الثقافــــة الإفريقيـــة
محمد وقيدي
خاص بالموقع
(1) وضع الثقافة الإفريقية
جدل الوحدة والاختلاف الذي يحكم الوضع الإنساني العام هو ذاته الذي ينطبق على الثقافة حيث يكون الأمر متعلقا بالعلاقة بين كونية القيمة الثقافية وبين تنوعها عند الانتقال من حضارة إلى أخرى أو من مجتمع إلى آخر. هذا هو الإطار الذي نتناول ضمنه الآن الثقافة الإفريقية كواحدة من الثقافات التي يتشكل منها التنوع الثقافي في العالم المعاصر، علما بأن اهتمامنا بالثقافة الإفريقية ينبثق من كوننا مجتمعا ينتمي إلى القارة الإفريقية، وينبثق كذلك عن الأخذ والعطاء بين ثقافتنا والثقافة الإفريقية على العموم. مرجعياتنا في الحديث عن الثقافة الإفريقية متعددة أولها وعينا بالانتماء الإفريقي للبلد الذي ننتمي إليه، ووعينا بأن هذا الانتماء يندمج ضمن مكونات المجتمع وتعبيراته الثقافية المختلفة. كان من أول الأعمال التي اطلعنا عليها وقائع المناظرة الثقافية الأولى التي انعقدت بالجزائر سنة 1969، وهذا تاريخ ذو دلالة خاصة للقارة الإفريقية. فقد انعقدت المناظرة متزامنة أو متفاوتة بوقت قصير مع حصول كثير من البلدان الإفريقية على استقلالها السياسي،فكانت وقائعها ومحاورها بمثابة البحث عن استقلال آخر هو الاستقلال الثقافي الذي ازداد الوعي لدى الأفارقة بأنه المظهر الأعمق لتحرربلدان القارة.كان الأفارقة في ذلك الوقت مايزالون يبحثون عن التوجه الذي ينبغي أن يسير فيه عملهم لكي يكون استقلالهم تاما.(1)
نسجل، من جهة ثانية،أن المناظرة التي نتحدث عنها تمت بحضور عدد من القادة الأفارقة، وهو ماجعلها اجتماعا من أعلى مستوى لمناقشة المسألة الثقافية في إفريقيا وتبادل الخبرات في موضوعها. ولأجل ذلك، فقد كان ما أسفرت عنه المداولات في تلك المناظرة بمثابة ميثاق حول الثقافة الإفريقية تبنته في الوقت ذاته أسمى منظمة في القارة في ذلك الوقت وهي منظمة الوحدة الإفريقية. لقد فتحت المناظرة باب التعاون الإفريقي في مجال الثقافة. لاننسى، مع ذلك، إشكال تنفيذ قرارات المناظرة الثقافية الإفريقية، والآتية من جملة من الصعوبات التي تطرح على البلدان الإفريقية، كما لانغفل أن التعاون يقتضي علاقات جيدة مستمرة بين البلدان الإفريقية، وهو شرط لم يكن دائما متوفرا بفعل النزاعات التي تقوم بين تلك البلدان والتي كان من عواقبها حلول مشكلات أخرى محل الأولوية التي تعوق ذلك التنفيذ وتجعل القارة الإفريقية بعيدة عما رسمته لذاتها من بناء ثقافي لابد منه لإعطاء الاستقلال السياسي بعده الحقيقي.
نلاحظ، كذلك، أن الاتفاق حول ماهية الثقافة الإفريقية لم يكن قائما، وأنه كانت هناك عدة مواقف ووجهات نظر متباعدة نسبيا بعضها عن البعض الآخر إلى حد الظهور بمظهر التعارض في بعض الحالات. ونرى أن هذا الأمر طبيعي لأن الاختلاف حول موضوع مثل الثقافة يكون نابعا عن اختلافات في التطور والمشكلات المطروحة على كل بلد. وفوق ذلك فإن مناظرة واحدة حول موضوع واسع لايمكن أن تصل مباشرة إلى اتفاق حول موضوعها، خاصة وأن تجارب البلدان الإفريقية كانت متنوعة بصدد هذه المسألة. وفي نظرنا،فإن الإشكالات التي ظهر بصددها خلاف تستحق التعرف عليها وإعادة التفكير فيها. هناك، في نظرنا، خلفيات سياسية وفلسفية تقي الضوء على الاختلافات القائمة.
