محمد السادس.. الثورة الهادئة
رشيدة بنمسعود*
يجمع المفكرون على ان قضية المرأة تعتبر المحك للحكم على كل مشروع مجتمعي حداثي. في هذا السياق تستوقفنا المبادرات التي اعلن عنها الملك محمد السادس منذ توليه العرش من خلال العديد من الخطب مثل (خطاب العرش يوليو (تموز) 2002، خطاب 20 اغسطس (آب) 1999.
ان هذه الخطب الملكية لا ترتبط بمناسبة محددة بقدر ما تندرج داخل رؤية متكاملة لمشروع مجتمعي. تعتبر بنيته التحتية التي يتكئ عليها مقاصد الشريعة السمحة وثقافة حقوق الانسان (خطاب العرش يوليو/ تموز 1999) في افق بناء مجتمع العدالة والديمقراطية الذي يساوي بين مكوناته رجالا ونساء.
اما مرجعيات هذه المواقف المحمدية تجاه قضايا النساء فيمكن تحديدها من خلال العودة الى الاجتهاد الديني المتنور الذي يساير واقع التحولات التي يعرفها مجتمعنا لكي يتسنى له ولوج الالفية الجديدة منفتحا على ثقافة العصر في قيمها الانسانية المثلى الممثلة في الحداثة والتسامح الديني.
يضاف الى ذلك ان هذه الاستراتيجية النسائية لم تكن قرارات فردية، تتعالى عن الواقع المغربي، بل هي استجابة متبصرة لنبض الشارع المغربي ممثلا في فئاته الحيوية من فاعلين سياسيين وجمعيات نسائية وحقوقية.
ان مقاربة سياسة الملك محمد السادس في مجال قضايا النساء يمكن استقراء ملامحها الكبرى من خلال الخطب الملكية التي يوجهها جلالته الى شعبه في مناسبات عديدة كعيد العرش وذكرى ثورة الملك والشعب، او عند افتتاح الدورات التشريعية البرلمانية، حيث، نجد ان هذه السياسة تتأسس على مرتكزات داعمة:
1 ـ إقرار حقوق النساء والعمل على رفع الحيف عنهن لقد انطلق ورش قضايا النساء الاصلاحي منذ أوائل التسعينات وسيعرف حركية متطورة مع بداية عهد الملك محمد السادس ونشاطا ملحوظا، يتجلى من خلال المواقف الملكية التي تعكس رؤية متعددة لقضايا النساء ودورهن الحاسم في تنشيط وتيرة الاصلاح والبناء والتي تتمثل اساسا في مبايعة المرأة المغربية للملك محمد السادس اثر توليه العرش في تجربة رائدة تحدث كأول مرة في تاريخ الدولة العلوية من خلال كاتبتي الدولة في حكومة التناوب اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم حينما بايعته من النساء السيدة خديجة والسيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنهما وغيرهن.
ويمكن ادراج تعيين السيدة زليخة النصري في منصب مستشارة للملك تأكيدا على البعد الرمزي الذي يعترف بكفاءة النساء وقدرتهن على تحمل المهام وتدبير المسؤوليات الثقيلة إسوة بإخوانهن الرجال، اعتمادا على مبدإ الكفاءة، الشيء الذي اصبح تقليدا حميدا يرقى عند كل تعديل حكومي، وعند تنصيب اعضاء جميع الهيئات التسييرية كالمجلس الاستشاري لحقوق الانسان وهيئة الانصاف والمصالحة والهيئة العليا للسمعي البصري والمجالس العلمية (خطاب 30 ابريل/ نيسان 2004). ولقد جاء الانجاز التشريعي منسجما مع هذا التوجه الاستراتيجي الهادف الى ترسيخ الديمقراطية والحداثة انطلاقا من الاعتراف بحقوق المرأة العادلة: «وقد ارتأينا ان يكون افضل تعبير عن الوفاء لروح ثورة الملك والشعب في عيدها الذهبي، وخير منطلق لمواصلتها، تجسيد إرادتنا الراسخة لانصاف المرأة المغربية التي لا قوام للديمقراطية وحقوق الانسان بدون رفع كل اشكال الحيف عنها وتكريمها المستحق» (خطاب 20 اغسطس 2003).
وفي هذا السياق تجدر الاشارة، الى ان مجموعة من المواد القانونية سواء تلك التي تمت مراجعتها او ادخالها بالنسبة لكثير من مشاريع القوانين كمدونة الشغل والقانون الجنائي ومدونة الاسرة، تهدف في مجملها الى انصاف المرأة وإقرار حقوقها العادلة. فالملاحظ ان الخلفية الفلسفية لمدونة الشغل جاءت متشددة في جزء منها الى مبدأ احترام حقوق الانسان ومنع التمييز بين الرجل والمرأة في الاجر، اذا ما تساوت قيمة العمل الذي يؤديانه. كما يمنح هذا القانون من خلال بعض مواده امتياز الامومة للام الاجيرة بتمتيعها بحق الاستفادة من عطلة قصد التفرغ لتربية مولودها، لكن بالرغم من ايجابية هذا المكسب فانه يظل ناقصا لكون هذه الاجازة غير ممنوحة الاجر.
اما بالنسبة للقانون الجنائي فان التغيير والتتميم الذي لحق بعض مواده جاء ليضع حدا للتمييز بين الجنسين في العقوبة بسبب ارتكاب جريمة القتل او الجرح او الضرب عند اكتشاف الخيانة الزوجية (المادة 418) التي كانت قبل هذه التعديلات توفر العذر في تخفيف العقوبة بالنسبة للزوج وحده.
