البدايات.. وتجربته الشعرية
ولد د. بديع حقي في دمشق عام 1922، ونال إجازة في الحقوق من جامعة دمشق عام 1944، ودكتوراه في الحقوق الدولية من باريس عام 1950، عمل في وزارة الخارجية سفيراً مفوضاً ابتداءً من عام 1945، وأتقن عدة لغات بحكم عمله، وصدر له 14 كتاباً في الشعر والقصة والرواية و11 كتاباً مترجماً.
بدأ أديبنا حقي مشواره الأدبي في سن مبكرة حيث بدأ بالنشر في بعض الصحف اليومية أو الأسبوعية عندما كان فتى في سن غضة، من هذه الصحف «سمير التلاميذ» وكانت أول صحيفة مخصصة للأطفال في القطر وكتب فيها عندما كان في الثانية عشرة من عمره وهي تجربته الأولى، ثم نشر في صحيفة «الأحد» الأسبوعية لصاحبها إيليا شاغوري رحمه الله أولى مقالاته الأدبية، كما نشر في العديد من الصحف والمجلات السورية واللبنانية والعربية.
البدايات كانت مع الشعر وضمها في ديوانه «سحر»، ومن قصائده الجميلة قصيدة «لحن البوليرو» التي انثالت كينبوع عذب، حين استمع الشاعر حقي لهذا اللحن من الملحن صميم الشريف:
«يا نديمي هلك اللحن وماتت كل آه
هات من روحك ما يبث في الناي الحياه
من نداء الغاب مر النسيم فيه ثم تاه
من حنين الروح هلت في أعاليه صلاه».
ومن أجمل قصائده التي وردت في كتابه «جمرة الحرف وخمرة النغم» قصيدة «خريف غابة بولونيا» وعدتها الشاعرة العربية نازك الملائكة من بواكير الشعر الحر وإرهاصاته ونورد منها:
«أي نسمة
حلوة الخفق عليلة
تمسح الأوراق في لين ورحمة
تهرق الرعشة في طيات نغمة
وأنا في الغاب أبكي
أملاً ضاع وحلماً ومواعيد ظليلة».
لم يصدر الأديب حقي سوى ديوان شعري واحد هو «سحر» وألف معظم قصائده في بداياته، ثم هجر الشعر لأسباب خاصة لا يحب الخوض فيها كما كان يردد دائماً: «ولئن هجرت الشعر وهجرني لأسباب خاصة لا أحب أن أخوض فيها، لقد وقعت في غرام القصة والرواية، ووجدت تعويضات مما فقدت، ولم أعد إلى الشعر إلا لماماً، بيد أنني مازلت أحن إليه حنيناً متقداً، وعذري في هذا التقصير أن نثري يدخر جمالية الشعر وموسيقاه».
عمله الدبلوماسي وعلاقته بالكتابة
لم يثنهِ عمله الدبلوماسي كسفير لبلادنا في بلاد أوروبية شتى عن الكتابة وخوض غمارها، بل على العكس أفادته مهنته في كتاباته، ويذكر في كتابه «جمرة الحرف وخمرة النغم» أنها قد أتاحت له أن يقيم في بلدان شتى وفي فترات مختلفة، بلغ مجموعها أكثر من ثلاثين عاماً من اثنين وأربعين عاماً في الوظيفة.
ويصف ذلك بقوله: «هفت نظراتي إلى آفاق وسيعة لم تكن تنفسح لي لو أنني قبعت في بلدي لا أريم منه».
هذا الاغتراب أتاح له التجديد واتسق له أن يرفد ثقافته العربية بثقافات أجنبية مستجدة غذت أدبه، وضجت خياله، ويسرت له أن يتقن عدة لغات وطأن له نقل بعض الآثار الأدبية الرفيعة إلى اللغة العربية، وكان رحمه الله يردد دائماً عبارة مشهودة حول علاقة الدبلوماسية بالأدب: «الدبلوماسية زوجتي الشرعية أما الكتابة فعشيقتي». ويذكر أن زوجته الشرعية وعشيقته متفقتان ومتفاهمتان لمصلحته، حيث أمدته الدبلوماسية بالخبرة والتجربة والمعرفة
موسقة الرواية والقصة
كتب الرواية والقصة القصيرة ورواياته: «جفون تسحق الصور، أحلام الرصيف المجروح، همسات العكازة المسكينة»، كما جمع قصصه القصيرة في مجموعات هي: «التراب الحزين، حين تتمزق الظلال، قوس قزح».
واتسقت له موسقة الرواية والقصة لأنه كان شاعراً رمزياً، والشعر الرمزي يتكئ بصورة خاصة على موسيقا الكلمات والحروف وتناغمها وائتلافها، هكذا أضحت همسات العكازة، فيما هي تنقر الطريق وتوشيه بلمساتها المتدفقة المترفقة أضحت أشبه بجملة موسيقية، منسابة، ضمن سيمفونية عذبة رقيقة الجرس تتردد متناغمة من أول الرواية إلى منتهاها، كما أنه اتكأ على هذا المنهج في موسقة الرواية في روايته «أحلام على الرصيف المجروح» حين جعل بطل الرواية (محمد) يتذكر كلمات زوجته (فاطمة) فيما هي تعاني سكرات الموت: «محمد يا محمد لا تنسى يا محمد أن تنقل عظامي إلى مقبرتي في المحلة الشرقية بحيفا» وكان ترديد هذه الجملة اللازمة الموسيقية التي كان محمد يترجمها في ذاكرته المتوفزة، اليقظى، يعكس الحنين اللاذع في قلوب عرب الشتات إلى الوطن الأم فلسطين.