لم تمنع الاختلافات التي ظهرت خلال المناظرة الإفريقية الأولى حول الثقافة من الاتفاق حول الأهمية التي تكتسيها المسألة الثقافية بالنسبة للبلدان الإفريقية التي كانت حديثة عهد بالاستقلال والتي كانت تتوق إلى احتلال مكانتها ضمن العالم المعاصر، وكان ضمن ذلك سعيها إلى تقديم تراثها الثقافي باعتباره جزءا من الإبداع الثقافي العالمي. وهذا الاتفاق حول أهمية المسألة الثقافية نقطة ارتكاز بالنسبة لتناول هذه المسألة في الوقت الحاضر.(2)
كان هناك وعي بأن العمل من أجل الحفاظ على التراث الثقافي للشعوب الإفريقية مظهر للحفاظ على هوية تلك الشعوب.كما أن سياسة بعث الثقافة الخاصة بالبلدان الإفريقية جزء من التحرر من آثار الهيمنة الاستعمارية السابقة.ودون إنكار قيمة المظاهر الأخرى لتحرر البلدان التي خضعت للتجربة الاستعمارية، فإن العمل العميق من أجل استعادة المجال الثقافي هو أعمق سياسة للتحرر من آثار الهيمنة السابقة.لقد بذلت السلطة الاستعمارية في البلدان الإفريقية التي خضعت لها على طمس وإقصاء العناصر المختلفة المميزة للثقافة في كل بلد إفريقي،وفرض بديل عنهايتشكل من عناصر الثقافة التي تعود إلى القوة المهيمنة، فكانت الثقافة بذلك وسيلة لدعم الأشكال الأخرى من الهيمنة.لكن الأمر لايطرح بالنسبة للأفارقة بنفس الصيغة السابقة،إذ تصبح الثقافة الوطنية في كل بلد مظهرا من مظاهر التحرر من الهيمنة السابقة.
مهما كانت شروط الثقافة الإفريقية اليوم، فإن من مطالب الأفارقة، ومن المطلوب منهم أيضا، العمل على القيام بكل المجهودات والخطوات التي تؤهل ثقافاتهم الوطنية لكي تظهر بوصفها جزءا من التنوع الثقافي الذي يوجد لدى الشعوب التي تعيش على أمل السلام في كل جهات العالم الاستفادة من ثرائه.
2) هوية الثقافة الإفريقية
يلمس التساؤل عن هوية الثقافة الإفريقية مجالا واسعا من حيث إنه يتعلق بقارة بكاملها، من جهة، وهذا مع ما ينشأ عن سعة المجال الجغرافي الذي نتحدث عنه من اختلاف وتنوع ضروريين في الإنتاج الثقافي الإفريقي بلغته ومضامينه واتجاهاته، وقد كانت بداية حديثنا عن الثقافة الإفريقية من حيث هي جزء من التنوع الثقافي على الصعيد العالمي، وهو تنوع يوجد داخل الثقافة الإفريقية ذاتها. ومن جهة أخرى، فإن الحديث عن الثقافة الإفريقية يشمل أنواعا مختلفة من الإبداع والتفكير يصعب على الدارس إصدار أحكام عامة شاملة لها جميعها. ولا ننظر إلى حديثنا الحالي إلا بوصفه مدخلا للبحث في الثقافة الإفريقية في تفصيلاتها ولويناتها المختلفة.
الجواب الأول الأكثر عمومية عن التساؤل حول هوية الثقافة الإفريقية هو القول إنها مجموع الإبداعات الأدبية والفكرية والفنية التي تنتمي إلى القارة الإفريقية والتي تعبر بموضوعاتها ومضامينها عن انشغالات الإنسان الإفريقي بما هو إنسان له خصائص معينة وأنماط محددة من الحياة تميزه عن مثيله في الجهات الأخرى من العالم. سيكون توجه التفكير في هذه الحالة نحو إظهار ماتتميز به الثقافة الإفريقية من أشكال التعبير الأدبي والفكري والفني، إذ أن هذه الأشكال الصادرة عن الإنسان الإفريقي والمتصلة بحياته اليومية بما فيها التصورات والأفكار والطموحات.
