http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  إنهم يرحلون ..في صمـت
 
كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الثلاثاء، 21 ديسمبر، 2010 |
إنهم يرحلون .... في صمت
 
نجـاة المريـني
يصعب عليّ الحديث عن الأديب الشاعر الأستاذ أحمد عبد السلام البقالي في عجالة بعد رحيله منذ أيام ، فهو أديب غزير الإنتاج ، موسوعي الثقافة ، شاعر متميز ، روائي ، رائد قصص الأطفال دون منازع ، ومن ثم فلن يكون الحديث عنه إلا كلمة وفاء وتقدير لشخصه كإنسان خلوق ولعطائه كمبدع ملتزم .
أحمد عبد السلام البقالي
أحمد عبد السلام البقالي من الأدباء الأعلام الذين ارتادوا مجال الكتابة الإبداعية منذ شبابه الأول بعشق وحب ، فحصد الجوائز الأدبية في مدينة تطوان والدار البيضاء وهو بعد في المرحلة الثانوية ، صَاحَبَ القلم وأدمَنَ على الكتابة بغواية وتحدّ ، ومن ثـمّ توالت كتاباته وعطاءاته دون كلل أو ملل ، تطبعها الروح التعليمية التربوية حينا والنقدية الإصلاحية حينا ، والفكاهية المرحة حينا آخر ، يمتح من عيون الأدب العربي والبلاغة العربية ليرصَّ بقلمه آيات رائقة في موضوعات مختلفة وأغراض متنوعة شعرا ونثرا لإرضاء ميوله الأدبية أولا والمساهمة في تنوير الأذهان الطفولية والشبابية ثانيا .
لم تتح لي الفرصة للاطلاع على مجموع إنتاجات الأستاذ البقالي الغزيرة المتنوعة ، على الرغم من حرصي على تتبع إصدارات الأعلام المغاربة الذين بصموا مسيرة الحياة الثقافية المغربية بطابع خاص ، وفوجئت بعد رحيله بما يضمه حصاد عطائه عبر حياته الحافلة من المنجزات ، قصة ورواية وشعرا ، وذهلت بما تضمنه مسرد مؤلفاته من خلال ديوانه الأخير "عيون" وقد أمدتني به مشكورة أرملته الفاضلة السيدة آسية بنعلي منذ فترة قصيرة . ولعل الجحود الذي يعاني منه المبدع أو الكاتب في المغرب من الأسباب التي لا تتيح الفرص للقارئ على تتبع إنتاجات المبدعين المغاربة على اختلاف مستوياتهم خاصة ممن يمتلكون القامات المديدة في ميدان أدبي أو تاريخي أو فلسفي ، وتملكهم العزة والكبرياء للتعريف بإنتاجاتهم ،وترويجها وتسويقها . ( وهذا موضوع شائك لا مجال للخوض فيه الآن ) .
تتميز كتابات الأستاذ البقالي التي اطلعت على بعضها شعرا ونثرا بالحفاظ على الهوية الثقافية والاجتماعية للمغرب ، وبروح الدعابة الماكرة التي تحيلك إلى الحفاظ على القيم الخلقية والروحية للمواطن صغيرا كان أو كبيرا ، واستهوتني متابعتها منذ زمن الدرس في الجامعة المغربية وتقـوَّت هذه المتابعة بعد أن أسعدتني الظروف بالاحتكاك به وببعض الأعلام المغاربة في جلسات أدبية كانت تعقد إما ببيته أو ببيت صديقنا الأستاذ محمد أبوطالب ، رحمهما الله ، فقد كان المنتدى أو الجلسات الأدبية مناسبة للتعرف إلى الأستاذ البقالي وإلى قراءة بعض أعماله الأدبية بشغف ولذة ومتابعة ونقد لما تتميز به لغته سلاسة تعبير وحسن أداء وبلاغة معنى .
كانت الكتابة عند الأستاذ البقالي طقسا مقدسا عليه أداؤه فيما يبدو ، وكما يذكر في الكتاب المنجز عن سيرته (1) من خلال حوار معه ، أنه شارك ـــ وهو بعد في المدرسة الإعدادية ــ بشعره في المجلة الخطية التي كان يشرف على إصدارها زميله عبد الكبير التزنيتي بالقسم الداخلي بمدينة تطوان ،وعندما تعرضت المجلة الحائطية للتمزيق ، سعى إلى نشر قصيدته في جريدة "النهار" التطوانية ، التي أشادت بروحها الفكاهية ، وهي تعرض لما يروج بين المدن من منافسات ومنابزات ،( بين القصر الكبير والعرائش ) بلغة بسيطة واضحة وروح مرحة جذابة .
