http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  تكريم محمد حسن الجندي
 

محمد حسن الجندي
قمة أطلسية بحجم الوجود

 

د. عبد الكريم برشيد
            
في مقام التكريم هذا، لا يسع المرء سوى أن يكون شاعرا، أو فليصت، وقد يكون الصمت أبلغ من الكلام أحيانا، وقد يكون أكثر شعرية من شعر الشعراء، وقد يكون أكثر صدقا من حكمة الحكماء، وعليه، فنني سأؤثث هذه الكلمات بكثير من الصمت البليغ، وما لن أقوله، في هذه الكلمة، هو بالتأكيد أكبر وأخطر مما سوف أقوله، وما قد أقوله الآن في كلمات مختصرة ومركزة، يحتاج بالتأكيد إلى أسفار ومجلدات كثيرة.. 
فقد تخونني الكلمات في هذا المحفل المهيب والرهيب، وأرجو ألا تفعل، وقد لا تطاوعني العبارات، ولكن الصدق لا يكمن أن يهجرني أبدا، أولا، لأن هذا المقام هو مقام الصدق والصادقين، وثانيا لأننا أمام شاعر ومبدع شامل، وأننا في حضرة اسم بقامة عالية جدا، وبقيمة وازنة وثقيلة، هذا الاسم هو .. محمد حسن الجندي..
قد يكون كافيا أن أقول ما يلي، هذا الرجل شاعر وكفى، شاعر حقيقي، له حس الشعراء، وله حدس الصوفيين، وله نبوءة العرافين، وله ذوق الفنانين، وله مسار العارفين، وله صدق المؤمنين، وله روح الحالمين، وقد يكون هو نفسه قصيدة شعرية، أو يكون ملحمة مغربية بنفس شعري..
لقد اختار هذا الرجل المسرح، ولا يختار المسرح إلا من كان في مستوى السؤال الوجودي الكبير، ولا يقترب منه إلا من استطاع أن يدرك درجة التحدي في الوجود وفي الموجودات، ولا يدخله إلا من كان إنساني النزعة، وكان مدني الانتماء، وكان ديمقراطي الطبع، وأعتقد أن هذا المبدع قد أدرك هذه الدرجة، فقد رأيناه وسمعناه وعرفناه ممثلا وكاتبا ومخرجا وشاعرا غنائيا، وعرفناه قارئا للتراث وللتاريخ وللعيد وللاحتفال الشعبي..
هو الواحد المتعدد إذن، وقد تعددت أسماؤه بالأدوار التي كتبها وعاشها بصدق، ولأنه أكبر من أن يكون نفسه وكفى، فقد كان عنترة العبسي، وكان سيف بن ذي يزن، وكان شاعر الحمراء، وكان له حضور في المسرح والراديو وفي السينما وفي التلفزيون وفي الحياة اليومية بين الناس..
هذا المبدع ينتمي إلى جيل التأسيس في الثقافة المغربية الحديثة، الجيل الذي لم يجد جامعة أمامه، فحول الحياة كلها إلى جامعة شعبية مفتوحة، ولم يجد أساتذة فكان ضروريا أن يكون هؤلاء الرواد أساتذة أنفسهم، ولم يجدوا أمامهم كتبا، باستثناء كتاب الحياة، وهل هناك ما هو أبلغ وأصدق وأخطر من هذا الكتاب؟
وهو ممثل شامل ومتكامل، بمعنى أنه شاعر يلقي ويؤدي في نفس الآن، وفي الإلقاء يمكن أن تجد الخطيب والمغني، وتجد المقرئ المجود، وفي الأداء المسرحي يمكن أن تجد الحكواتي والمداح، وتجد المبسط الشعبي كما نعرفه في الساحات الشعبية المغربية والعربية، وبهذا فقد كان دائما قريبا من أذن الجمهور، وكان قريبا من عينه أيضا، وكان قريبا من عقله وروحه وجدانه، وهنا يكمن سر نجاح جيل كامل من الممثلين الكبار، والذين تخرجوا من الكتاب ومن الحلقة ومن الموسم الشعبي، وتخرجوا من حلقات الذكر، ومن حلقات المديح والسماع، ومن حلقات أحيدوس وأحواش، والذين كانوا قريبين جدا من ثقافة الناس ومن همومهم اليومية ومن اهتماماتهم الحقيقة، والجندي ابن الزاوية التيجانية، وبذلك فقد كان قريبا من وجدان الناس ومن رواحهم.
