http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  المسرح من دون وعي نظري
 

المسرح من دون وعي نظري
والنظرية من دون فهم يؤديان إلى كسل فكري
كتب : انور محمد

عبد الرحمن بن زيدان: لم نبدأ بموليير بدأنا بالملاحم والفرجات الشعبية التي لا تناسب النموذج العربي كاتب وناقد ومنظِّر مسرحي مغربي لم يتقلَّب في مواقفه, بل جاهر بعدائه للمتملقين المشتغلين في الثقافة والمسرح. التقيناه في الجزائر ضمن فعاليات مهرجان المسرح الدولي: التنظير والنقد المسرحي لا شكَّ يحمي النص من التعفُّن، ويحمي العرض من الموت بعد العرض، لكن ألا تلاحظ أنه مُغلٌّ في خطابه الراهن؟ } لعلَّ الدور الذي يقوم به التنظير المسرحي في ثقافة وفهم الفاعلين المسرحيين العرب في إدراك حياة النص هو الدور الذي يعادل ما يقوم به فعل كتابة الدهشة في النص، لأن التنظير في الكتابة، والكتابة في التنظير كلاهما يفكر في تفعيل وجود كلام النص بالكتابة الدرامية، وتفعيل لغة النقد أثناء بناء درامية النص، فيمتد المعنى إلى معناه، ويستقر الإيحاء في قوته الدافعة بالكتابة كي تسير نحو البوح بعمقها الاجتماعي أو الأسطوري أو التخييلي. وهنا لا يمكن أن نتصوَّر وجود نص إبداعي، أو أي نص مسرحي دون وجود تنظير سابق على ميلاده يضمن لفعالية الكتابة جدواها من الوجود، ويضمن لها اكتساب شرعيتها في هذا الوجود، ويجعلها تحافظ على استمراريتها في التفاعل مع زمن الإبداع، ومع سياقاته الموجودة، أو علاماته المفقودة، ذلك أنَّ التنظير في الإبداع يعتبر قوَّة إجرائية تحفِّز الكتابة على التنظير لكينونتها بالتصورات، وشكل البناء والتداعيات والتخييل والصراع وسمات دلالاته، وبعلامات ما يتكلم به هذا التنظير وهو يروم الوصول إلى بلاغة النص بدرامية النص ذاته التي هي درامية النظرية وقد تمَّ قبولها ورفضها، وتفكيك مفاهيمها، وتجاوزها لبناء المختلف في نظرية الدراما كما يعلن عنها النص المكتوب, وهو ما ينتج منه تنظير آخر هو الذي يكتب خصوصيات النص من الداخل كنص مغلق يحيل على عوالم بنائه الرصيد المعرفي والثقافي للكاتب وهو يسعى إلى تحصين إبداعه من السقوط في فراغات المعنى التي غادرها المعنى، ويجعل كلامه بالنظرية التي تختفي قبل وبعد إنجاز النص الدرامي أساساً معرفياً هو بوصلة السير ببلاغة الكتابة نحو إعطاء قراءة هذا النص إمكانية تجنيسه حسب النظريات التي تختفي بين طياته، أو أنها كانت المفردات التي لحمت أثناء ممارسة التخييل، والتورط في جماليات الخيال معنى النص لتحميه من التعفن الدلالي، أو تحميه من السقوط في سطحية الحوار أو تكرار ما قيل. إنَّ المسرح دون وعي نظري، والنظرية دون فهم عميق لجهازها المعرفي كثيراً ما يؤدِّي بالممارسة المسرحية إلى كسلٍ فكري لا تستطيع معه محو الدلالة المعتوهة بالضحالة من أزمنة الكتابة والإبداع، ولا تقدر على تقوية هذه الممارسة كي تملك القدرة على تحرير بناء النص من تفكُّك بنيَّات النص وأنساقه، ولا تتمكَّن أيضاً من أن تمتّن العلاقة بين المفردات التي تنتج خطاب النص بدرامية النص، وتضفي عليه شاعريته ليتحوَّل جامع النص بمتخيّله، وواقعيته، وأسطوريته، وتاريخه، وتراثه إلى رؤية متراصَّة البنيان، خصوصاً أنَّ كل مفردة من مفردات النص الدرامي إلا وتكون مدعومة بنظريات تعمل على تشغيلها بذكاء وبمهارة وبشعور ولا شعور تتمكَّن بها حيوية النص من وضع حدّ لكل عفونة يمكن أن تلوِّث جمالية اللغة المسرحية، أو تُشوِّش على سلامة الصورة المسرحية وبهائها. التواصل هل يعني هذا وجود علاقة متينة بين لغة النص المكتوب والنظرية التي تنير لهذه اللغة سبل إبداع النص المسرحي؟ } طبعاً هذا يعني أنَّ التواصل المعرفي ما بين لغة النص المكتوب بهذه المفردات، وبين لغة وعلامات العرض المسرحي هو ما يمكِّن جمالية تلقِّي المسرح من أن يصبح عند تقبله مسرحاً مدهشاً بجديده، ومدهشاً بارتباطه بكل الأزمنة والأمكنة والحيوات، وهذا يبقى دائماً مشروطاً بالامتلاء المعرفي الذي يكتب أزمنة وأحداث النص، ويظل مشروطاً أيضاً بوجود نظريات عارفة بتاريخ وبتجارب المسرح، وعارفة بالبنيات العميقة لكل ما تحمله الثقافة الإنسانية، ومُلمّة بأسرار تحويل هذه المعرفة إلى مخاض حقيقي بين الذات والموضوع يكون أساسه المعرفة المنفتحة على بلاغات تجارب سابقة وتجارب لاحقة، مما سيساعد النص على حماية نفسه من التحلُّل في الضياع، ويحمي العرض من الموت بعد انتهاء زمن العرض، لأنَّ هناك عوامل معرفية تشدُّ وجوده بالمعرفة للبقاء على قيد الإبداع. لكن إذا كانت الكتابة المسرحية العربية قد حقَّقت حياتها الإبداعية في الزمن الإبداعي العربي، واختلفت في زوايا النظر إلى نظريات المسرح، وإنتاج لغة النص الدرامي فهذا لا ينفي أنَّها لا تزال تعاني تعثُّرا واضحا يحول دون إنجاز مشروع مسرحي عربي له مقوماته، وله نظرياته، وله رؤاه للإبداع، وله نظرته لشكل التفاعل مع الغرب, لأنَّ ما يطفو على السطح من نظريات هو الدعوة إلى قبول التنظير كمعرفة تغذي ذاكرة النص بما يُجوِّد آليات اشتغال الكتابة الدرامية، والدعوة إلى الثورة على الكتابة النصية بدون مسوغات، والدعوة إلى رفض التعامل باستخفاف مع حيوية المسرح بسطحية واستعلاء، وهو ما يجعل ثنائية المعرفة بالنظرية والجهل بها أو رفضها صراعاً حقيقياً بين المسرحي المثقَّف الذي يريد تأسيس سؤال الكتابة، والمسرح الخالي من السؤال الثقافي حول الجدوى من المعرفة النظرية. قفزة نوعية دائماً تتحدَّث عن الرغبة المتَّقدة عند المسرحيين العرب في إنجاز مسرح عربي بالنص وبالعرض, فكيف يتمُّ ذلك في الزمن الصعب وفي الاختلالات المعرفية الواضحة في الممارسة المسرحية العربية؟ } هذه الاختلالات تجعل ولادة النص المسرحي العربي عسيرةً عسر الواقع التاريخي العربي نفسه، وصعبةً صعوبة الاقتناع بضرورة الوعي النظري بالمسرح لكتابة معنى المسرح، وكتابة معاني تحديث التجربة المسرحية العربية بأبعادها الواقعية والمتخيَّلة والمحكومة دوماً بما يحكم الواقع الثقافي، والسياسي والاختيارات الثقافية والحضارية في الوطن العربي. ولا يعني انغلاق الكتابة المسرحية العربية في محدوديتها والمسدودة في سياقاتها المغلقة مسألة موجودة بصفة مطلقة أو عامة، ذلك أنَّ تفاعل العديد من التجارب المسرحية في الكتابة النصية وفي الإخراج بكل تعقيداته وبكل شروطه الفنية، كان وراء