الضحـك علـى الفايسـبوك.. لغـة «السـتاتوس»
ديمة ونوس
في السنوات الأخيرة، طرأت على اللغة العربية تغييرات جوهرية يجدر تأملها. في الوقت الذي راح بعض الكتّاب من الجيل الجديد ينشرون كتباً باللغة العامية، راحت تنمو تلك اللغة بمصطلحاتها الجديدة، عبر شبكات التواصل الاجتماعي. الفيس بوك مثلاً، ذلك الموقع الذي لا يتيح لزائره رؤية محدّثه، ساهم بالتأكيد ببعض تلك التغييرات. فالأحاديث التي تجري على صفحاته، تتيح للشخص قراءة التعليقات ومن ثم التعليق عليها. إلا أن الموقع لا يتيح التحديق في العينين ولا سماع الصوت ولا حتى استراق النظر إلى ردود فعل الآخر. هذا بدوره، جعل العبارة تتحوّل إلى بضع كلمات تكثف المعنى بذكاء مفرط حيناً وبسخرية مريرة حيناً آخر، وبسماجة قاتلة في أحيان كثيرة.
الأحداث التي شهدتها معظم البلاد العربية، ساهمت أيضاً بتلك التبدلات. فتحول الفيس بوك من فسحة شخصية تلملم الهواجس والأحلام والرغبات إلى فسحة عامة يغلب عليها الطابع السياسي. مما خلق جيلاً «فيسبوكياً» يتمرّن كل لحظة على الكتابة وعلى التكثيف وعلى الوضوح والسخرية. تحوّل مواطنو الفيس بوك إلى كتّاب. بعضهم يكتب في السياسة وبعضهم ينظم الأشعار وبعضهم ينشر صوراً ومقاطع فيديو عن الثورات العربية. بعضهم يرسم وينشر صوراً عن رسومه. إضافة إلى نشر الصحافيين والكتّاب لمقالاتهم التي تنشر في الجريدة أولاً. على الفيس بوك، تصل المقالات إلى مئات الأصدقاء في حين قد لا تصلهم الجريدة.
حسّ النكتة
مع انتشار الهاتف المحمول، تغيّر شكل النكات التي تروى في الجلسات العامة. لم يعد ثمة متسع من الوقت والخيال ربما لاختراع نكات تشبه تلك التقليدية. وأشعر أحياناً أن اختراع النكات بات فعلاً منقرضاً. هل مات مخترعو النكات؟ لأننا حتى اليوم، نتبادل النكات التقليدية ذاتها ونضحك. والضحك هنا هو اختراع أيضاً. إذ ما الذي يضحكنا من جديد عند سماع النكتة ذاتها. ربما يكون الحنين إلى تلك المرحلة أو الاشتياق إلى أصدقاء مرحلة معينة سافروا أو ماتوا أو مرضوا أو تخاصموا. صارت النكات الجديدة التي يتبادلها الأصدقاء عبر رسائل الـ «sms»، بايخة أو مفتعلة. إذ لا تتيح الرسائل التلفونية الاستغراق بالفكرة.
في المقابل، تحوّل الفيس بوك إلى فسحة افتراضية تشبه الحياة. إذ تحتوي تلك الفسحة على كل ما يمكن تصوره من مشاعر. تناقش فيها القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، من دون إغفال الضحك والنكات والسخرية، مروراً بالمشاجرات العائلية التي تجري أحياناً بين الزوج وزوجته أو العكس أمام أعين الجميع. وفي بعض الأحيان، ينتاب المتصفح إحساس بأن المشاعر باتت مشاعاً وفقد خصوصيتها. إذ لم يكن متاحاً من قبل، أن يعبّر أحد الأشخاص عن ولهه بحبيبته أمام هذا الكم من الناس والأصدقاء، الفعليين والافتراضيين. نرى الآن تلك المشاعر معروضة على صفحات الـ «فيس بوك» أمام الجميع. وأحياناً لا تخلو من المغالاة. خاصة الغزل الذي يدور بين الأم وابنتها مثلاً وهما جالستان في غرفتين منفصلتين من البيت نفسه أو في مكانين مختلفين في المدينة ذاتها.
سأورد بعض النكات الجميلة والخفيفة التي وردت مؤخراً على صفحات الـ«فيس بوك»:
إحدى النكات التي شاعت خلال الفترة الأخيرة والتي تشير إلى تخطي الشعوب العربية لكل وسائل المنع والحجب تقول: «سأل الرئيس الأميركي باراك أوباما أحد مستشاريه: كيف يستطيع السوريون معرفة آخر المستجدات على الرغم من انقطاع الكهرباء وتعثر الاتصال بالأنترنت وانقطاع الهواتف الأرضية والخلوية؟ فأجابه مستشاره: يكفي أن تسأل أحد السوريين: شو في ما في، حتى يزوّدك بكل جديد. فما كان من أوباما إلا أن تنكّر بزي رجل بدوي وقطع الحدود الأردنية وصولاً إلى درعا. سأل بعربية ركيكة أول سوري صادفه على الطريق: شو في ما في؟ فأجابه السوري: يقال إن الرئيس أوباما قطع الحدود باتجاه سورية قبل ساعات!».