بهذه الثقافة الشعبية الأصيلة إذن، والتي لها ارتباط بالديني والدنيوي، ولها ارتباط بالمحسوس والمتخيل، ولها ارتباط بالمكتوب والشفهي، استطاع هذا المبدع أن يكون كبيرا، وأن يكون في مستوى عظمة أبي الفنون، واستطاع أن يكون سفيرا للمغرب إلى كل العالم العربي..
أليس هو كاتب ومخرج ومبدع ملحمة العهد، والتي ساهمت في افتتاح دار الأوبرا بالقاهرة؟
أليس هو الذي أعطانا أسرة كاملة من الفنانين ومن المبدعين الصادقين؟
أليس هو أحد مؤسسي المسرح الإذاعي في المغرب، وهو أحد الذين حببوا المسرح للناس بعد الاستقلال، وهو أحد الذين نشروا تقليد الذهاب إلى المسرح، وذلك إلى جانب تقليد الذهاب إلى الحمام وإلى المنتزهات وإلى الأسواق والمواسم ؟
هذا المبدع الكبير، هو ذلك الحكيم الذي مثل دور أبي جهل في فيلم الرسالة لمصطفى العقاد
وهو ذلك المغربي الذي مثل دور رستم الفارسي في فيلم القادسية لصلاح أبي سيف
وهو ذلك المقاوم الذي رأيناه ثائرا ومتمردا في فيلم بامو لإدريس المريني   
وماذا يمكن أن أقول أيضا؟
محمد حسن الجندي إنسان حقيقي، إنسان بكل ما في هذه الكلمة من معنى، وأعتقد أنه ليس سهلا أبدا أن تكون إنسانا، وأن تدرك درجة الإنسان فيك، وأن تحافظ على جوهر إنسانيتك، وألا تبيع نفسك للشيطان كما فعل فاوست..
هذا زمن الإغراءات والغوايات، والصادقون الصادقون هم الذين حافظوا على عذريتهم، والذين لم يغيروا المعطف والقناع، والذين لم يستبدلوا لغة الكلمات بلغة الأرقام، ولم يفرطوا في الحقائق في مقابل الأوهام..
وهو مغربي من هذه الأرض، وليس سهلا أبدا أن تكون مغربيا في زمن العولمة المتوحشة، وأن تحافظ على ثقافتك وعلى قيمك وعلى لغاتك وعلى هويتك وعلى رسالتك في المسرح وفي الحياة ، وأن تناضل ضد التبعية وضد الذيلية وضد القبح وضد الفوضى وضد الاستلاب وضد داء فقدان الذاكرة وضد مرض فقدان الكرامة..
حقا، ما أصعب أن تكون إنسانا في هذا السوق العالمي الكبير، وأن ترفض أن تكون سلعة وبضاعة، وأن تكون أكبر من كل الماركات العابرة للقارات، وأن تكون في خدمة القيم الرمزية الخالدة، وذلك بدل أن تكون في خدمة الأصنام والأوثان البشرية أو المادية..
وما أصعب أن تكون مقيما ومسافرا في نفس الآن، وأن تغادر هذه البلاد من غير أن تهجرها، وأن تكون مثل جدك الطنجي ابن بطوطة، وأن تكون كما فعل أجدادك الذين تركوا مزارات في كل مكان، والذين تركوا أحياء في القدس وفي السودان وفي كثير من البلدان، أنت أيضا كنت سفيرنا إلى المشرق العربي، وقد مثلتنا أحسن تمثيل، واستطعت أن تتمدد في هذه الجغرافيا الواسعة، وأن تربط بين مغرب الشمس ومشرقها..
لقد كنت كبيرا وعظيما لأنك عرفت أنك من هذا المغرب العظيم، أي من هذا الوطن الذي ذكره شكسبير في مسرحية عطيل وفي مسرحية تاجر البندقية، ومن هذه الأرض التي لها وجود في المعتقدات اليونانية القديمة، والتي تصورت أن هذه السماء العالية لا يمكن أن يرفعها إلا الأطلس المغربي العملاق، وذلك قبل أن يصبح هذه السلسلة الجبلية التي نعرف.. 
وأخيرا، من يمكن أن ينسى صوت الجندي في مسلسل الأزلية الإذاعي وهو يقدم شخصيته في الجنيريك :
سموني وحش الفلا
واسمي سيف ذي يزن
رموني أهلي في الخلا
واحماني الخالق الرحمان
وأهلك وصحبك وتلاميذك والمعجبون بك، لا يمكن أن يرموك أبدا، ولا يمكن أن ينسوك، لأن اسمك يستعصي على النسيان، وهو منذور للبقاء والخلود.
 
الدار البيضاء في 10 8 07 2010
 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free