إحداث قفزة نوعية في الممارسة المسرحية العربية، بسبب أنَّ الفاعلين فيها كانوا أصحاب نظريات وكانوا أصحاب قدرة على تمثُّل أعماق هذه النظريات، فاستفادوا منها ولاءموا بين جديدها وبين رؤيتهم، وبحثوا عن الخصوصيات المسرحية العربية دون إقصاء ثقافة تلقي المسرح عند المتلقي العربي. وما هو مُميَّز في هذه القفزة النوعية التي حقَّقها الوعي المسرحي العربي في علاقته بالنظرية، أنَّ القليل من هذه الطفرات تمتلك مقومات هذا الجديد، وتمتلك إمكانات توليد الموقف الدرامي من المواقف الدرامية، وتنجح في الوقوف ضد طوفان الرداءة والضحالة التي بدأت تعمُّ التجربة المسرحية العربية بسبب غياب تمثل حقيقي لشروط تحويل عفوية الكتابة إلى علم مدعوم بعلم المسرح، ومدعوم بالمرجعية الثقافية العربية، دون أيِّ تماهٍ أعمى مع صدى العديد من النظريات المسرحية التي هي في طور التجريب والاختبار، أو هي بريق وقتي زال نوره وخبا بعد تجريبه. إنَّ النموذج والتقليد يقتلان الإبداع ويمحوان التميز والمغايرة من عالم الكتابة، ويبعدان في نهاية المطاف هذا المسرح العربي عن مهامه التاريخية، هذه المهام التي يريد بها تصفية الرؤية الدرامية للعالم وللذات وللهوية من كل تشويش وهو يجرِّب ويبدع ويتحاور ويجادل ولا يفقد الأمل في تعويض غياب المسرح والوعي النظري بثقافة مسرحية لها عمقها ولها دلالاتها الحضارية، ويساعد على الوقوف في وجه من يعيد ما تمت إعادته من تجارب سابقة، ويعمل بمعرفته على أن تُنار عتمات الإبداع العربي في المسرح بسؤال الإبداع المسرحي نفسه. المسرح في جانبٍ منه صدامي، أنت كأحد نقَّاد ومنظِّري المسرح العربي هل اصطدمت مع سلطة، أي سلطة بصفتها قوَّة قهرية في قراءاتك؟ } من البدايات المفترضة للمسرح العربي مع مارون النقاش إلى الآن والمسرح العربي يعيش مع إكراهات المتغيرات التاريخية صدمة ثقافية وفنية وإيديولوجية, يكابد معها الأمرَّين نتيجة هيمنة الآخر الغرب الاستعماري على مسيرات التطلع العربي نحو المستقبل والوقوف أمام كل تغيير يمكن تغييره بالفعل الثقافي. وبفهمهم لهذه الإكراهات أراد المسرحيون العرب فهم واقعهم المحلي والإقليمي والعالمي، وتطلَّعوا بوعيهم إلى فهم كل المتناقضات المترتِّبة على هذه الصدمة التي تتَّخذ أشكالاً ومستويات تتباين حدَّتها، وتختلف انعكاساتها على الفعل المسرحي العربي بخاصة ـ والثقافي بصفة عامة. وهو الحافز الموضوعي الذي كان يدفع بهم إلى أن يكتبوا بهذه الصدمة مصير كتاباتهم درامياً، ويحوِّلوا هذه الصدمة إلى تراجيديا، ويسجلوا وقائع العالم، ويدوِّنوا بمتخيِّلهم تداعيات هذه الصدمة على وعيهم وإحساسهم ورؤيتهم للعالم بإرادة تجاوز المعطى. في الكتابة المسرحية العربية عن هذه الصدمة يكمن تحدِّي غموض الاكراهات ولبسها، وفي البنيات العميقة لهذه الكتابة ينكشف عنف واقع عالمي يتخذ عدَّة توجهاتٍ ومناحٍ فيه كلٌّ من المنظِّر المسرحي العربي والناقد المتقبِّل لهذه الصدمة .. وتبقى المواجهة بين المعطى الثقافي السياسي الموجود بوجود تغيراته حاضراً بقوَّة في فعل مراجعة التاريخ، والتثبُّت من الحقائق أثناء كتابة المسرح الجديد، كما يبقى تجدُّد وجود