للثقافة الإفريقية خصائص مميزة في مختلف مجالات الإبداع. ليست اللغات الإفريقية وحدها متميزة كوسيلة للتعبير، بل إن المضامين كذلك مختلفة لأنها ترتبط بنمط الحياة في المجتمعات الإفريقية. نشعر بخصوصية إفريقيا الثقافية. عندما نشاهد حفلا للرقص من بلاد متباينة من القارة،وهو نفس الشعور الذي يغمرنا عند الإنصات للموسيقى الإفريقية بموازينها والآلات المستخدمة فيها، كما نقرأ مضامين تلك الخصوصية ونحن نصغي إلى قصائد شعرية لشعراء أفارقة، ولا تغيب تلك الخصوصية عن السينما في القارة، بل إنها حاضرة كذلك في أشكال المعمار وفي الفنون التشكيلية.
هناك، في نظرنا، مجال واسع لعمل ثقافي راهن من أجل إبراز هوية الثقافة الإفريقية وإظهار مساهمتها في الإبداع الثقافي الإنساني بنوع خاص من الإنتاج الفكري والأدبي والفني. ويظهرمن خلال هذا العمل الكبير الموكول إلى مؤرخي الثقافة والأفكار ونقاد الآداب والفنون الأفارقة. نرى أنه من المطلوب اليوم القيام بأعمال تؤرخ للقارة الإفريقية من أجل إظهار الحضارات التي قامت بها في العصور المختلفة وإعادة بناء مانتج عن تلك الحضارات منذ القدم من آداب وفنون وأشكال مختلفة من التعبير عن مشاعر الإنسان الإفريقي على مدى التاريخ الطويل للإنسانية في القارة.
هناك مجال للعمل الثقافي المشترك بين البلدان الإفريقية، وهو مايمكن أن تقوم به منظمة ثقافية على الصعيد الإفريقي، كما يمكن أن تساهم فيه معاهد مختصة يكون عملها العلمي متعلقا باللغات الإفريقية وبالتراث الثقافي الذي كانت إطارا تعبيريا لإبداعه.ونعلم أن مثل هذه المعاهد موجودة في بعض البلدان الإفريقية. لكننا نرى أن العمل الثقافي المطلوب إنجازه يتجاوز، من جهة أخرى، ما يمكن أن تقوم به لجنة ثقافية داخل الاتحاد الإفريقي. لأن التحرر الثقافي هو عمق تحرر الشعوب من عواقب الفترة الاستعمارية، يكون من المطلوب بالنسبة لسياسة البلدان الإفريقية أن تمنح العمل الثقافي المكانة التي يستحقها ضمن الجهود المبذولة لتحقيق التنمية.(3)
يفتقر البحث في الثقافة الإفريقية اليوم إلى عدد من المعطيات التي ينبغي أن تتوجه نحوها البحوث المتخصصة في العلوم الإنسانية المختلفة من أجل توفير كل المعطيات اللازمة لإنجاز معرفة شاملة بالثقافة الإفريقية منذ العصور القديمة للقارة وإلى الآن. نتحدث اليوم عن ثقافة إفريقية ذات هوية خاصة، غير أن هذه الهوية ليست معطى جاهزا ،بل واقعا ينتظر من الأفارقة إعادة بنائه نظرا لما تعرض له بفعل ضعف إمكانيات البلدان الإفريقية وبفعل السياسة الثقافية في الفترة الاستعمارية من مظاهر التلف والضياع، وهو الأمر الذي زاد من حدته أن اللغات الإفريقية الحاملة للتراث لم تعد هي اللغات السائدة، بل ولم تعد وحدها وسيلة الإبداع الثقافي، إذ صارت اللغات الأجنبية وسيلة أخرى للإبداع الإفريقي.
هناك ميادين بحث متعددة ومتداخلة ينبغي الاستفادة منها وتطوير البحوث في مجالها، نذكر منها:
- ادراسات التاريخية العامة عن القارة الإفريقية، وهي التي تفيد في معرفة الحضارات التي مرت في القارة الإفريقية، والتي أولعا الحضارة المصرية القديمة، ثم الحضارات الأخرى في بعض البلدان الإفريقية كغانا ونالي وغيرهما. ودراسة الحضارات القديمة في إفريقيا أرضية لمعرفة الإطار العام الذي تشكلت ضمنه الإبداعات الثقافية الإفريقية.
- الدراسات الأركيولوجية المفيدة في التعرف على الآثار التي تركتها الحضارات الإفريقية القديمة للتمكن عبر ذلك من معرفة مستواها الحضاري وما تكون قد ساهمت به في التاريخ الثقافي الإنساني العام، ولأن أشكال المعمار والعيش التي تدل عليها تلك الآثار جزء من الثقافة بالمعنى العام الذي نستخدمه في حديثنا عن الثقافة الإفريقية.
