http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  هل حقاً سقط المهرّج من الذاكرة؟
 

هل حقاً سقط المهرّج من الذاكرة؟

 

 


محمد برادة
من خلال صوتيـْـن سـارديْـن، متــوازيــيْـن، يـتـنـاوبــان على سرد مشاهد ووقائع من «رواية العائلة»، وهما صوت الابـن حســن، المجنــّد في حرب الصحراء،المفتون بالتمثيل وكتابة سكيـتـشات سـاخرة؛وصوت الأب بـلوط مـهرج الملك،المصاحب له في لحظات الجـد والابتـذال، تـنتـسج خيوط رواية يوسف فاضل الأخيرة «قط أبيض جميل يسير معي» (دار الآداب،2011). وهي رواية تنطلق من الخاص والذاتي لـتـُـلامس قضايا عامة، منغـرسة في صـلب تـكويـن المجتمع المغربي الحديث، مـُـستـظلة بطقوس «المخـزن» العـتيـق.
وإذا كان الصوتان الساردان يتقـاطعان من حين لآخـر بحـُـكم القـرابة العائلية، فـإن كل واحد منهما ينـقلنا إلى كــوْن ٍتـخيـيـلي مـُغـايـر،إذ نـُـطلّ من خلال محكيات الأب المهرج على عالم السلطة العليا في البلاد وعلى ما يـُلازمها من طقوس ضاربة بجـذورها في نظام المخزن الموروث والمـُستـحدث ، وكاشفة للنـزوات المـولوية التي تشكل جـزءاً من الهـيـبـة المصطنعة التي تضفي غلائل التقديس على وظيفة السلطان وحـُرمته في أعين الرعـيــة .
في المقابل، ينقلنا صوتُ الابن حسن إلى فضاء الصحراء حيث يتـوجّـب عليه قضاءُ مدة التجنيد الإجباري، بعيداً من زوجـته زينب التي تحتــرف الغناء في أحد كـبـاريهات مراكش ؛ بينما هو يـمضي الوقت والأيام رفقة المجندين:إبراهيم وَمحمد علي وَنـافع وَ البركادي عـمر، وجميعهم يـأتـمـرون بأوامـر الجنرال رويــشــة، المنشغل بمـعصـرة الزيتون وفلاحة الضيعة وإرضاء نـزوات ابنته جـمانة، المـدللة ... فضــاءان مختـلفان، إذاً، يـؤطران السـرد، ورؤيـتـان مـتـبـاينتان عند كل واحد من السـارديـْن .لكن هذا الإطار الخارجي المـُـشكـّـل لـ «حــاضـر» الرواية،تخترقه ارتدادات واستحضارات ترسم ملامح من مسـار حياة الأب والابـن، عـبـْـر ســردٍ استـرجاعي يـنطلق من الحاضـر إلى الماضي .
صورة الأب
على هذا النحو،نتعـرف إلى المنـبـت المتـواضع للأب وارتـقـائه من منـشـّـط حـلـقةٍ في ساحة جامـع الفـنـاء ،إلى مهرج في البلاط الملكي ،ونعلم أنه هـجـر زوجـته الأولى وابـنـتـه فضيلة وابنه حسن،لـيـتـزوج من عـزيزة الشـابّة التي نجحت في «تـرْيـيـشـه « وطرده من بيتها ،فلا يجد مفراً من العودة إلى بيت الـزوجة الأولى حيث يلفظ أنفاسه الأخيرة مشلولاً. ويحكي لنا الابن عن تجـربته مع الوحدة والشـعور بـالـيـُـتـم منذ انقطع الأب عن زيارة العائلة، وعن تـعـلقه بفـنّ التمثيل وكتابة السكيـتـشات السـاخرة،»المـلتزمة»، التي تـنتـقد الحكومة الرشيدة وتـُـسـفـّهُ منجـزاتها المزعومة... ويتوقف عند لقائه المنــقـذ مع زينب ، ذات مساء،في أحد المسارح حيث قـدم هـو مشهداً مسرحياً سـاخراً، وغـنـّـتْ هي أغنيـة لأم كلـثوم. مـنذ ذاك،لم يـعد حسـن يلتجئ إلى البــئـر لـيـُنـاغي الضفادع محـتـمـياً من الوحدة والـيـُـتم الداخلي. أصبح حب زينــب بمـثابـة أفـق للتـعالي(تـرانسـانـدانس)،يـُـضفي على حياته معنىً ويسـنـده في مواجهة تجـربة التجنيد الصعبـة .