هذه الصدمة متنامياً بتنامي القوة المعادية للثقافة العربية والإبداع العربي والمسرح العربي، وبين البحث عن الثقافة العربية البديلة وبهذا المعطى يمثّل الصراع المحتدم والجامح مابين القوة الثقافية القهرية التي تريد مصادرة الفعل النقيض لها، وبين القوى الثقافية العربية الحقيقية المعارضة التي تريد فهم حدَّة الصراع في هذه المواجهة حافزاً موضوعياً لهذا المسرح, كي يسعى إلى إسقاط الأقنعة على كل من يدَّعي خدمة الثقافة العربية المسرحية بالمسرح المشكوك في شرعيته بمؤسَّسات تريد أن تصير الوصيَّ الأزلي على المتلقي العربي لتنمية كسل ذهنه, عوض تقوية فعل الفهم والإفهام وإيقاظ الفطنة لديه حتى لا يصير قاصر المدارك والوعي. هل هذا يعني أنَّ هذه المعيقات كما تمثِّلها السلطة القهرية عمل غير بريء في ما يخطَّط له؟ } أكيد أنَّه لا يوجد خطاب بريء يعيش خارج الواقع المادي والاجتماعي وأنَّ الكاتب حين ينتج ما ينتج فإنَّ انتماءه له انتماء، وأنَّ ما يصدر عنه ليس نزوة بريئة وقتية عابرة مهادنة ومسالمة بصوت لا يسمع صوته, لأنَّ القول بدون دلالات وبدون معنى وبدون خلفيات أو مرجعيات حكمٌ مردود من أصله في نفي الانتماء إلى السياسي أو الفكري أو الثقافي، وهو تصريحٌ ضمني بالانتماء إلى موقع, أو انتماءٌ إلى مؤسَّسة, أو إلى ثقافة أو إيديولوجيا، وفي التخلي عن الإقرار بهذا الانتماء يكون التضليل سيِّد العلاقة بين من يدعم التضليل، ومن يسعى إلى فضح هذا التضليل بصدمةٍ تدل على أنَّ المبدع المسرحي العربي لا يمكنه التخلي عن انتمائه، لأنَّه يعتبر نفسه مثقَّفاً عضوياً يتحدى أثار هذه الصدمة ويتجاوزها لتوكيد الكينونة الثقافية العربية. هذا هو الصراع الذي خضته مع التضليل الذي أراد إفراغ الثقافة العربية من محتواها، وخضته ضد من أراد إبعاد المسرح العربي وإفراغه من جوهره الحقيقي، وخضته ضد من أراد تقزيم دور المسرح في قبول هذا التضليل وإتبَّاع سرابات تلميع التضليل بما يخدم التضليل بعيداً عن القضايا الجوهرية التي هي أصل الصراع من أجل البقاء. الصدام هو انتماء إلى الوعي التاريخاني لفهم آليات الصراع كما يكتبه المسرح وكما يتحداه ويتجاوزه بالوعي الممكن، وفهم موقع الثقافة على الخارطة العالمية والمحلية، وربط المسرح باختياراته الأساسية سواءً منها الاختيارات المتعلِّقة بموضوعه، أو تلك المتعلِّقة بجمالياته، أو المتعلِّقة بذاكرته، أو بشكل عودته إلى تراثه وتاريخه، وفي الإصرار على تثبُّت قواعد مسرح عربي، وقراءةٍ مبدعة لدراميته، كنت اصطدم مع سلطة مسرحيين يتخذون من المسرح ذريعة إما لتطبيع الفعل المسرحي العربي مع ما يمثِّل التوجه المعادي للثقافة العربية، أو يتخذون من المسرح مرسحاً لاستطابة الوهم والعيش الدائم في حالة انتظار عدمية. البحث عن أصل الآن الكثير من المشتغلين في المسرح العربي صاروا يمجِّدون السلطة القهرية هذه, إن في انصرافهم في البحث عن جذور للمسرح العربي لتمييع القضايا الكبرى (قضية فلسطين) وكأنَّهم ينزِّلون الستارة على عقولهم فلا يرون ما يجري، أو في هذه العروض التغريبية والتجريبية والتجارية؟ } أيُّ مسرح وأيُّ إبداع وأيَّة ممارسة بدون رؤية، وبدون موقف، وبدون انتماء إلى قضية، أو موضوع، أو معاناة إنسانية عبارةٌ عن خواءٍ فكري يسعى مروِّجوه إلى تدجين المتلقي بالفراغ الذي يتمّ النفخ فيه من أجل تلميع السفاسف والهراء واللا معنى تلبيةً لمتطلبات السلطة القهرية ومصلحتها, ذلك حتى يسهل عليها التحكُّم في بنيات المجتمع. هذه السلطة التي تريد أن توقف حيوية الجدل الذي يحكم العلاقات بالتناقض والاختلاف والحتمية التاريخية. وفي تاريخ المسرح العربي هناك مسرحيون كتبوا للمسرح العربي موضوعه، وبلوروا قضاياه بإبداع وممارسة ثقافية مسؤولية محمَّلة برؤية تراجيدية للتاريخ, وكانوا يقدمونها بعد أن تفاعلوا مع العديد من القضايا المُلِحَّة التي صاغوها درامياً, فعملوا على إشاعة الفهم وإشاعة التساؤل والبوح بالشك أثناء نقد هذه القضايا بالرمز تارةً وبالإيحاء تارةً أخرى, وبالمباشرة الذكية تارة ثالثة حتى صارت هذه القضايا واقعاً حقيقياً ومتخيلاً في الوقت ذاته. إلاَّ أنَّه عندما نثير قضية العلاقة بين المشتغلين بالمسرح والسلطة القهرية المهيمنة، فهذا يعني أن هذه السلطة تحرِّك أدوات اشتغالها في جميع المجالات الممكنة التي لها علاقة بالمثقَّف العربي، ولها علاقة مع المتلقي كي تربح أكثر، فتتحوَّل إلى صانعة للحالات والعاهات وللقرارات وللفرجات وللإيديولوجيات والديماغوجيات التي تتداخل فيما بينها لتوجيه المتلقي توجيهاً قصدياً مقصوداً للحد من فاعلية المسرح، وفعالية المسرحيين الذين يكتبون مصيرهم بحقيقة وواقع هذا الاشتغال الذي يتجلى دوره الحقيقي الفاعل والمتفاعل مع سياقاته التاريخية. نحن باختصار ليس في عمقنا الاستراتيجي المعرفي والفكري مسرح. هل هذه سُبَّة، عار، تهمة، جريمة؟ } لو أعدنا تمثُّل كل الإجابات المقدَّمة من طرف النقَّاد عن هذا السؤال الإشكالي، وقمنا بسبر غور الأزمنة العربية بكلِّ ما حملته من ثقافاتٍ لها مرجعياتها المختلفة، وإسهاماتها الوازنة التي ساهمت في إثراء الفكر الإنساني بدلالات الحياة والتعايش والتفاعل بين الثقافات، لوجدنا أنَّ العمق الاستراتيجي للحيوية الفكرية والفلسفية والسردية العربية كانت تعمل على تعميق عمق الدلالات التي كانت لا ترسم المغلق في الفكر، بل كانت تستبحر المعرفة من مظانها، وكانت تطرِّز معاني الاجتهاد بما يخدم تطوير الأفكار والجدل والاختلاف الذي يعيش سياقاته الثقافية كل من أراد الخوض في تجريب الحوار الثقافي الإنساني. الإجابة المقدمة حول حضور أو غياب المسرح في هذا العمق الاستراتيجي تبقى محكومة بالمنطلقات التي ينطلق منها كل باحث، وكل ناقد، وكل مستشرق، وكل حفّار عن المعرفة في التاريخ العربي, الكل يريد أن يكون سؤال الأصل، أو سؤال المرجع بحثاً عن هذا المسرح ـ الذي يجب أن يكون على هيئة وشكل المسرح الغربي ـ وكانوا يتناسون المجال الثقافي العربي الأكثر خصوبة في التعامل مع التنوع الثقافي، لأنَّ خطاباته كانت تضمر دوماً المقامات والسماجة والحكواتي والتعازي الشيعية وخيال الظل والمدَّاح وكل الظواهر المسرحية المجهضة التي لم تتطوَّر لتصل إلى مستوى الاكتمال اللغوي، والبنيوي، والدرامي. كل هؤلاء النقاد أرادوا البرهنة على أنهم يملكون