الرقابة العربية المتخلفة
هشام بن الشاوي
منذ الأزل، والعلاقة بين المثقف والسياسي متوترة، بسبب "خطورة" تلك السلطة الرمزية، التي يتمتع بها المثقف.. لذا، يسعى السياسي إلى احتواء المثقف بشتى الطرق، بسيف المعز أو ذهبه... كما خلق تلك الشخصية، المتجهمة، الملتبسة، الذي ارتبطت في الأذهان بالخطوط الحمراء أو ما يعرف بالثالوث المحرم : الرقيب، الذي يلعب دور المدافع عن الآداب العامة حد الاستماتة، في حين أنه لا يخدم سوى مصالح السياسي، الطامح إلى التخلص - بأية وسيلة- من المثقف.. لأنه يثير البلبلة، ويربك الأمن العام، والتاريخ الإنساني حافل بالأمثلة، بدءًا من سقراط الذي كان انتحاره بداية محنة العقل. هذه المحنة ستصير أكثر بشاعة، عندما تتحالف السلطة مع الدين لاغتيال العقل وقمع الفكر، ويتفنن زبانية السلطة في التنكيل بالعلماء والمفكرين، ومن المفارقة أنه - وبسبب الأطماع السياسية الضيقة- تم التخلص من خامس الخلفاء الراشدين، عمر بن عبد العزيز، لأنه حارب الفساد وسعى إلى بناء مجتمع فاضل، ليس على غرار مدينة أفلاطون، ذلك الطوباوي الذي استفاد من درس أستاذه، وتفادى الاصطدام مع السلطة، فكان أول نموذج للمثقف المهادن، الذي يلوذ ببرجه العاجي، متخليا عن رسالته...
ــــــــــــ
رغم اتساع هامش الحرية في الأونة الأخيرة، بعد أن أصبح العالم قرية صغيرة في زمن الانترنت والفضائيات، مازال الرقيب العربي يعيش بعقلية قروسطوية، يصادر الكتب، ويمارس دور شرطة الأفكار، بفضل "تقارير" و "وشايات" أقلام أجيرة، تتمسح بأعتاب السلطة، أقلام بارعة في تشمم رائحة الكلمات والأفكار، كما الكلاب البوليسية. والطامة الكبرى أن هذه المسرحية العبثية لا تنتهي عند المطالبة بمنع كتاب معين، وإنما تلجأ إلى استعداء الجماهير و تحريض الأئمة، فتتطور أحداثها بشكل سريالي، ويتم تكفير ذلك الكاتب أو المفكر وإهدار دمه، وتبلغ المسرحية ذروة تشويقها، عندما يحاول جاهل مغرر به اغتيال الضحية، مثلما حدث مع نجيب محفوظ، ولا يدرك ذلك المجاهد في سبيل الله أن اللعبة السياسية اتبعت أرخص أساليبها، وقد ارتدت عباءة الدين...
إننا نؤيد طرق أبواب المحرمات الثلاث، لكننا ضد كل أشكال التطاول على الذات الإلهية أو الإساءة للأنبياء والرموز الدينية.. جملة وتفصيلا.
ــــــــــــــ
أحيانا، نقرأ عن مصادرة ومنع كتبٍ هنا وهناك، وللأسف، فالرقيب يقوم بدعاية مجانية لها، لأن كل ممنوع مرغوب... فإذا كان الرقيب المغربي قد أفرج عن بعض الكتب كـ"الخبز الحافي" لمحمد شكري، "كان وأخواتها" لعبد القادر الشاوي، وسمح بتداول "أولاد حارتنا"- علما أن هذا الرقيب يختلف من بلد إلى آخر، فالرقيب السعودي ليس هو الرقيب اللبناني أو المصري على سبيل المثال، مما يدل على أن لكل بلد محظورات معينة- فرواية "آيات شيطانية" لسلمان رشدي يسهل تحميلها من المواقع الإنترنيتية.
ــــــــــــــ
ما الجدوى من محاربة الكتب، والمسألة محسومة سلفا؟
كم عدد الذين يقرأون في عالمنا العربي يوميا؟ وكم عدد الذين يشاهدون الفضائيات أو يتصفحون مواقع الانترنت يوميا؟ كم عدد الساعات المخصصة للقراءة أو مشاهدة الفضائيات وتصفح الانترنت؟
للأسف، أمة اقرأ لا تقرأ، وقبل ألف سنة وصفها المتنبي بــ"يا أمة ضحكت من جهلها الأمم". ترى لو عاش حتى زمننا الموحش هذا، بماذا كان سيصف العرب، وهو يعلم أن نسبة هائلة منهم تتصفح الانترنت، لولوج مواقع التعارف وغرف الدردشة والمتصفحات الإباحية، وأن الأنظمة السياسية العربية أفلحت في صناعة شعوب تنعم بجهلها، شعوب مسلوبة الإرادة تفكر بعقلية القطيع؟!...
ـــــــــــــــ
لماذا يصادر الرقيب رواية أو ديوان شعر، بسبب استعارة ملتبسة، علما أننا في زمن الأمية الثقافية، والكتّاب، الناشرون والكتبيون يشتكون من أزمة القراءة وركود سوق الكتاب، في حين يتهاون السيد الرقيب مع أخطر وسائل الغزو الثقافي، التي تطمس هويتنا العربية الإسلامية، وهي السينما والانترنت والفضائيات؟
يخيل إلي أن هذا الرقيب يتمتع بقدر لا بأس به من الغباء، فمثلا حين يتم بتر مشاهد معينة من فيلم ما، يسهل العثور عليها في الانترنت أو قناة فضائية تتمتع بهامش حرية أكبر، والمضحك أن أحد التلفزيونات العربية حين قام بحذف مشاهد مخلة بالآداب العامة من مسلسل مدبلج، ملأ الدنيا وشغل الناس، اتجه المشاهدون إلى قنوات ذلك البلد المنتج، رغم أنهم لا يفقهون لغته.