- الدراسات الإثنولوجية التي تتناول الأعراق المكونة لكل شعب، حيث يكون ذلك مدخلا للتعرف على الإطار البشري الذي تشكلت ضمنه أشكال التعبير الثقافي الخاصة به أو المشتركة بينه وبين شعوب أخرى في القارة أوخارجها.
- الدراسات الأنثروبولوجية ذات الفائدة في معرفة ثقافات الشعوب وإبراز الأشكال التعبيرية الخاصة بها في إطار السياق المجتمعي الذي نشأت وتطورت في إطاره.ومن المعروف أن الأنثروبولوجيا تبحث في الثقافة الشفوية مثل بحثها في الثقافة المكتوبة، علما بأن جزءا من الثقافة الإفريقية شفوية ومايزال البعض منها كذلك إلى الآن.
- التاريخ الثقافي للقارة، وهو ما نراه مفيدا لمعرفة الخصوصية الثقافية للقارة. غير أن هذا التاريخ الذي يكون في مستوى من التحليل عاما يهم كل الأزمنة والبلدان المنتمية إلى القارة، يكون أيضا تاريخا خاصا من جهتين: التاريخ الثقافي لكل شعب إفريقي بالنظر إلى الخصوصيات التي يتميز بها في ظل المشترك والعام في القارة، ثم التاريخ الخاص بكل شكل من أشكال الإبداع الثقافي. ويفيد هذا الأمر الباحثين في الثقافة الإفريقية بصفة عامة، وفي كل ميدان ميادين الثقافة بصفة خاصة في معرفة التطورات التي عرفتها الثقافة الإفريقية في كل ميدان.
- الدراسات اللغوية التي ستسمح بدراسة اللغات الإفريقية وتفيد في معرفة السياق اللغوي الذي تم فيه إبداع الإنتاجات الثقافية الإفريقية، علما بأن ذلك لايدخل ضمن تحليل اللغات كأنساق فحسب، بل يشمل أيضا التحليل النفسي والاجتماعي للغات، كما يشمل أيضا البحث في تاريخ الأنساق اللغوية. والعمل المطلوب هنا، كما نرى، كبير بالنظر إلى التعدد الكبير للغات الإفريقية ، وبالنظر كذلك إلى التعدد اللغوي الملحوظ في كل بلد من البلدان الإفريقية.
- الدراسات النقدية الخاصة بالآداب والفنون، وهي ذات فائدة في معرفة الخصائص العامة للإبداع الأدبي والفني ومعرفة معايير الجمال في تلك الميادين، وذلك للتمكن من معرفة ما يميز الآداب والفنون الإفريقية عن مثيلاتها في بقية جهات العالم، ولإدماج ذلك ضمن الدراسات المقارنة في هذا الباب. هناك، إذن، برنامج واسع للعمل الثقافي المشترك وداخل كل بلد من البلدان الإفريقية من أجل إثبات الهوية الثقافية للقارة وضمن ذلك الهويات الخاصة بكل جهة من جهات تلك القارة.ويعني برنامج العمل هذا أن هوية الثقافة الإفريقية التي يريد الأفارقة إظهارها بوصفها مظهرا من مظاهر تحررهم الثقافي من آثار الطمس الذي مارسته القوى الاستعمارية في زمن هيمنتها ليست معطى جاهزا، بل هي واقع يكون عليهم إعادة بنائه. ويكون من المطلوب لأجل هذا البناء العمل في ضوء ثقافة حاضرة جديدة تساهم فيها أبحاث من علوم إنسانية متعددة. هناك اليم حاجة إلى ثقافة جديدة متعددة الميادين والمناهج للحصول على نتائج تهم إثبات أصالة المساهمة الإفريقية في التراث الثقافي الإنساني العام.(4)
نرى من الملائم، فضلا عما ذكرناه، أن نقول إن قيمة الثقافة الإفريقية لاتكمن في خصوصيتها وتمايزها فحسب، بل تكمن أيضا في العمل من أجل القيمة الكونية لتلك الثقافة. فالهوية المطلوبة للثقافة الإفريقية اليوم هي حقيقتها الإنسانية الشاملة، أي حقيقتها من حيث هي معبرة عن مشاعر وتصورات وأفكار إنسان يتصور ذاته جزءا من إنسانية عامة لا تلغي خصوصيته وتمايزا ته انتماءه العام إلى الإنسانية المعاصرة. هناك فضلا عن خصوصية الثقافة التي تحققت في الماضي ضرورة للمساهمة الفاعلة في التنمية الثقافية الإنسانية العامة. وهذا ما يجعل هوية الثقافة الإفريقية من جانب آخر واقع يكون إنجازه مطلوبا فضلا عن كونه عناصر من التاريخ يكون من المطلوب استعادتها وإبعاد ما لحقها من طمس وتلف.والعمل الجماعي المعقلن والمنسق طريق لبلوغ هذه الغاية المنشودة.