وإن وضعنا النكات جانباً، سنلاحظ أمراً آخر أثناء تصفحنا للفيس بوك، هو أن اللغة العربية الجديدة باتت تمزج بين العامية والفصحى: «طالبان يعني طلاب علم. طيب ما حلّهم يتخرجوا؟؟؟»، يكتب أحد الأصدقاء على صفحته.
«تمّ بعون «الديليت» حذف عشرين إفتراضي كخلايا نائمة». يكتب صديق آخر. ويضيف: «الحذف متعة كالإضافة.. حلو القتل فايسبوكياً.. برقبتي شي مية قتيل.. Yummy». نعم إن حذف الأصدقاء عن الفيس بوك يمتع أحياناً. حتى وإن كان يحمل في طياته إلغاءً للآخر ولرأيه ولاختلافه. الكثيرون أعلنوا انشقاقهم «فيسبوكياً» عن شريحة ما أو مجموعة. والبعض وجد صعوبة بحذف الأصدقاء واحداً تلو الآخر، فكتب على صفحته: «منعاً للإرباك، أرجو من كل صديق موال للأنظمة العربية، أن يحذف نفسه من قائمة أصدقائي!».
«شيخ درزي وقّف سيارة أوتو ستوب.. لما طلع وجد أن السائقة إمرأة بديعة الجمال.. فقال لها: ما تفكريني شيخ درزي أنا بفرقة كركلا».
«ولأن زوجة رئيس المجلس تسمّمت باللحمة الفاسدة، تحرّكت الدولة لأجل صحتنا الغذائية.. انشالله حدا من الزعماء أو من نسائهن تلطشو الكهربا أو يزحط بالحمّام والكهربا مقطوعة!».
«لا يخرج الشعب اللبناني لانتفاضة خبز أو بنزين أو أجور لأنه شعب مسالم، مدني، بريء، مهذب، خلوق.. لا يخرج سوى إلى الحروب الطائفية».
وعن الانتخابات المصرية: «محمد مرسي أول مرشح يترشّح ببرنامج واحد صاحبه».
«كنت خايف يمسك مصر البرادعي ويقلّع أمّي الحجاب، أو يمسك أبو اسماعيل ويلبّس أمّي النّقاب، دلوقت عمر سليمان جاااااااي وأمّي هاتوحشني قوي..».
وعن الأوضاع:
«ظل القذافي يقول لهم: من أنتم؟ من أنتم؟ حتى شاهدهم شخصي».
«إذا استمر الوضع على ما هو عليه، ستكون القمة العربية القادمة قمة تعارف».
«سألوا شاب من حمص: كم عدد سكان حمص؟ فأجابهم: قبل السؤال أم بعده؟».
«لا حدود لإبداع الشباب المصري في السخرية السياسية من المرشحين للرئاسة. أما في لبنان، فثمّة من يساق إلى المحاكمة لرسمه خوذة على جدار».
وعن رسوم الكاريكاتور أو الصور: صورة قديمة للرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، يجلس وراء مكتبه، يمسك سمّاعة التلفون ويتحدث باسماً. فوق الصورة كتبت العبارة التالية وهي المضمون المتخيّل لمكالمة مبارك: شفيق اترشح؟ تماااام... لا يا راجل وعمر اترشح كمان؟ طب ايه رأيك ننزل بجمال؟».
صورة كاريكاتورية أخرى لمجلس الأمن مجتمعاً. يقول أحد الأعضاء: أما فيما يخصّ الوضع في البلدان العربية الثائرة... فيرفع المجتمعون وملامحهم ضجرة، لافتات كتب عليها بالعربية: «يا الله ما لنا غيرك يا الله».
وبعد كتابة النكات، هنالك الضحك. ولكلّ طريقته في الضحك على الـ «فيس بوك».
هناك من يضحك عبر كتابة نقطتين واحدتهما فوق الأخرى وإلى جانبهما قوس فتصبح وجهاً ضاحكاً هكذا (:
وهناك تعبير آخر كنت أقرأه بين التعليقات ولا أستطيع فهمه. وأحياناً ظننت أنه ربما شتيمة أو اختصار لكلمة بذيئة. اتضح لي لاحقاً أنه ضحكة: LoL، وإن كانت هذه الضحكة عنيفة تصبح LooooooooL وكأن من كتبها يزغرد! هناك من يكتب: ههههههه. وهذه حمّالة أوجه. لأنها قد تكون ضحكة حقيقية أو ساخرة من سماجة النكتة. أو: خخخخخ. وهناك من لا يضحك أبداً لأنه لا يمكن نقل الضحكة فيسبوكياً. كما يقول أحد الأصدقاء على صفحته. أو أنه يستعيض عن تلك الاصطلاحات بـ «موّتوني من الضحك».
