http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  «المرأة في شعر المرأة»
 
«المرأة في شعر المرأة»
كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الأربعاء، 25 مايو، 2011

 

«المرأة في شعر المرأة»..الشاعرتان
عائشة البصري وربيعة جلطي نموذج الشاعرة في برزخها الإبداعي

 
                     عائشة لبصير ــ ربيعة جلطي    
د. العالية ماء العينين
يبتعد عنوان “المرأة في شعر المرأة” عن التسمية الاشكالية: “الشعر النسائي” إلا أنني شخصياً أعتبر أن النظرة التحقيرية أو الدونية لأدب المرأة لا يحددها أو يحكمها هذا المصطلح أو ذاك بل خلفية التناول ومحتوى البحث أو الدراسة. ورغم احترامي للعديد من الباحثين الذين خاضوا في هذا النقاش إلا أنني أرى أن هذا الموضوع وأحياناً كثيرة يأخذ أكثر من مساحته ويصبح نقاشاً للمزايدة والقفز على مواضيع أكثر أحقية بالنقاش. فلنتجاوز نظرية المؤامرة في الأدب ولننطلق إلى المزيد من اكتشاف ذواتنا في تنوعاتها حتى وإن اعتبرنا مقولة الفرزدق: “إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فاذبحوها” مجرد دعوة لأن تصيح الدجاجة صيحتها ولا تتشبه بالديك
حصرت بحثي أو قراءتي، تفادياً للسقوط في التعميم والتعويم، في نماذج اخترتها مغاربية لسببين: أولهما ذاتي، أي انتمائي لهذا الفضاء ودخول الموضوع في دائرة اهتمامي ودراستي، وثانيهما موضوعي لأني على قناعة عامة أنه رغم كل وسائل الاتصال والتواصل الثقافي والاجتماعي إلا أن العلاقة بين مغرب العُرب ومشرقه ما زالت متعثرة ومبنية على الافتراض والخلفيات الجاهزة. لا أتحدث عن الأدب فقط ولكن على كل المستويات.
 
والنماذج المختارة هي: عائشة البصري من المغرب وربيعة جلطي من الجزائر عائشة البصري وربيعة الجلطي نموذجان من التجربة الشعرية الجديدة في الجزائر والمغرب. استطاعتا أن تحققا تراكماً هاماً على الساحة العربية عموماً والمغاربية بوجه خاص، يشكل لبنات هامة في جدار البوح الشعري النسائي، وهو ما سيمكننا من الوقوف على جانب من هواجس هذه النصوص وتصوراتها.
قراءة عاشقة
المناهج سلاح ذو حدين فنحن وإن كنا لا نناقش أهميتها وقيمتها العلمية كأدوات متخصصة لقراءة النصوص فإنها قد تتجاوز القراءة والاشتغال إلى العبث بها بل وتطويعها أحياناً. لن أقول إنني سأقتحم هذه العوالم الإبداعية بدون خلفية أو قناعات. بل سأحاول وبدفعة من قراءة عاشقة، أن أكون ذلك القارئ صاحب الرؤوس الثلاثة الذي افترضه الدكتور علي بن تميم، فالنص الشعري كائن حي حر سريع الحركة والتنقل. والنقد/ القراءة، يجب أن يكون كذلك فالنص قد يكون أحجية أو الغازاً وأبواباً سريّة كثيرة، وقد يكون أبسط مما نتصور. تعالوا معي إلى رحلة في عوالم الشاعرتين عائشة وربيعة مستجيبين لدعوة جلال الدين بن الرومي والتي افتتحت بها عائشة البصري ديوانها “اصغ إلى الأرواح الماثلة في القصائد، دعها تأخذك حيث تشاء”. ولنستمع أيضا إلى عتاب نيوتن على لسان ربيعة: “نحن نبني الكثير من الجدران والقليل من الجسور”.