بدأنا بالتأكيد أن اهتمامنا بالثقافة الإفريقية يأتي من انتمائنا إلى القارة الإفريقية، ونؤكد الآن أن السياسة الثقافية التي ذكرناها بالنسبة لكل ميادين الاشتغال والإبداع تهمنا كجزء من القارة التي ننتمي إليها. ذا الانتماء تاريخي وحضاري، ولن تغير منه العلاقات التي نربطها ببلدان أخرى خارج القارة. لن يفوتنا أن نشير إلى أن الوضع الثقافي الإفريقي اليوم دون ماهو مطلوب لأن هناك افتقارا إلى إطار عام على صعيد القارة الإفريقية بكاملها يناقش الإمكانيات المشتركة الموجودة من أجل القيان بالتنسيق بين السياسات الثقافية على الصعيد القاري. لديكارتي وبين وضعية المتفلسف الإفريقي اليوم. ولكننا نقول، مع ذلك، إن الفيلسوف الإفريقي المعاصر لا يفتقد وجود تراث فلسفي هو التراث الإنساني بصفة عامة وتراثه الفلسفي الإفريقي بصفة خاصة.هل كانت هناك حضارات في إفريقيا؟ وهل أنتجت هذه الحضارات فكرا فلسفيا كان له أثر في تاريخ الفلسفة؟ قد يميل البعض من المنتمين إلى النزعة الأوربية المركزية إلى نفي هذا التاريخ وإلى القول بأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ هذا النمط من التفكير في الثقافة الغربية فقط، ولكننا نرى بالاستناد إلى وقائع التاريخ الفعلي أن القارة الإفريقية لم تخل من تاريخ حضاري كان من بين أهم لحظاته الحضارة المصرية القديمة، وهي بحسب موقعها الجغرافي. وإذا كان المؤرخون الغربيون يميلون إلى نسبة بداية تاريخ الفلسفة إلى الحضارة اليونانية،فإن هناك رغم التوافق العام حول أهمية اللحظة اليونانية من يطرح بعض الأسئلة النفدية على هذا التأكيد لينسب إلى حضارات أخرى منها الحضارة المصرية القديمة،التي تهمنا الآن لموقعها الإفريقي.وأكثر من ذلك، فإن هناك من يرى أن البحث يوقفنا في الحضارة المصرية القديمة على حكماء قد لايقلون قيمة عن أولائك الذين عرفتهم الحضارة اليونانية. ولن ندخل في تفاصيل هذا الموضوع لأنها تستحق تناولا مستقلا لها، إذ ما يهمنا في سياقنا الحالي هو إثبات تطور حضاري في إفريقيا كان به بعض التطور الفكري الذي يمكن اعتباره، على الأقل، حكمة إفريقية تقترب من الفلسفة أو تمهد لها.
نضيف إلى الحضارة المصرية القديمة وما يكون قد ظهر فيها من حكمة ماظهر أيضا في الحضارة الإسلامية من فلسفة.بدأت نشأة هذه الفلسفة أولا في آسيا حيث كان ظهور الإسلام الذي كان أسا لها، ولكنها امتدت بعد ذلك إلى بلدان الشمال الإفريقي بداية من مصر وليبيا، ثم تونس والجزائر والمغرب، أي مايدعى عادة بالغرب الإسلامي حين نضيف إليه الأندلس في عهد سيادة المسلمين بها.فزيادة على حضور الفلسفة الإسلامية التي نشأت في المشرق، فإن هناك فلاسفة نشأوا وعبروا عن تفكيرهم في بلدان الشمال الإفريقي وكان لهم أثر في تاريخ الفلسفة والفكر الإنسانيين بصفة عامة. ولعل أهم من نذكرهم في هذا الصدد هم ابن رشد فيلسوف قرطبة ومراكش،الذي كان لفكره أثر لايمكن نكرانه على التاريخ الفلسفي اللاحق عليه ، ثم ابن خلدون الفيلسوف الاجتماعي الذي لايمكن أن نؤرخ للفكر الإنساني في مجاله دون أن نذكره، علما بأنه فكر في إفريقيا التي كان شمالها موضعا لتحليلاته ذات القيمة التي لايمكن التنكر لها. كما تطورت في الجهة الشمالية من إفريقيا ثقافة تشمل كل العلوم القائمة في زمنها.وهذه الثقافة هي التي انتقلت مع الإسلام إلى البلدان الإفريقية الأخرى التي انتشر بها، وكان من ثمرات ذلك ظهور مفكرين أفارقة استوعبوا تلك الثقافة وأضافوا إليها.