اللغة
وبعد الضحك، هنالك نوعية اللغة التي يستخدمها «الفيسبوكيون». مع تحرّر اللغة العربية من ثقلها، تحجّرها، قواعدها، أناقتها، يبدو أن اللياقة تسرّبت أيضاً في كثير من الأحيان. لم يعد يجد كثير من الكتّاب مشاهير كانوا أم هواة أي حرج في استخدام ألفاظ تندرج كانت ضمن المحرّمات. وصارت الشتيمة لا تستثني أحداً من السياسيين أو الزعماء أو الكتّاب أنفسهم. مثل أن يكتب أحد الكتّاب: «متعهد نوّاب مطربين يعلن عن حفلات غنائية للنائب الحنون البغل والنائب الغضوب الحربائي والنائب العاطفي البومي والنائب العندليبي الجحش.. والنائب الحزين النهيقي.. والنائب الشرس العصفوري والنائب الصاعد السلحفاتي والنائب التيس في المهجر..». وآخر اختار أن يعبر عن خيبته من أحد الأصدقاء، فكتب على صفحته: (أصدقائي الأعزاء هذا مثل عراقي.. لذلك يراعى قراءة القاف باللهجة العراقية): القلب مثل الدبّانة.. لو يوقع عل الحلا.. لو يوقع عل....»
أما المحرّمات الأخرى المتعلقة بمسألة الدين، فيبدو أن الكثير من مواطني الـ «فيس بوك»، قد تخلّوا عنها تماماً. ثمة خانة تشير إلى دين صاحب الصفحة. البعض يتركها فارغة، والبعض يصرّح بدينه والبعض يكتب عبارات مثل: الدين لله والوطن للجميع. والبعض لا يتردّد بكتابة: ملحد. «سأظلّ مصراً على إلحادي حتى يدعوني شيخ إلى احتساء كأس عرق، ولن أقبل بأقل من ذلك». يكتب أحد الأصدقاء. «حقاً قام.. لكن أين ذهب؟»، يكتب آخر. «أبانا الذي في السموات.. خبّرني عنك»، يكتب ثالث.
وإضافة إلى فعل الحذف الذي يمارسه الأصدقاء بحق بعضهم البعض، هناك فعل الإعجاب. كل عبارة تنشر على الـ«فيس بوك»، يوجد تحتها خياران: إما تختار الإعجاب بها وإما التعليق عليها. ويطالب البعض بإنشاء خيار ثالث هو: الامتعاض منها أو عدم الإعجاب بها. ولا تكمن المخاطر الأمنية بكتابة «الستاتوس» فقط بل في الإعجاب به. هذا ما كتبه أحد الأصدقاء ساخراً: «الإعجاب بتعليق معارض يكلّف صاحبه ثمناً أكبرَ بكثير من الثمن الذي يدفعه كاتب التعليق!». وفي كثير من الأحيان، تكون التعليقات المندرجة تحت «الستاتوس» مسلية أكثر بكثير من «الستاتوس» نفسه. يعجبني الشجار الذي ينشب على صفحات الـ «فيس بوك». وأتخيله في بعض حالاته شجاراً جماعياً أو مجزرة حقيقية. إذ تشارك به أطراف عديدة ويخرج النقاش من إطاره المفترض ويتحول إلى تصفية حسابات شخصية أو نكد صباحي أو سخرية من الطرف الآخر حسب المزاج. وليس من الصعب اكتشاف أمزجتهم، لأنهم يفتتحون نشاطهم على الصفحة بعبارات توحي بوضعهم النفسي. أحدهم يخبرنا أنه يكتب على ضوء الشموع منذ ساعات بسبب انقطاع الكهرباء. وآخر تعكّر مزاجه هكذا، بلا سبب واضح. وثالث فرحان لأنه لم يستيقظ حزينا كالعادة!
وبما أن هذه الفسحة الافتراضية، مفتوحة على جميع الاحتمالات، يختار الكثيرون أسماء مستعارة لأسباب عديدة. بعضها أمني وبعضها بهدف التلصص على صفحات أحبائهم وبعضهم غير مقتنع بضرورة الكشف عن الهوية الحقيقية لكونه عالماً افتراضياً. تصلني كما تصل لكل المتصفحين طلبات صداقة من أسماء مستعارة. وأحياناً أتعجّب من تلك الأسماء. مثل: «بست أنا هون»، أو «تضرب ما أغلظك»، أو حتى «عبد الدافش نكاشة» أو «Le Ne» أو «ma pomme». وأسماء أخرى كثيرة لا تقل غرابة.