وأظن أن الراغب في بناء جسور لمرافقة الشاعرتين لن يصاب بلوثة التصحر أو الصوت الواحد ورتابة الإيقاع، فرغم أن أولى عتبات الديوانين (العناوين) (ليلة سريعة العطب و حجر حائر) تسرعان بالوشاية بأَنَا قلقة وربما هشة وفي مهب الرياح إلا أن تلك الأنا ستفاجئنا بصولاتها في أعماق ذاتها تماما كجولاتها خارج أناها؛ فالقلق والحيرة تذوبان في ثنايا لغة بادلتهما العشق فأرخت عنان حبالها استسلاماً للغواية حينا ولقوة المحاور أغلب الأحيان...فبم همست الشاعرتان و كيف تبينتا موقعهما وما الذي تريا المرأة عليه وفيه..؟
التموقع المابَيْني وتجلياته
منذ سنوات خلت وفي إطار العمل على أطروحتي حول الشعر النسائي الشعبي أو الشفوي أتيحت لي فرصة الاطلاع على مجموعة من التجارب الإبداعية العالمية في هذا المجال أي الثقافة الشعبية. ووجدتني أمام مسألة هامة تطرح نفسها وهي أننا كنا ولا زلنا نؤرخ لامرأة “رسمية” إن صح هذا التعبير؛ فكتبت مقالة تحت عنوان “في النساء عجبان أم لهنَّ سيرتان” تحدثت خلالها عن ما لاحظته من جرأة بل وإباحية أحيانا في بعض نماذج الشعر الشعبي وخصوصا شعر نساء البشتون. وبالعودة إلى التاريخ وقفت على نماذج عن نساء الهامش وخصوصا الجواري فهن نساء وكان يسمح لهن بما لم يسمح به للحرائر، وكنَّ بارعات في الغناء والشعر والرقص بل وحتى في الكتابة وبعض العلوم. ومع ذلك فإن التاريخ أقصاهن من تاريخ النساء وكأنهن لسن كذلك بدعوى عبوديتهن. وأشرت إلى علية بنت الرشيد كشكل من أشكال الخروج عن المعتاد (حكايتها مع غلامها طل) ولكني حينها لم أفكر في موقعها. ولاحقاً عندما اطلعت على ما كتبه الغذامي عن وضعها كسيدة حرة وابنة جارية ووضعها في المابين، تفتح أمامي هذا النسق “المابيني” والذي أراه حاضرا في شعر المرأة الحديثة ولكن كممارسة أو اختيار يبدو واعياً بطبيعة هذا الموقع.
يقول الغذامي: “هذان نسقان واضحان والفصل بينهما واضح وليس من مشكل اجتماعي وثقافي لدى أسلافنا في هذين النموذجين ولكن المشكل يأتي حينما يخرج لنا نموذج “بين بين” أي حينما تخرج لنا سيدة تسعى إلى إظهار صوتها وإظهار مشاعرها وهي ليست بالجارية فتعامل معاملة الجواري. كما أنها لم ترض بالشرط الثقافي المتستر على السيدة الحرة والتي تكون حريتها السيادية في قبولها للشرط الثقافي والاجتماعي”.
هذا الواقع “المابيني” الذي فرض نفسه على “المرأة” في ثقافتنا الماضية، سنلاحظ انه سيصبح اختيارا فكريا وإبداعيا مع شاعرات من زمننا هذا يشعرن بأنهن في برزخ بين حياتين لا فرق بينهما سوى الإيقاع، بين شخصيتين واحدة تتملكهم وأخرى يمتلكونها، بين الآن والمابعد.
تقول ربيعة جلطي في قصيدة أهدتها إلى أولئك الشباب الذين يلقون بأنفسهم في البحر المخادع بحثا عن حلم / سراب. تحت عنوان “نشيج الغرانيق”، حيث تتوحد الأنا معهم هناك حيث تجد نفسها في المابين:
لغتي حاسرة الرأس/ إلا من غزال الرغبة
وأنا الأقلية بين قوسين وأنت في سريرهم/ لست لي
وددت التشجر فيك انتصاراً/ والمرارة محض ذكرى
ولكنني بين “الدفة والحيط”/ وأنت لست لي...
نلاحظ هنا أن الشاعرة تتأرجح بين البوح والسر، بين الانصهار في الرغبة والخوف منها (فلغتها حاسرة الرأس إلا من غزال الرغبة، مكشوفة وغامضة).