يقول عن كتابة القصيدة (2):" كتابة القصيدة عندي لا يدخل فيها تخطيط مسبق، القصيدة توقظك أحيانا بالليل لكتابتها ، كأنها جنين اكتمل نموه ، وحان وقت وضعه وخروجه إلى النور " ، إنه المبدع القلق الذي تأخذ الكتابة عنده لتنوعها ( شعرا ، ورواية ، وقصة الخ ) مسارب عديدة ، تنتهي بميلاد عمل إبداعي جديد .
ولعل رواية " رواد المجهول " التي نال بها جائزة المغرب للكتاب بتطوان سنة 1954 تؤكد عشق المبدع البقالي للكتابة ، فلم يتردد في تصوير الثورة التي نجح فيها أبناء مدينة أصيلا مسقط رأسه على الواقع الاجتماعي والثقافي الذي تعرفه البلاد في المرحلة الاستعمارية ، يقول عن ظروف كتابة هذا النص الذي نشر في طبعات عديدة : " رواد المجهول عبارة عن خطبة وداع لعصر الظلمات العربي والإسلامي ،..... وقد وضعت حدا لحياتي في عصر الظلمات بهروبي من أصيلا إلى تطوان في الأيام الأخيرة من نصف القرن العشرين الأول ،" (3) ويظهر عشقه للكتابة أيضا من هذا التوصيف الذي قدمه لظروف كتابة هذه الرواية بقوله :" كتبتها في القاهرة تحت ضوء مصباح غاز في مخبإ حرب بحي الزمالك الأرستقراطي الفاخر .... وكان يغلبني التأثر في بعض مواقف القصة / الرواية فأجهش بالبكاء وأكبت بكائي ... لذلك نالت ما نالته من قبول واستحسان ، فقد عبرت عن مشاعر جيل كامل من المغاربة الذين خرجوا مثلي من عصر الظلمات " ، مثل هذا الشغف بالكتابة لا يمكن أن يكون إلا لعاشق لها لما تسعفه بالبوح عن بنات أفكاره والتعبير عما يؤرقه من مشاكل العصر وظروف التحدي .
أما ديوانه الثاني " عيون " ففيه لوحات شعرية متفاوتة في التعبير عما كان يشغل فكره من الموضوعات الدينية والوطنية والقومية ، مع ما يثيره من مشاعر في وجدانيات رقيقة ومن مواقف نقدية حول ما يتعرض له الشعر باسم الحداثة من غموض وضبابية تذهبان بمائه وروائه ، يقول في إحدى المقطوعات : (4)
قرأت قـصــائـد شـعـر حديــث
لما وصفوها بـــه من نعــوت
فمــا أقنعـتـنـي وما أشبـعتـنــي
كأني تغــذيـت بالعنــكبــــوت
إذا الشعــر لم يلتصق بالحــياة
ولم يعتصـرها فســوف يموت
فما أبدع الشعر إن كــان همسا
خفـيف الجناحين جــمّ الخفوت
إلى النـفس يـوحي بسر الوجود
ويــصعد بالــروح للمـــلكـوت
وفي وجدانياته تبدو الصورة باهتة تـلفهـا نغمة حزينة وهو يتحدث عن شبابه الذي مضى وعن عمره الذي انسلخ وقد أفناه جريا وكما قال ركضا لبناء حاضره ، فيتمنى الرجوع إلى زمان مضى ، يقول :
مـضـى عمـري راكضا جاريا
وخـــلــفـني هيكـلا بــالــــيــا
وكـــنــت أرى العـمر مستــقبلا
فأصــبح مستــقبـلي مــاضـيـا
,,, فياليـتني أستــطيــع الرجـوع
وأسترجع الـــزمن الخـــاليــا
أعــانق شــرخ الصـبا وأعــيش
حيــاتـي التي عشتها ثــانــيا (5)
وفي تضرعه إلى الخالق نجده يستهل الديوان بقصيدة يتساءل فيها عن سر وجوده وحقيقته ،بنبرة تشاؤمية ، يقول :
كتب الوجود عليا
لم أفرح به أو أحزن
ومع الوجود ، أتت القيود
إلى التراب تشدني ، وسُجنتُ في بدني
وفي وطـني .... وفي زمنـي (6)
وتحظى رفيقة دربه بمناجاة صادقة ، فهي الزوجة الوديعة ، الهادئة اللطيفة ، ملكت عليه فؤاده منذ أن رآها وسحرته برقتها فاختارها دون سواها ، يقول : (7)
أنــا الـذي لفــفـتــها
فـي قـلبـي الحــريري
أنــا الــذي مــلـكتها
ومــلكتْ مصـــــيــري
فامتـزجت بمهـجـتي
وســكنــتْ ضــمـيري
وجـــــودهــــا كالــمــــاء والـــهــــــواء ، لــــي ضـــروري
هــي كــمال فــرحـتي
ومــنتــهـى ســــــروري

