأريحية، ومن هذا الفضاء الجميل الذي أثثه بكثير من الحب وبشموخ، قال إدمون عمران المليح "ما دمت أقرأ وأكتب فأنا موجود" ، قاطعا بذلك دابر الشائعات حول حالته الصحية.
ويتمتع إدمون عمران المليح بشخصية قوية تفرض على زائره ومحاوره أن يستجمع قواه، شأنه في ذلك شأن كل المؤلفين، حاضر البديهة يقول إدمون عمران المليح لوكالة المغرب العربي للأنباء وبأنفته المعهودة : "أنا موجود وحاضر في الحياة اليومية ولا أنكمش على ذاتي لأنتظر الأجل ... علاقاتي مستمرة مع عدد كبير من أصدقائي ومتتبع لمجريات الأحداث على الصعيد الوطني والدولي".
ملاحظاته براقة وذكية فعندما لاحظ انبهارنا باللوحات الفنية التي تؤثث فضاء منزله، تدخل قائلا : "هذه التحف ليست تنميقا .. إنها بيئتي التي أعيش فيها"، متأملا لبرهة بعضا منها التي انعكست عليها أشعة الشمس المنسابة من نافذة الغرفة كأنه يسترجع شريط الذكريات التي جمعته بمبدعيها.
ويؤكد إدمون عمران المليح (93 سنة) هذه الملاحظة بالقول إن هذا المنزل الصغير هو في حقيقة الأمر فضاء رحب لا حدود له، خاصة لما عرف عن المليح من اهتمام بالفن التشكيلي وفن التصوير الفوتوغرافي، مستطردا أن "المغرب يعرف طفرة كبيرة في الميدان التشكيلي وهذا بفضل عدد كبير من الفنانين من الطراز الرفيع".
وقد تولد عن هذا العشق للفن التشكيلي وللصورة مؤلفات جسدت هذا الاهتمام منها "تشكيل أحمد الشرقاوي"، و"العين واليد"، و"رحلة الجير البحرية".
الجسد والروح
عاد بنا المليح إلى سنوات خلت وبالضبط إلى عاصمة الأنوار التي مكث بها حوالي 30 سنة، ولكن قبل ذلك قال إنه يرغب في أن نسجل هذه العبارة وهو يبتسم ابتسامة خفيفة : "أنا أحمل المغرب بداخلي أينما ذهبت" ، وبتواضع جم أضاف ، "إنها خاصية لا تخصني وحدي"، وبتعبير فلسفي عميق يعلن المليح " عندما أغادر المغرب فأنا أتنقل ولا أتنقل".
وقبل أن يكون المليح الكاتب الكبير الذي نعرفه اليوم، كان مدرسا وأستاذا مرموقا، وهكذا انتقل للحديث عن فترة باريس، فعاصمة الأنوار "كونت مادة كتبي في مرحلة من المراحل" يقول، مفضلا أن يتكلم عن الفترة التي مارس فيها التدريس بفرنسا وبالمغرب، مؤكدا أنه شعر بالارتياح خلال مزاولة التدريس بالمغرب أكثر من فرنسا لأسباب أرجعها قبل كل شيء إلى أنه كان يفكر في مستقبل المغرب في الفترة التي أعقبت الاستقلال، بالدرجة الأولى، وتكوين الأطر الشابة، ثم إنه كان معتزا بالتدريس بثانوية محمد الخامس .. "إن للتعليم بالمغرب طعم خاص" .
وبعد صمت عميق، خلص المليح ويداه على ذقنه إلى أن "الشخصية مكونة من البيئة ومن التراث والتاريخ والجذور بالإضافة إلى مكونات أخرى..".
فلا يمكن أن تجالس إدمون عمران المليح دون أن تحس ذاك الشعور الغريب واللذيذ أيضا، فأنت أمام هرم تتحدث عنه كتبه "المجرى الثابت" ، و"ألف عام بيوم واحد"، و"أيلان أو ليل الحكي"، و"عودة أبو الحكي" وغيرها (...)، فعن سؤال حول سيرته الذاتية "المجرى الثابت"، اكتفى إدمون عمران المليح بالإشارة إليها، وعندها جرنا الحديث إلى آخر قراءاته، فأخبرنا مبتسما "أقرأ كثيرا، لا شيء محدد .."، إلا أنه أكد أنه يقرأ للشاعر المهدي أخريف ، "صديقي".
وفي هذا السياق، يقول "إن القراءة في المغرب ليست في أزمة"، خلافا لما هو شائع ، مجددا التأكيد على أن "الكتابة هي الحياة".
عن القضية الفلسطيينية و صديقه الراحل الكبير محمد أركون
"رأيي في القضية الفلسطينية معروف للجميع"، يجيب إدمون عمران المليح مباشرة ودون تردد ، ولكن بالنسبة للتطورات الأخيرة خاصة المفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين ف"أتمنى بالطبع نجاحها".
فالمليح قد كتب عن الخداع الصهيوني للعالم في كتابه "ألف سنة ويوم" (1986) ، وبالرغم من ذلك ود بكثير من الإصرار أن يؤكد، بخصوص المفاوضات الجارية الآن بين الجانبين، أن "الواجب الخطير هو محاربة الذات السياسية الوحشية العنصرية لإسرائيل تجاه الفلسطينيين"، داعيا إلى وقف بناء المستوطنات التي تحمل أفكارا عنصرية تتنافى مع الديانة اليهودية وإظهار السخط عليها باسم القيم الروحية لليهودية في صفائها ونقائها".
وفي معرض حديثة عن المفكر الراحل محمد أركون، صدرت عن عمران المليح آهة نابعة من القلب الحزين عن "الخسارة الكبرى" لفقدانه ... "إن أركون ، الصديق الكبير ولمدة طويلة، لم أعد أتذكر عدد سنواتها ، عالم ومثقف كبير ومناضل يستحق تكريما من الطراز الرفيع".
|
|