لكن أهمية « قط أبيض جميل يسير معي» لا تـتمـثـل في الأحداث والشخصيات وتـشـبـيكـاتها المتـفـرعة، بـقـدر ما هي مـاثلة في الصنعة وطبيعة التخـييل، وتحقيق درجة عالية من الـنـثــريـة التي اشـتـرطـها ميخائيل باخـتـين صفة أساسية في تحقيق كتابة الرواية المـُـنـضـوية تحت نماذج الخط الروائي الثاني المـُـنبـنيـة على الحـوارية والتـعدد اللغوي والصوتي، والمـُتـحـدّرة من سـلالة «دونـكشـوت» وَ «تـرستـرام شـاندي».
وكما هو معلوم،فقد حلل باخـتين دور المـهرج والمحتــال والأبــله،وأوضح كيف أن حضور مثل هذه الشخصيات في رواية ما، يحمل إليها ما يسـميه «الأليغوريــا النــثرية « أوْ « المجــاز الـنـثـري « . وبالفعل،تـتـميز رواية « قـطّ أبيض...» بـنـثــْـريةٍ خـاصة تسـتـند الى أليــغـوريــا مـحـورُها شخصـيـتا الأب المهـرج والابن الممثـل،وما ينطويان عليه من مـرمـوزية ذات أبعاد مـوغلة في طبقات التاريخ. نتيجة لذلك ، تـُـنـتج هذه الأليغوريا المـُـركـّبة مـتـخـيـّـلاً مـزدوجـاً يـُـحيلُ على قيـم اجتماعية وأخلاقية مـُتضادّة.
وهذان البـُعدان، التـهـريجي الكاشف وَالكوميدي السـاخـر، يـُكسـران تلك الحـواجـز المصطنعة،المقصودة،التي تـنـصبـها الإيديولوجيا الماضويـة لكي تفصـل بين القصـر الملكي ورموزيـته وطقوسه ، وبين السـاحة العمومية الشعبية التي تـُـعايش الواقع المباشر ومـبـاذلـه، وتـُقـرّب المسافة بين العالم الملموس المـُـمـَـثــَّـل، والعالم التخييلي المـُـمـثــِّـل لـه . ومن خلال هذا التمثيل الفني الذي أنجـزه الكاتب، تلاشـى أوْ كـادَ،ذلك التباعـُد المصطنع بين الواقع والكـوْن التخييلي .
والجانب الآخـر المشخـّص للمجاز النـثـري في الرواية،هـو الصوغ اللغـوي عند يوسف فاضل وقدرتـه على توظيف نـثـرٍ تـختـرقه مستويات عدة من لـغة لها مـرجعية مـتـباينة، تـتـميـز بـتـركيبٍ للجمل القصيرة المــازجة بين الوصف والسرد، والمـُـستـوحية ضمناً لـِـلـُـغةِ الكلام،والمشتملة على إشــراقات شعـرية متحدّرة من نـثـرية اللغة ونثـرية الحياة على السـواء . ويمكن أن نلاحظ في هذا المجال،أن الكاتب قد وظف أحيــاناً، مصطلح « اللافـهـْـم «الباختـيـني ليـكـشف جوانب مستـورة من حيوات بعض الشخـوص، على نحو ما نجد في حديث حسـن المـُجنـّد عن الجنرال بوريشة ، المستفيد من حرب الصحراء والمـُـتاجـر بالأسلحة والبشــر... فـهو من طريق جـُـمـَلٍ استـفهامية تصطنع السذاجة والبلاهة، يـنـبش منـاطق تـمـسّ المـُـخـبـّـأ من حياة الجـنرال .