لا ينبغي أن نهمل،كذلك، الحكمة الإفريقية التي ظهرت في البلدان الإفريقية التي لم يدخلها الإسلام أو التي شكل فيها المسلمون أقلية بين السكان.وهذا يفيدنا في أن إفريقيا لم تكن خالية من البعد الفكري، والفلسفي بصفة خاصة، في الفترة التي خضعت فيها البلدان الإفريقية للهيمنة الخارجية. فلإفريقيا تاريخ حضاري وفكري قبل بداية تلك الفترة، وهو ما يشكل التراث الإفريقي الخاص الذي يمنح الذات المفكرة الإفريقية اليوم أرضية فكرة يمكن الانطلاق منها، ولكن في تمازج إيجابي مع معطيات الثقافة الفلسفية الإنسانية بصفة عامة، وخاصة منها الثقافة الفلسفية المعاصرة
ب) نرى أن وضع المتفلسف الإفريقي اليوم هو الانجذاب بكيفية طبيعية إلى تراثين هما: التراث الإفريقي الخاص، ثم التراث الإنساني العام. يؤمن التراث الأول نوعا من الثقة بالنفس الذي يجعل الذات الإفريقية، وهي تريد أن تفكر فلسفيا،تعي بأنها لاتنطلق من فراغ فكري. وأما التراث الثاني، فإنه يضع الفلسفة الإفريقية في سياق الإشكالات الفلسفية الراهنة ويجعلها أمام مهمة مسئولية المساهمة في التفكير في القضايا المطروحة على الفلسفة اليوم وفي تقديم مساهمة ذات فائدة بالنسبة لإنسانية اليوم بصفة عامة.لقد لمسنا هذا الأمر ونحن نفكر في وضع الثقافة العربية والإسلامية اليوم، علما بأن ما يعود منها إلى بلدان الشمال الإفريقي يشكل قسما من الثقافة الإفريقية المعاصرة.غير أننا نأخذ هنا الاعتماد على التراث الإفريقي بإضفاء النسبية عليه، مراعين أن هناك انقطاعا لذلك التراث وتوقفا له عن
الهوامش
1) تم جمع أعمال المناظرة الأولى للثقافة الإفريقية في كتاب، راجع
1969 Africaine, le symposium d, Alger,21-01Juillet1969, édition S.n.e.d La culture 2) حالت النزاعات الداخلية في كثير من البلدان الإفريقية، وكذلك الحروب بينها، دون توجيه مجهودها للتنمية بصفة عامة، وللتنمية الثقافة بصفة خاصة بإيلاء المسألة الثقافية المكانة التي تستحقها، كما حالت دون التعاون في تطبيق المقترحات التي جاءت بها المناظرة الإفريقية الأولى حول المسألة الثقافية.
3) نقصد هنا تأسيس منظمة إفريقية مختصة في التربية والثقافة والعلوم تكون إطارا للتعاون في التنمية الثقافية في استقلال عن النزاعات السياسية بين البلدان الإفريقية وعن الحروب الدائرة بينها.
4) هناك حاجة اليوم إلى وجود جمعيات على الصعيد الإفريقي متخصصة في جوانب مختلفة من التفكير والإبداع للتمكن من البحث في التراث الإفريقي في كل ميدان من الميادين. ولكن هذا يكون في حاجة أيضا إلى منظمة أساسية تعمل على تنسيق العمل الثقافي المشترك بين البلدان الإفريقية.
5) نقصد هنا ماورد في التأملين الأولين من تأملات ديكارت الميتافيزيقية والتي يمكن الرجوع إليها لمعرفة المقصود عند ديكارت بالكوجيتو. وقد صدرت في مصر بترجمة عثمان أمين، وفي لبنان بترجمة كمال يوسف الحاج.