وفي “أحلام شرسة” تعلن الشاعرة عائشة البصري:
يحدث غالباً/ أن أستلقي في المابين/ نظرةٌ للسماء،/ وكفٌّ يحضِن التراب./ أرتِّق أحلامي/ قبل أن تتحرش بي مجازات القصيدة...
كما لو أن “المابين” عند الشاعرة، طقس من طقوس القصيدة والاستعداد لاستقبالها..فالشاعرة تسترجع موقعا لها حقوق ملكيته، موقع، تستشعره ولا أحد يستطيع القبض عليه، تماما كالبرزخ، هناك حيث لا يشكل الموت و الغياب، نهاية الحياة بل قارب الانتقال بين ضفة وأخرى... تقول عائشة:
ندبة ضوء/ أيقظت غفوة الزمن،/ كما لو أننا متنا قليلا،/ كما لو كنا توابيت على معبر،/ ننتظر تصريحا للعبور.
هذه المابيْنيَّة نستشعرُ تجلياتها وصورَها في حالات ثلاث تبيناها تسري في نصوص الشاعرتين وتحفر ممرات واخاديد عميقة فيها: ما بين الغربة / والعزلة، ما بين القلق / والحيرة، ما بين التخفي/ والسرية.
الغربة/ العزلة
تجربة الغربة في الشعر العربي من التيمات التي قتلت بحثاً وتوقفت عندها الأبحاث والدراسات منذ الشعر الجاهلي (غربة المكان/ التنقل) ومرورا بكل المراحل التي مرت منها القصيدة العربية وخصوصا عند الرومانسيين وشعراء المهجر والقصيدة الحديثة بكل تلوناتها وإلى يومنا هذا. وقد اتخذت الغربة أشكالاً عدة وبتأثر واضح من التجربة الغربية خصوصا بعد أرض “توماس اليوت” الخراب أو الأرض اليباب، فمن الغربة في الوجود/ الكون، إلى الغربة في الحب إلى الغربة في المدينة.. بل وفي الكلمة..كما يؤكد ذلك الشاعر والأديب المرحوم مصطفى المعداوي في دراسته القيمة حول “ظاهرة الشعر الحديث” والتي خصص قسما منها لتجربة الغربة والضياع . إلا أن الشاعرة وكما سنرى تتمثل هذه الغربة كفتح وولادة فتصبح العزلة مطلبا لمزيد من التدبر في الذات والكون والآخر .. وتصبح الغربة فرصةٌ للارتواء و الانتفاض وليست خراباً. تقول ربيعة جلطي في “استقالة الوردة”:
غريبة بين الزواحف أنت / والشعر يناديك قنديلُه:
احذَري منك خراب الروح.../ احذَري أن تتعري من مائك الحلو/ احذري الأقنعة اللماحة/ احذري نسيان انوثتك على مشجب/ احذري جفاء القلم/ وحزن المحبرة.
بعد أن تقرر غربتها تتوالى المحاذير، لتكون بناءً للذات في تكاملها الأنثوي والإنساني، حتى تكون غربتُها/ عزلتُها، موت عنقاء تنتفض من غبارها/ برزخها، معلنة عن استمرارها. تقول في قصيدة تحت عنوان” ما يشبه الوصية”:
لا إرث لي فأترُكُه/ سوى حكمٍ/ تورقُ الكتبُ/ وما علمته الينابيعُ لي/ يختبئ الكلامُ تارة/ وتارة أخرى/ يفِرُّ إلى المطلق/ لا أنيسَ لي/ غربتي مأهولةٌ وواسعة.
الغربة هنا شديدة الخصوصية؛ فكيف تكون غربة ومأهولة؟ ولماذا اختارت الشاعرة كلمة مأهول ولم تستعمل كلمة أخرى تدل على الامتلاء أو الكثرة، المكان المأهول لغة هو العامر بأهله.. وبين الأهل (بمطلق الكلمة) لا مجال للغربة. فالشاعرة لا تبكي ولا تبتغي شفقة...فهي تمارس طقوس منزلها/ موقعها هناك حيث الغربة والعزلة من حياكة الذات وتحت طلبها. فكأنها تقول إن الأمر ليس كما يبدو لكم معشر الزواحف. تقول عائشة البصري:
من خشونة الرمل/ أُلبسني خرقة التصوف/
حافية أدهس أشواكا سرية الأسماء و أصيح في المطلق
ما سرُّ الحياة في البدء./ ما حكمة الرمل في عدم التشابه
فيرد الصدى/ لا سرّ يخفى/ عن صفاء السريرة/ حدقي مليا في مرايا الحجر / تأتيك الرؤى مبايعة بين يديك.