وما يـسهل هذا التوظيف، كـوْنُ اللاّفـهـْم يرتبط بشخصيات المهـرج والممثـل والأبله وما شابهها من الشخصيات المؤثـرة في الخطاب الروائي القديم والحديث ، على نحو ما حلل بـاختين : « إن مـزج اللافـهم والفهم والبساطة والبلاهة والسذاجة والذكاء، هو ظاهـرة مألوفة في النـثـر الروائي، ونـموذجـية بطريقة عميقة . ويمكن التأكيد أن هذا المظهـر من اللافـهم والبلاهة النوعـيـة(المقصودة)،يكاد يـحدد دائماً وعلى نطاق واسع تقريــباً، نـثــرَ الرواية المـُـندرج في الخط الأسلوبي الثاني» (الخطاب الروائي، ص140)
النثر والتخييل
ويمكن أن نضيف عنـصـراً آخـر أسعفَ على إنجاز هذه النـثـرية العميقة في الرواية،وهو عـنصر التـخيـيـل الذي أطلّ منـذ الفصل الأول ليجعل الحلم مـُـفـتـَـتـحاً للفعل قبـل أن يـرتـدّ إلى تـبـويء الواقع وتفاصيله المكانة الأولى. لكن تـقـاطـُع حـلم حسن بحلم أبــيـه بـلـُّوط هو نـوع من المفارقة التي تجعل الابـن يـنـتـقل من الحلم إلى الواقع، والأب يـُـفارق واقع الحلقة والفـقــر إلى حلم البلاط والـثراء والسلطة. وهذه الـسّـمـة تـوحي للقارئ بـإحساس « كما لـوْ :comme si «، أي تـُـولـّد لديه انطباعاً بـأن النص ومحكيــاته يـقـعان في مسـتـوى الـبـيـْـنَ بـيـْـن، وتجعل اللغة مـحررة من المنطق العقلاني . ويتجلى ذلك في تلك الـخــرجات الشعـرية التي تـنـبـثق من حين لآخـر، مثل حديـث حسن عن الضحك بوصفه علاجاً ناجعاً للجنرال، وأيضاً مثل وصف اللحظات الأخيرة للـغــزالـة التي اصطـادها المجنـّـدون لابـنـة الجنرال المدلـلـة .
في غـمرة هذه الأحداث والشخصيات والتـيـمات التي تـلـتـقط قـدْراً كـبـيـراً من تجليات حياة المجتمع المغربي في العقود الأخـيـرة، لم يـنـس يوسف فاضل أن ينـسـج بــرهافةٍ ونـثــريـة شعـرية، عــلاقة حـبّ قـوي تـَرعـْـرَعَ في قلب حــسـن المـُـجـنّد ، اليـتـيـم، الذي أحب الحياة من أجل زينـب؛ لكن « قلوب الحـجـر» المـُـتعيـّـشيـن على اعـتـناق الإيديـولوجيات وتطـليقها وفق الأهواء، لـم يسمحوا له بـأن يـنـعم بعـشقـه لـزينب. ومن ثم تلك النغمة الأسـيانة التي تـُدثــر صـوتـه كلما تحدث عنها : « تـمشي وتـجيء كـأنما هـالة ضـوءِ تـطوف أرجاء البيت . هـا هي تضع الإبريق على الـنار، أو تمــلأ كأس مــاء. هـا هي تمشـط شـعـرها. ها هي تفتح باب المطبخ بـأناملها الرقيقة . تـغـرورق عيناي بالدموع وأنا أدرك أن الحياة التي أزهـرتْ في محيطي تـُـهدد بـأن تـتـلاشى . تــأتيـني الدموع بسهولة «.ص82 .
 
تمكــّن يوســف فاضل،في هذه الرواية،من اسـتـثـمار ظاهـرة المهـرج والملك،المرتـبطة بطقوس السلطة في المغرب لينـسـج رؤية مـزدوجة ،تجـسـد المسافة الفاصلة بين عالـميـْن: عالم الأب البطريركي الحامـل عقلية السلطة المخزنية، وعالم الابـن المتـمرد الذي يجرؤ على الرفض،ويتعلق بالحب داخل مجتمع لا يـُبـالي بـعواطف الفـرد .
عن الحياة اللندنية
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free