كما أنه جعل النهر يلغو ويبوح بشكواه ونجواه في قصة «حكاية النهر والجسد» التي يضمها كتابه «قوس قزح فوق بيت ساحور»، ووصف الأديب بديع حقي للنهر جعله يهدر مغنياً مريقاً صوره الشعرية المموسقة الملونة لتكون القصة أشبه بقصيدة يترنم بها النهر، راوياً كيف كادت تغرق بطلة القصة/ القصيدة المماثلة لسوناتا موسيقية، بكلماتها وصورها، ومن دون أن يحبسها الشعر ويغلها بقيود الوزن والقافية
الجماد في رواياته وقصصه
يتحدث ويناجي
كما تميز أسلوب كاتبنا الراحل بأنسنة الجماد حيث جعل الخيمة تتحدث في قصته «يوميات خيمة» التي يضمها كتاب «التراب الحزين» وهذه المجموعة درست في المدارس بالمرحلة الثانوية في إحدى الفترات نظراً لأهميتها.
هذه الخيمة تتحدث في يوميات متتابعة إثر نكبة عام 1948 عن مواجع اللاجئين الفلسطينيين، والأمر نفسه ينطبق على رواية همسات العكازة المسكينة التي كانت تهزج وتلغو مشاعر صاحبها الأعمى كما كتب بالأسلوب نفسه قصة «نجوى زهرة البوكسيا» حيث جعلها تتحدث عن العلاقة التي تربط هذه الزهرة بـ د. كنعان وصفي الجابي الذي يناجي هذه الزهرة الإفريقية في كل صباح وهو يتناول قهوته، ويتغزل بزهراتها الحمراء التي تزهر كل صباح، وكيف أن هذه النبتة أمسكت عن العطاء وذبلت وماتت فكأن ثمة تواصلاً خفياً بين الإنسان والنبات
ترجمات لروائع طاغور والأدب الروسي
أتاح له إتقانه لعدة لغات الخوض في غمار الترجمة حيث ترجم العديد من الروايات ومنها «لا تزال الشمس تشرق» لهمنغواي و«المعطف- اللوحة» لغوغول، كما ترجم روائع الشاعر الهندي طاغور ومنها «البستاني، جني الثمار، شيترا، ذروة الربيع» كما ترجم للزعيم الغيني المناضل أحمد سيكوتوري «قصائد مناضلة» وهذه الترجمة ساهمت في نشوء صداقة بين أديبنا الراحل والرئيس سيكوتوري الذي قال- حسبما ذكر حقي- حين زار سورية وكان أديبنا سفيراً لسورية في غينيا قال للقائد الراحل حافظ الأسد: «إنني أعتبر الدكتور بديع حقي سفيراً لي في سورية».
ورغم صعوبة ترجمة الشعر - حيث يقال إن الترجمة هي خيانة للنص – فكيف إذا كان ترجمة لنص شعري، إلا أنه برع في ذلك نظراً لأنه شاعر مرهف وحتى نثره تسللت إليه لغة الشعر.
فلسطين في إبداعاته
شغلت القضية الفلسطينية حيزاً مهماً في إبداعاته، وصدر كتاب «فلسطينيات بديع حقي» ضمن هذه الإبداعات، وأورد في العديد من حواراته أن مجزرة قبية التي قام بها شارون وعصابته في قبية الشهيدة هي التي أشعلت الحرائق في حروفه، واستوحى من مصائب فلسطين ونكباتها أربعة كتب أولها «التراب الحزين» الذي نال جائزة الدولة أثناء الوحدة، وثانيها كتاب «حين يورق الحجر» وهي مجموعة مقالات نشرها في صحيفة البعث واستلهمها من مواجع الحجر الفلسطيني، وانتفاضة أطفال الحجارة، ورابعها «قوس قزح فوق بيت ساحور».
كتب سيرة حياته في «الشجرة التي غرستها أمي»، وحين صدر هذا الكتاب قال إنه المجلى الواضح لشخصيته منذ بدء نموها ونضجها حتى استمسكت وإنه في هذا الكتاب يرى نفسه على حقيقتها دون أي زيادة أو تشويه، وكتب الأديب الراحل عبد السلام العجيلي الذي ربطته صداقة قوية بالأديب حقي عن هذا الكتاب قائلاً: «لقد غرست أم بديع شجرة في الأيام الفائتة، تفيأت ظلها ومتعت نظري بخضرة أوراقها، والشجرة الثانية هي بديع نفسه الذي غرسته في حديقة الأدب وروضة الفن من هذا الوطن».
ترك أديبنا بديع حقي الذي رحل عام 2000 بصمات واضحة، وخط لنفسه أسلوباً متميزاً في الرواية والقصة القصيرة، وكتب في الدراسات، كما نشر العديد من المقالات إلى جانب ترجماته، وكان علماً من أعلام الأدب في سورية والوطن العربي وغمس قلمه في مواجعنا الحياتية، لذلك يستحق أن يبقى في ذاكرتنا حياً.
الوطن- نجلاء بكرو