فالشاعرة تتخذ من العزلة ملاذا لقراءة سير الحياة كما يعبر عن ذلك محمد الكلاف، و أقول إنها تسلك مسالك الصوفية في الانزواء لقراءة كنه الحياة ... حتى يأتيها السر مبايعا، خافضا جناح الذل.. وزاحفا إليها هناك حيث تختال في برزخها، تمارس غواية العزلة.
بين التخفي والسريّة
الشعر بوح وتفريغ، وهو الحِضن الذي نبوح له بما يقال وما لا يقال على حد تعبير شاعرتنا ربيعة في أحد لقاءاتها الصحفية. ولأن الشاعرة المأخوذة بإقامتها البرزخية، مفتونةٌ بحميمية علاقتها باللغة والحياة .. فهي تخاتلها بالظهور تارة والتخفي تارة أخرى بين إيقاعين: الأول يخص ذاكرة موشومة بالانصياع إلى رغبة ذكورية حريميه دفنت الأنثى بين الثرثرة والكبت (النساء يعشقن الكلام - النساء لا يجب أن يتحدثن في كل شيء)، والثاني يخص شخصية المبدعة التي تمارس بوحها بقوة أحيانا وبشطحات موغلة في التصوف أحيانا كثيرة فيكون التخفي تجلياً وفيضاً وانبثاقاً ونوراً...تقول ربيعة:
من حسن حظ العين/ إنها خزانةُ ضوء/ مفتوحةٌ على مصراعيها/ حرةٌ / عاريةٌ/ غامضةٌ/ وحيدةٌ/ ترى ما تراه جارتُها/ لمّا ولمْ ولنْ تراها./ من حسن حظ الطريق/ صمتُها/ لا تسأل العابرين عن وِجهتهم/ لا تحتاج مِظلةً/ ولا تتوكأ كَتِفاً/ ولا تخشى قُطّاع الطرق.
قصائد ربيعة “صمت مقْتَصِدٌ وموحي يبوح بالكثير من الأسرار”، وللقصيدة أن تحفظ أو تشِيَ بما أسرت لها به الشاعرة:
تحت شرفتي/ مقعدان من حجرٍ/ دونَهما/ أغلقا باب النُّعاسِ/ أشرعا سماءَهُما للسهر/ يضحكان حتى انفراج السرَّة بينهما/ يتغامزان يتأففان/ يحوقلان/ يبسملان/ يوشوشان أسرار الجلساء../
إلى أن تقول:
تحت شرفتي/ المقعدان اللئيمان/ المقعدان الحكيمان/ يفتحان باب النومِ/ يتثاءبان/ والله/ الكريم/ يحمَدان../ على أنهما حجر...
في قصيدتها هذه يتعايش الضدان على إيقاعي الظهور والاختفاء/ الانفجار والجمود، ومن هنا يكتسب المقعدان اللئيمان حكمتهما؛ فلا أحد بمستطاعه اختراق أسرارهما، كما هما مع الجلساء. وكأني بالشاعرة تغبط الحجر على لؤمه/ حكمته.
وفي ديوان عائشة ومن قصيدتها “عزلة الرمل” فكَّت شاعرتنا ضفائر روحها للصحراء وانصهرت في فضائها المنفتح المترامي، الحاضر/ الغائب، تماما كسراب يستحيل القبضُ عليه. فمع الرمل ومنه نسجت حكايات وأغانٍ وصيحات تقول ما لا تُسمِع وتُسمِع ما لا تقول:
ابتعد النهار عن ضوئه/ لا أفق يحجب الماء عن سرّه/ صمت أسود يعمي البصيرة/ لا مفر من تلمس نتوءات الظُّلمة/ لفتح مسالك الطريق/ ابتلعتنا العتمة التصقت أجسادنا بالحديد/ وتفتتت الأصابع على السياج/ هاوية الظلمة أشهى من الضوء.