الكفاية المعرفية في تقديم الطرح الإشكالي حول هذا العمق الاستراتيجي للثقافة العربية، وكانوا يعيدون قراءة الأحكام التي كانت تجنح إلى التعميم، أو تقديم إجابات ترضي من يريد أن يكون المسرح العربي متماهياً في وجوده مع النموذج الغربي. بالمقارنة بين المسرح الغربي كما وجد في عمقه الاستراتيجي، والمسرح العربي كما وجد جنينياً في ثقافته، وأجهض تطوره في ظروفه الخاصة، نؤكِّد أنَّ العديد من الإجابات المقدَّمة في هذا المجال استطاعت أن تصبح متداولة، ومربكة في بعض الأحيان، أولاً في بناء الاستنتاجات، وثانياً في تفصيل القول بوجود مسرح في الثقافة العربية دون وجود بعد حجاجي يبني الأحكام والنتائج المستخلصة من التعميم. إنَّ الاهتمام القرائي بالظواهر المسرحية العربية، والاحتفال بالمكوِّن التأسيسي للمسرح العربي كان مبنياً على المكون التاريخي، والتراثي، والأسطوري، والواقعي، وغالباً ما كانت استنتاجات هذه القراءة والبحث غارقة في الطروحات الاحتمالية حول وجود أو عدم وجود مسرح في الثقافة العربية، وهذه القراءات والبحوث في إجرائيتها كانت مقاربة كمية صاغت أجوبة التأسيس المسرحي العربي في الإطار السياسي والسيوسيوثقافي زمن النهضة، وكان المفهوم السائد في القراءة هو المستمد ممَّا وصل إليه المسرح الغربي، فكان التعامل مع النتائج هو السائد، ولم يتعامل جلُّ الباحثين مع الأصل الضائع، أو المغيَّب في الصنعة المسرحية الشعبية كتمثيل، ولم يقاربوا الحرفة المسرحية، وهذا ما يجعلنا نقول إنَّ المسرح العربي لم يبدأ بمسرح موليير، لكنَّه وُجِدَ بالشكل الذي كانت تفرضه طبيعة التاريخ العربي، وكانت تفرضه أشكال كتابة الملاحم وأشكال الفرجات الشعبية، ويفرضه بهاء العروض الاحتفالية التي لم تكن تتحقَّق وفق النموذج الغربي, ولكنَّها كانت تتحقَّق وفق الأصل الثقافي والمعرفي والاجتماعي الذي كان السياق الاجتماعي والسياسي يحول أحياناً دون تطوير هذا الأصل الذي بقي كما هو بعد أن صار أصلاً لأصله الذي كان حضوره محدوداً في هذا العمق، وكان مشروطاً بما كانت تفرضه الاختيارات التي واكبت تطور السرد العربي وفق ما تريده المؤسَّسات المهيمنة، وبما كانت تبنيه الصفوة العربية وهي تريد تأسيس مسرح يعمل على تحديث الأشكال الموروثة، ويعمل على تحديث لغة الكتابة الدرامية العربية. في هذا السياق عمل رواد المسرح العربي زمن النهضة العربية على تأسيس مسرح عربي يظهر فيه اشتراك دلالي في خطاب النص المسرحي المقتبس من أصله الغربي، وكان تأسيس هذا المسرح يعتمد في كل أزمنة المسرح العربي بعد النهضة قائماً على التراث المسرحي الغربي كمكوِّن خارجي للتأسيس، بعدها صار قائماً على المكوِّن الداخلي الناهض على الثقافة العربية قديمها وحديثها للحفاظ على عمق الدلالة العربية في العمق الاستراتيجي الثقافي، فكان المكونان الخارجي والداخلي يسهمان في تكوين هذا العمق المبحوث عنه لعمق المسرح العربي. الدور ÷ ألا تلاحظ أنَّ الخطاب المسرحي العربي تنازل عن مهمته وعن القيام بدوره الريادي؟ } عندما تغيَّرت وسائط الاتصال مع المتلقي العربي، وظهرت وسائل أخرى أكثر قدرة وفعالية على الرواج والوصول بسهولة إلى هذا المتلقي، لم يعد المسرح العربي يتنفَّس بحرية ولم يعد يُسمع صوته إلا في فضاءات محدودة، لجمهور محدود وفي أزمنة ومناسبات محدودة أهمُّها المهرجانات المسرحية الظرفية التي تعرفها بعض العواصم العربية، وهي غالباً مهرجانات تظهر لتختفي،أو تختفي لتنتظر ظهورها من جديد. أهم هذه الوسائط انتشار القنوات الفضائية انتشارا لافتا والتي لا تتنافس إلا في ترويج ما يمكن قبوله جماهيرياً، واستسهال وصول خطاباتها السهلة إلى هذه الجماهير بعد أن غدا منجم المعلومات في متناول الأفراد والجماعات، وأصبحت الفعاليات الإعلامية الثورية وسائط اتصال مهيمنة بشكل شرس، وعنفي موجَّه. دون مراعاة جودة الخطاب، ومضمون البرنامج، وهو تنافس لا يظهر فيه المسرح، أو ما تبقى من أنشطة مسرحية إلا لماماً، وبشكل محتشم على الرغم من وجود حيوية منتجة لدى العديد من الفرق المسرحية العربية. هذه القنوات بتنافسها في استقطاب العاملين في المسرح،وبالإغراءات المادية التي توفِّرها للممثِّلين سلبت المسرح ألقه، وسلبته حياته أثناء اللقاء المباشر مع المتلقي، فبدأت المسلسلات تغري من يريد الالتحاق بسلطة الصورة، ليصير سلطة فنية يروِّجها الإعلام البصري. لكن وعلى الرغم من هذه المنافسة، وعلى الرغم من الظروف القاسية التي تحكم أنساق هذا المسرح، فإنَّ الخطاب المسرحي لا يزال يحافظ على تجدُّده، ولا يزال طليعياً له نبوءته الفنية التي يختار بها مواضيعه، ورؤيته، وموقفه. وهو في صيرورته لم يتنازل عن دوره الثقافي، ولم يستسلم للوسائط التي أرادت أن تنوب عنه بلغتها وعلاماتها الخاصة للانخراط في العصر، إلا أنَّ الفرق هو أنَّ هذا المسرح وبفضل وعيه المتجدِّد، وبفضل المهارات التي اكتسبها الكتَّاب والمخرجون من التقنيات الحديثة، صار المسرح صورة تزخر بالعلامات المبهرة التي تجلب بشاعريتها هذا المتلقي الذي يتابع قضايا الذات العربية في زمن العرض، وهو ما ينفي القول إنَّ هذا المسرح تخلَّى عن مهامه، أو تنازل نهائياً عن دوره. إنَّ الذي تغيَّر هو السياقات التي يعيش فيها هذا المسرح، والذي تغيَّر أيضاً هو التجارب التي يبنيها العاملون في المسرح بالعرض المسرحي، ويمكن الرجوع إلى النصوص المسرحية، والعروض التي تمَّ إنتاجها مع مطلع الألفية الثالثة لنتبيَّن كيف أنَّ خطاب العنف الدموي، والغزو العسكري الإمبريالي على العالم العربي، وقضية العراق، والهجوم على أبرياء فلسطين بعنصرية تبيد البشر والحجر، صارت مواضيع هذا المسرح تعبيراً يعبِّر بالصورة عن هذه القضايا حيث امتزجت في كتابة هذا العنف بلاغة الصورة، وشعرية العلامة من أجل تجديد ريادة المسرح العربي وهو يرصد تراجيديا الزمن العربي وكذلك وهو يواجه هذا العنف العولمي المدمِّر بتجارب مسرحية تعيش في المنفى الاضطراري خارج أوطانها، أو تعيش استثنائيا داخل هذه الأوطان، وكلها تجارب تبقى شهادة حقيقية درامية على سير التاريخ العربي وهو يواجه بالمسرح أشكال المسخ المتربِّص بكلِّ مقوِّمات الوطن العربي، ويرسِّخ دوره المسيَّس في خطابٍ مسرحي له بعد إنساني بقضايا إنسانية. (الجزائر)

 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free