ــــــــــــــ
غبي هذا الرقيب حين يمارس الوصاية على أفكار الكتّاب، حتى لو كانوا مزعجين مثيرين للجدل، وفي المقابل يتغاضى عن بعض الأدعياء، ممن يعيثون في الأرض فسادا. ففي مصر مثلا، شكل أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد حالة استثنائية، تثير أعمالهما الجدل، لأنهما ينتصران للإنسان البسيط المغلوب على أمره، ويرفضان أن يكونا بوقين للنظام.
بسبب الرقابة، تم تشويه نهاية فيلم "البريء" لوحيد حامد، لأنها ثورية تحريضية، لكن تلك النهاية المغضوب عليها يمكن مشاهدتها على موقع "اليوتوب". فما جدوى أن تعرض كل التلفزيونات العربية تلك النسخة المشوهة من الفيلم؟ أما فيلم "كتيبة الإعدام" لأسامة أنور عكاشة فقد تعرض لهجوم إعلامي كاسح من الأقلام الأجيرة، مما أدى إلى سحبه من دور العرض، بينما مسرحيته "الناس اللي في الثالث" وبسبب رفض الرقيب لها، لجأ أسامة أنور عكاشة إلى طباعتها، ولم تجز الرقابة عرضها على خشبة المسرح إلا في عهد علي أبو شادي.. في حين هذه الرقابة تتهاون مع نتاج أحد تلامذة يوسف شاهين، والذي يعرف كيف يسرق الأضواء بأعمال دون المستوى، والمثير للشفقة أن هذا المخرج يتوهم أن النقيق يصنع أفلاما سياسية خطيرة. فلماذا يتسامح الرقيب مع مشاهد السحاق والشذوذ الجنسي، ومع الفيديو كليبات العارية والأغاني الهابطة، وإعلانات الخمر ببعض الفضائيات العربية؟.. ألكي يجعل كل الشعوب مجرد "حيوانات" (آسف للتعبير القاسي) لا تفكر إلا في الجنس، في حين يبتر أي مشهد يتضمن نقدا سياسيا غير بريء، وأحيانا، يتم طمس جملة لاذعة في مسلسل تلفزيوني أو فيلم سينمائي أنتج قبل أكثر من عقد، بحيث تتحرك شفتا الممثل ولا تسمع أي شيء، وهو أسلوب بليد ومثير للرثاء، يدل على أن الرقيب الحالي أكثر تخلفا و رجعية؟
ـــــــــــ
إن الرقيب الأخطر هو الرقابة الذاتية، ففي قلب كل مبدع ثمة رقيب صغير، بيد أن الكاتب الحقيقي يعرف كيف يتحايل على كل المحظورات، ويقاوم كل أشكال التدجين، ففي الستينات، أبدع هذا الجيل الذهبي أجمل النصوص الروائية والقصصية والشعرية، رغم ضيق هامش الحرية. وليت هذا الرقيب، يكف عن التضييق على الحريات باسم الدين والأخلاق.. لأن الكاتب المبدع صاحب رسالة، والقارئ الحقيقي لا يمكن استبلاده، ويعرف كيف يرمي بالكتب الرخيصة والتافهة في مزبلة التاريخ. وفي غياب أي سلاح ثقافي، يشكل التلفزيون وسيلة استلاب ماكرة وخطيرة، تزرع قيما جديدة وغريبة عن بيئتنا العربية المسلمة، ويتقبلها المشاهد العربي بسهولة، دون أن يعي بأن هويته تطمس، ويتحول إلى كائن ممسوخ، غير قادر على التمييز بين الصالح و الطالح.
ـــــــــــــــ
كم هو غبي هذا الرقيب العربي حين يحاصر الكتّاب والمفكرين و المشايخ ، ويتغاضى عن معتوه يدعي الألوهية بموقع الفيسبوك، ويتطاول على الذات الإلهية والأنبياء، ومراهق يؤسس منتدى جنسيا، وآخر ينشئ مدونة خاصة بالملحدين، ولأن بعض البلدان العربية المحافظة تحجب المواقع الإباحية، فإن شباب وشابات تلك البلدان يتداولون مقاطع ملتهبة عبر "البلوثوت"، بعد أن يتم تحميلها كهدايا من إخوانهم العرب عبر المسنجر أو الرسائل الالكترونية، وآخرون يقومون بالإيقاع بالبنات، وتصوير محادثاتهم معهن، لكن تظهر الضحية فقط، وفي أوضاع حميمية، ثم ينشرونها عبر عدة مواقع تحفل بالمقاطع الساخنة والفضائح الجنسية.... !!
لماذا يتغاضىالسيد الرقيب عن مثل هؤلاء؟
قد يقول قائل: إنهم يخدمون مخططات صهيونية. لكن أمثال هؤلاء لا يملكون أي وعي سياسي أو ثقافي. هم يلهون فقط، ويستمتعون بألعابهم الشيطانية، فالطبيعة الإنسانية ميالة بطبعها إلى التمرد على كل السلطات، بدليل أن الشارع يغدو المسرح الوحيد، الذي يتدرب فيه الناس على اختراق قيم البيت والمدرسة، و الانفلات من كل قيد...