فابتعاد النهار عن ضوئه تحرير للماء للالتحام بسره، الضوء حجاب كما رأينا سابقاً في إحدى قصائد ربيعة حين تقول:
في صخب العناق/ يوجعني الضوء الوفير بيننا/ فلا أنت تراني ولا أنا أراك..
فلا عجب إذا أن ترى الشاعرة أن، هاوية الظُّلمة أشهى من الضوء كما عبرت عائشة.
المرأة / الأنثى
وأدخل في هذا الباب كل ما عنده علاقة بالجانب الذاتي والعاطفي الخاص بالمرأة كما هو حاضر وبقوة في شعرها، وذلك ما اعتبره انسجاما مع الذات المتكاملة الزوايا. وأقف هنا لأفتح قوسا، وأقول: إن تهرب المرأة من أنوثتها وكلِّ ما يرتبط بها أو تهريبها والتضييق عليها، والذي بدا واضحا عند العديد من الحركات النسوية العربية خصوصا في بدايتها، لم يكن في عمومه خجلا أو خوفا أو حتى تحقيرا للذات بل كان جلدا لها و هجوماً مازوشياً لا إرادياً كوسيلة للدفاع أمام مجتمع (المجتمع برجاله ونسائه) حاول دائما أن يسجنها في صفات معينة مرتبطة اكثر بالهشاشة والضعف، والنظر إليها كشبهة تحمل أسباب الفتنة ودائما متلبسة بالجرم المشهود. وفي هكذا موقع أو موقف فإن المرأة تشعر انه إذا كان لابد من التضحية فستكون بأنوثة تسببت في تجريمها.
إلا أن الشعر أعاد مد الجسور وفجر كوامن المحظور فأعلنت الشاعرة / الانثى عن نفسها بقوة وحب، وبدرجة عالية من ترسم نتوءات الأحاسيس ورغبة ٍمتعطشة للامتلاء والاكتفاء، وتحرير نفسها من حبال الخوف والتردد مهما اشتدت قساوة الآخر حتى ولو كان الزمن. تقول عائشة البصري:
لا تكابري...
دعي ينبوع الرجفة يمضي إلى مصبه
دعي الضوء يمرق بين خرابات الروح
مالذي يُغويك في هذا العراء ؟
مالذي يجعلك تنفرين
نجوما تتآلف حباً حولك...
وعلى نفس المنوال تناجي ربيعة ربها في قصيدة حملت اسمه تعالى “يا رب”:
ساعدني يا ربي
على أن لا أكونها
أنثى على عداء مع الدنيا...
بعدما تعلن الشاعرة عن نفسها كأنثى وبقوة وبكل اعتزاز نتساءل، بأي الأسرار والرغبات باحت لشعرها؟
قبل أن تعلن الشاعرة انتصارها للحب كعاطفة إنسانية في علاقة المرأة بالرجل وبالحياة كان لزاما عليها أن تقطع حبلَ سُرَّةٍ ما انفك يزعجها، إن أناها ليست عارا ولا إغراءً بالخطيئة...تقول عائشة:
لن أكون تفاحة غواية
ولا حتى قطرة ماء
هم الذئاب في غابة الإسمنت
وأنا عابرة سبيل...
فالشاعرة في هذا المستوى العاطفي الأول تبدو و كأنها تضع إطارا أو تحديدا لروحها كباحثة عن الحب أبدا، للعاشقة التي لا تمل ولا توقفها الجراح ولا الخريف ولا القيود. وبعد أن تقدم شهادة تعريف تبرئها من شبهة الغواية، ترخي الأنثى العنان لمشاعرها وحاجتها الدفينة لتلقي الحب بدون حسابات. فتكتشف معها الأنثى الرقيقة الهشة بل والخاضعة إلى درجة التشيؤ أحيانا استسلاما للعاطفة...و لسان حالها يردد مع ربيعة مقولة جلال الدين الرومي: “أقبل العقل فهيا لتتوارى بنفسك منه أيها العاشق”، والتي جعلتها مدخلا لقصيدتها “غيرة” فالعشق عند الشاعرة مرادفٌ للجنون، للانطلاق، للتحرر من سلطة العقل. (والعقل في لسان العرب الحِجْرُ والنهى. والعاقل، الذي يحبس نفسه ويردُّها عن هواها أُخذ من قولهم قد اعتقل لسانٌه إذا حُبِس ومُنع عن الكلام). و تبدو المرأة / الشاعرة كذلك، فقد حُبِست واعْتُقِلَ لِسانها وتمَّ ردُّها عن هواها أول الأمر (فتنة) وحبَست نفسها ورَدَّتها عن هواها في آخر الأمر (مخافة الشبهة)...