ومن الاضافات القيمة التي قدمها التعديل ما جاء في المادة (503)، التي عملت على تجريم فعل التحرش الجنسي الناتج عن استغلال السلطة وموقع المسؤولية تجاه المرأة العاملة.
ومن ابرز هذه الاصلاحات التاريخية التي تحققت منذ تولي الملك محمد السادس العرش، تأتي في الصدارة مدونة الاسرة، التي جاء الاعلان عنها يوم الجمعة السعيد (10 اكتوبر /تشرين الاول 2003) ليعبر عن لحظة تحول حضارية في تاريخ المجتمع المغربي، وذلك من خلال اقرارها لمبدأ المساواة بين مكونات الاسرة (الرجل والمرأة). ويتمظهر هذا البعد المساواتي من خلال تركيب اللجنة الملكية الاستشارية التي جاءت منصفة للجنسين من حيث التمثيلية والتنوع الثقافي (علوم الدين، الحديث والسوسيولوجيا..). كما ان الاسلوب الذي صيغت به المدونة اهم ما يميزه ابتعاده عن المعجم التقليدي الذي يكرس قيم التفاضل، اما بالنسبة لمضامين المدونة فانها جاءت في شموليتها تكريما لانسانية المرأة واعترافا بنديتها للرجل (المواد: 4 ـ 6 ـ 10 ـ 24 25 ـ 365) 2 ـ الاهلية العلمية تشكل قضايا النساء مكونا اساسيا في بنية المشروع الديموقراطي الحداثي الذي يتطلع الملك محمد السادس الى تحقيقه، اذ يؤكد جلالته في مناسبات عديدة على ضرورة انصاف المرأة وإقرار حقوقها والحرص على تعليمها «.. وسعيا الى احياء هذه المفاخر والأمجاد، وتحفزا الى بناء مغرب قوي متقدم، قادر على حل مشكلات العصر ورفع تحديات المستقبل، فإننا ما فتئنا نحرص على تعليم الفتاة المغربية، ونشجع ولوجها مختلف ميادين العلم والحياة» (الرسالة الملكية الموجهة الى المشاركين في الندوة الدولية حول: المرأة المسلمة والعلوم).
إن تعليم الفتاة يعد عتبة ضرورية لتأهيل المرأة المغربية للانخراط في مجتمع المعرفة والمساهمة في انجاحها باعتبارها رأسمال رقي المجتمع وتقدمه. ومن هنا يستمد حرص الملك دلالته على ضرورة الاخذ بعين الاعتبار الكفاءات النسائية عند تشكيل المجالس العلمية (خطاب ابريل (نيسان) 2004) وتعتبر مشاركة المرأة الباحثة في الدروس الحسنية الرمضانية مبادرة رائدة في هذا المجال على المستوى الاسلامي والعربي واعترافا باهلية المرأة المغربية العلمية.
3 ـ التمكين السياسي ان نظام «الكوتا» او اللائحة الوطنية التي اعتمدها المغرب في استحقاقات 27 سبتمبر (ايلول) 2002 كان القصد منها الرفع من تمثيلية المرأة المغربية في مجلس النواب كتعبير ايجابي ساهم في دعم مشاركة المرأة في الحقل التشريعي. ونجاح هذه التجربة التي اصبحت من صميم التقاليد الديمقراطية، اهَّلها لكي تكون نموذجا لكثير من الانظمة التشريعية في العالم العربي، وخطوة اساسية من اجل استئناس المجتمع بمهام المرأة التشريعية والتنفيذية، وفرصة تدريب لها على ممارسة تدبير الشأن العام. وهذا ما عبر عنه جلالته بقوله عند افتتاح الدورة الاولى للبرلمان يوم 11 اكتوبر 2002.
«واذ نهنئ النواب على انتخابهم، او تجديد الثقة فيهم، فإننا تخص بالتهنئة السيدات النائبات، واثقين من ان ما عرفت به المرأة المغربية من جدية وواقعية ونزاهة، ينعكس ايجابا على اشغال المجلس، متطلعين الى المزيد من انصافها، وتحقيق المساواة العادلة لها في كل مجالات الحياة الوطنية». إن جردنا لهذه المكاسب التي تحققت للنساء منذ ان تولى الملك محمد السادس العرش، يستدعينا لكي نتأمل هذه الثورة الثقافية الهادئة التي تختزل في مدة وجيزة ما لم يتحقق للمرأة المغربية منذ نصف قرن من الزمن، الشيء الذي جعل النساء يشعرن بنوع من الثقة يؤهلهن للانخراط الفاعل في مسلسل الاصلاح والمشاركة في التنمية الشاملة.
لقد تحققت هذه المكاسب نتيجة وجود ارادة سياسية فاعلة، تتسلح بالحكمة والرؤية المستنيرة والاستراتيجية المستقبلية التي ينهجها الملك محمد السادس بإصرار وعزيمة، مما يذكرنا بـ«ميجي» اليابان، الذي بفضل اصلاحاته الكبرى وضع بلاده في مسيرة التقدم والحداثة.
ولا شك، ان هذا الافق الرحب الذي فتح ابوابه عهد محمد السادس من خلال هذه المنجزات التي عرضناها، يتطلب من النساء المغربيات ان يتطلعن الى تحصينها بمؤازرة ودعم من المنظمة النسائية والحقوقية، وان نجعل منها البوصلة التي توجهنا في مسيرة الألف ميل الطويلة.
* استاذة باحثة بجامعة محمد الخامس ونائبة في البرلمان المغربي