ولم يكتف الأستاذ البقالي بما خلفه من مؤلفات في القصة والرواية والشعر ، بل داوم على الكتابة في الصحف الوطنية وغيرها وفي المجلات العربية منذ أن استلذ الكتابة في بداية حياته في مجلات الأنيس والأنوار والمعرفة بتطوان في خمسينيات القرن الماضي أو في جريدة العلم والميثاق الوطني والشرق الأوسط فيما بعد ، ولعل الكمّ الغزيز من هذه المقالات يدعو الأسرة الكريمة إلى جمع شتاته وتصنيفه تبعا لموضوعاته ونشره فيما بعد .
وقد أحسن الأستاذ أسامة الزكاري صنعا عندما عمل على إعداد حوار للنشر في كتاب "مع الأديب أحمد عبد السلام البقالي : حوار السيرة والذاكرة " ، سبق لجريدة الشمال أن أنجزه مع الأستاذ البقالي سنة 2005 ، وصدر الكتاب في أبريل 2010 ، وهو كتاب توثيقي عن حياة الراحل ومؤلفاته .
وكان لقلم صديقه الأستاذ الشاعر مولاي علي الصقلي بصمة متميزة في التنويه به وذكر خصاله سواء في حياته أو بعد رحيله ، ففي حياته كتب نصا شعريا جميلا بمناسبة تكريمه سنة 2000 بالمعهد الأصيلي ، يقول في مطلعه : (8)
هــو للمدائح دون ريــب قالـي
فـــوق المــدائـح أحمـد البـقـالي
مـن كان ذا قــلـم تقـطّر شهده
فـوق الطـروس على طراز عالي
وتعاقر الأدبــاء خمرة شهــده
في نـشـوة الــحاسي لخـــير زلال

أما الأستاذ البقالي الإنسان ، فقد كان بيته محفلا للقاءات أدبية أو جلسات أخوية ، يشعرك بأنك صاحب البيت لدماثة خلقه وجميل ترحابه وتواضعه ولطف معشره، يسعد بلقاء الأصدقاء ويحسن استقبالهم، يحافظ على حبل المودة بينه وبينهم في المناسبات المختلفة ، ومن ثم فقد كان الراحل يمثل نموذجا للمثقف / الإنسان في أبهى حلله في عطاءاته وإبداعه ، في علاقاته بأسرته وأصدقائه ، وبمن ارتبط بهم في مختلف مراحل حياته .

هوامش:

1) أحمد عبد السلام البقالي :حوار السيرة والذاكرة : إعداد أسامة الزكاري
2) مجلة مواسم ، العدد 13 /14 ، ص 139
3) نفسه ص 95
4) ديوان عيون ص 161
5) نفسه ص 201
6) نفسه ص 17
7) نفسه ص 208
8) مجلة مواسم العدد 13/14 ص 130
الرباط ، الثلاثاء 20 رمضان 1431هـ
الموافق 31 غشت 2010م

 

 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free