فعن ماذا أسفر فك المرأة لاعتقال لسانها؟
تقول ربيعة في “غيرة”:
أريد لحظتين لي وحدي
لا ثالث لي فيك
خارج طقس النيران
أخاف منه وفيه عليك ...
أريد لحظتين لي وحدي
لا ثالث لي فيك
أريد لحظتين لي وحدي
إني أغار منها عليك..
هذه الرغبة الملتحفة بالغيرة تحركها الحاجة، فالحب كما تطلبه الشاعرة وترغبه ليس متاحا على رصيف الشهوات بل هو أعز ما يطلب فإن وجد فلا لوم عليها: تقول عائشة:
نامي أيتها الظهيرة في سريري
سأخرج الآن
لأقطف حبات الكرزِ من ثغر المدينة
لو حدث ما لا يحدث
واستعذبت حبةَ
لعدت لك بحمرة الماء
ولوَّنا الليل معا
لا تراوديني أيتها الظهيرة
خملت روحي في حِضنك
وأخرتني عن موعد الفراشات
لو حدث ما لا يحدث
وتعثرتُ في طراوة عشبِ
ونمتُ عليه
لعدت لك بحَفنةِ دفءٍ
ننثرها في صقيع الغرفة
نامي أيتها الظهيرة في سريري
سأغادر الآن لو حدث ما لا يحدث دائما
وعلِق شال الحرير بسياج الحبيب
أغلقِي الشُّباك جيدا/ ولا تنتظريني.
قولها لا تنتظريني، يعني الغياب وعدم التراجع والمجازفة يعني العطاء من غير حدود وبدون انتظار المقابل. وتلك هي المرأة عندما تحب كما سنرى في مواطن أخرى من شعرها، حتى تتمنى أن تكون قصيدة تنبت في لغة حبيب. يقال إن المرأة تعشق الكلمة الجميلة، وقد يذهبون أبعد من ذلك ليتهموها أنها تحب المظاهر الجميلة وتطلبُها، وسيان أحبت المرأة كلمة أو وردة أو حتى زجاجة عطر فاخرة، فإن ما يجمعها هو جمال ورطوبة في وجه الجفاف... فالشاعرة في الأبيات الماضية، لا تخفي رغبتها في التشيؤ إذا كان ذلك سيضمن لها قرب الحبيب (وهو ما نراه جليا في نماذج الشعر الشعبي) وهذا يوافق ما أسلفنا الحديث عنه من كون المرأة العاشقة لا حدود لعطائها ولثقتها بنفسها وحتى قوتها وهي في قمة استسلامها لضوابط القلب/ أي في حالة الجنون..تقول:
مولاي../ لن تمل مني/ لن تمل من شلالاتي الملونة/ من تسابيحي/ من مصابيحي/ تنهمر من مشارفها الأغاني
للإشارة فعنوان هذه القصيدة هو “أسلحة الغرام الشامل” وحتى تكون لازمتُها: مولاي، في إطارها الصحيح لا بد من الإشارة إلى أن الشاعرة قدمت لها بمقولة سيدي عبد الرحمان المجذوب (؟): “حْديثْ النسا يونس ويعلم لفهامة” فضعف المرأة وتنازلها هو في الذاكرة الشعبية شكل من أشكال أسلحتها وقوتها...
ثالثا: المرأة المفتخرة بنفسها، بين التميز والرمزية وإلى القدسية..
ارتبط الفخر في الذاكرة الشعرية العربية بالفحولة الفردية والتغني بأمجاد القبيلة وهو دور رجولي بامتياز وحتى عندما خاضت المرأة غمار الشعر فقد ارتبطت ببكائياته قديما، و بمزيد من السفر في حنايا الذات أو الانغماس في القضايا القومية أو الإنسانية الكبرى، في مراحل متأخرة. ولكن الحديثَ عن المرأة والفخر يبدو و كانه خارج قانون وسُنَّة الشعرية النسائية خصوصا حول نفسها.
ومع ذلك فإن المرأة/ الرمز ومكمنَ الفخر وحتى القداسة، حاضرة جدا عند شواعرنا. فسنجد الفخر بالانتماء كما عهدناه في الشعرية العربية، ولكن بلمسة إبداعية جميلة (او هكذا تراءت لي) تقول ربيعة جلطي في قصيدتها السابقة:
مولاي لن تمل مني
كما النار يهُج من ألسنتها الحمام
أنا الأندلسية البربرية
امشي فوق الوتر الخامس ملَكا (طاهرةٌ)
مباهج دمي
وهَج النار من سيوف يوغرطة
ورقراقِ السواقي من أصابعِ زرياب
أتوحم على رمانة غرناطة
وفي كؤوسي
رعشة خلجان الشرق
والغرب
والجنوب
والشمال..
تفتخر الشاعرة بأنها جمعت الحسن من مكامنه أمازيغية أندلسية، تصاحب الوتر الخامس، اختراع زرياب، المشرقي الأندلسي. لتنتهي إلى أنها رعشة الكون، شرقا وغربا وجنوب وشمالا. ورغم وجود نماذج أخرى تعزز هذه الروح الفخرية عند الشاعرة . إلا أنني سأتجاوزها إلى مراتب أعلى بلغت فيها المرأة مبلغ القداسة. وتحضر السيدة مريم العذراء كأيقونة ليس فقط في الثقافة المسيحية ولكن وبشكل أعمق في المرجعية الإسلامية.
وسأختار نموذجا من شعر ربيعة الجلطي (مريم حاضرة حتى في شعر عائشة) في قصيدتها البديعة “أنوثة متطرفة” وهي حوار بين المرأة والمخاض...أقول بديعة لأن ما من امرأة إلا وستجد فيها ترجمةً لكل ذلك العذاب اللذيذ والمتعة المقدسة المحفوظة الملكية للنساء عند مطارحتهن المخاض... والتي بلغت أوج قداستها بلحظة ولادة المسيح سيدنا عيسى عليه السلام. وما أروع وصف القرآن لتلك اللحظات. والتي ستستحضرها الشاعرة كنوع من إضفاء القداسة على فعل الولادة الذي اختص الله به المرأة.
لن أستطيع إدراج القصيدة كاملة ولكني سأحاول عدم إفساد انسيابها
تقول، ربيعة / الأم و الشاعرة و المرأة:
.......
أسير ُ إليك هكذا
يا مخاضيَ العسير،
بيقين فراشة
تسلِّم ألوانها لِلَهبٍ.
فاجأني طلقُ البراكين
كنتُ في طريقي إليك
غريرةً
كنتَ في طريقك إلي/
تحمل فانوسا من ماء.
لم تشأ لتفسد على البجع رقصتها
مسحت عَرقي
كأنك طمأنت هلعي
قلت لي
هكذا من بدء التكوين النساءُ
يمشين فوق الماء...هكذا
يراقصن السيوف القاطعةَ هكذا
يخاصرن الشمعدانات هكذا
بين المجرد والمجسد يلتوين هكذا
لم اعد أسمعك
كنتُ طريحتك الشهية
أين امضي بك
كيف اهتدي إلى اليابسة يا مخاضي ..؟
لا فِكاك لي منك
لا فِكاك لك مني
امهلني استراحةً على سرير اللحظة الآتية
انتظرني عاريا مني
دعني أداعب الوجع المعانق لي
أريد قليلا من الماء أريد كثيراً من الهواء.....
دعك مني أيها المخاض
بل هِيت لك
أَنَّى لي أن أفِرَّ منك
أنَّى لك أن تفِر مني
أحتاجك لتجتاحني
أجتاحك لتحتاجني....
أأصعد إليك أيها المخاض
ام تصعد إليَّ
أأنزل إليك أم تنزل إلي؟
 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free