الروائي الجزائري ياسمينا خضرا لـ "المستقبل":
حاورته :كوليت مرشليان
استمر جزائرياً ومناضلاً من أجلها لكن لي خيار تحديد اللغة التي أكتب بها
زار الكاتب الجزائري ياسمينا خضرا بيروت للمرة الأولى وتزامنت إقامته في العاصمة اللبنانية مع أيام "صالون الكتاب الفرنكوفوني" الذي اختتم نشاطاته منذ فترة وجيزة. والمقابلات التي بدأ الصحافيون اجراءها مع معظم الروائيين والشعراء والمؤرخين في بهو "اوتيل بالم بيتش" وهم ضيوف المعرض، صارت موعداً سنوياً يحفل بالمفاجآت الجميلة والمشوقة حيث يترك هؤلاء انطباعاتهم الشخصية والخاصة جداً حيال المناخ الثقافي في البلاد ويتحدثون عن مؤلفاتهم الجديدة وقد يفصحون عن أسرارهم الصغيرة بخصوص موضوع رواية جديدة أو مشروع مستقبلي.
ياسمينا خضرا الذي التبس اسمه على معظم الصحافيين منذ منتصف الثمانينات في العالم العربي كما في باريس هو الاسم المستعار للكاتب محمد مولسهول المولود في الجزائر عام 1955 والذي قدم إلى الأدب بعد تجربة قاسية ومريرة في مواجهة الحروب والمعارك، إذ كانت مهنته الأولى أو حياته الأولى باللباس العسكري. فهو يكرر دائماً وفي معظم أحاديثه ولقاءاته الصحافية انه التحق بمدرسة عسكرية وكان فتياً تلبية لرغبة والده وسرعان ما تخرّج برتبة ضابط ملازم فانخرط في القوات العسكرية المسلحة حيث أمضى جزءاً كبيراً من حياته، غير انه بدأ الكتابة وهو "في اللباس العسكري" لذا راح يوقع باسم مستعار لأن كتاباته كانت مفخخة وصادمة ومن دون شك غير مقبولة من "رجل التزم المبادئ العسكرية الصارمة". وهو اعتزل الحياة العسكرية عام 2000 أي بعد 36 عاماً من الخدمة فيها. أما الكتب التي وقعها في تلك المرحلة فوصلت إلى نحو 14 كتاباً نذكر منها: "آمين" عام 1984، "حورية"، "بنت الجسر"، "من الناحية الأخرى للمدينة"، "القاهرة خلية الموت"، "معرض الاوباش"، "موريتوري"، "حزين الوهم"، "أبيض مزدوج"، "بماذا تحلم الذئاب؟" التي كانت آخر رواية تصدر لياسمينا قبل أن يقرر الإفصاح عن اسمه في عمل لاحق حمل عنوان "الكاتب" عام 2001، تبعه "دجّال الكلمات" بعد عام حاول فيه أن يبرر حياته ومسيرته الأدبية.
وقد حمل تصريحه حول حياته الشخصية المفاجآت للمثقفين والمعنيين في باريس، ولكن سرعان ما عرف شهرة عالمية بعد أن تُرجمت أعماله إلى عشرات اللغات وتباع في عدد كبير من دول العالم، خاصة تلك الأخيرة في السنوات القليلة الماضية: "سنونوات كابول" عام 2002، "حصة الموت" عام 2004، "صفارات انذار بغداد" عام 2006، و"فضل الليل على النهار" عام 2008. أما روايته "الاعتداء" فشكلت مفصلاً في حياته الأدبية، وحيث البعض اتهمها باللغة الأقرب إلى العنف، اعتبرها البعض الآخر ابداعية في توجهاتها وهي تتحدث عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في بُعد أدبي جعله "يهزّ أفكار الغربيين عن العالم العربي".
خضرا وقع "الاعتداء" إلى جانب "اولمب الخائبين" روايته الجديدة في "صالون الكتاب الفرنكوفوني" إلى جانب كل مجموعة كتبه لقرائه، وفي "اوتيل بالم بيتش" الذي احتشد بالكتّاب مطلع هذا الشهر التقيناه وأجرينا معه هذا الحديث:
[عندما اكتشفت الصحافة الفرنسية هويتك الأصلية وبعد تصريحك بأنك كنت عسكرياً في الجيش الجزائري شكّل الأمران صدمة تحوّلت فيما بعد إلى إيجابية معينة في اطار التشويق والشهرة: إلى أي حد ساهم الأمر سلباً أو إيجاباً برأيك في إطلاق أعمالك الأدبية؟
ـ لا أعتقد، بل حصل عكس ذلك، إذ لم يكن الأمر سهلاً على الاطلاق لأن الرفض جاء من قبل شريحة كبيرة من المثقفين وقد تم تأويل الموضوع بأساليب شتى، أما ما حصل معي فهو بكل بساطة انني كنت أحلم منذ صغري بأن أكون كاتباً وجاء حلم والدي معاكساً لما رغبت به وارادني ان اكون ضابطاً في الجيش ولمّا ابلغ العاشرة، بعد حين تم القرار بذلك، وبالفعل التحقت بعدها بقليل بمدرسة عسكرية ودخلت معترك الحياة السياسية المغايرة لما كنت أصبو إليه، فكان أن نفذت الأمرين معاً وعندها لم أجد ان العالمين على هذا القدر من التباعد أو التضارب فحصل انني أصبحت جندياً وكاتباً في آن.
الشخصية المزدوجة
[ولماذا لم يتم استيعاب شخصيتك الأدبية المزدوجة مع ان الفرنسيين يكنّون كل احترام وتقدير لكتّاب عسكريين أو على الأقل شاركوا في الحروب مثل الشاعر ابولينير أو الطيار العسكري سانت إكزوبري..؟
ـ هذا صحيح لكن الأمر كان مختلفاً معي، إذ انني كنت قد اخفيت شخصيتي الحقيقية ومن جهة ثانية أنا قدمت من ماضي الحرب الجزائرية والصراع مع الفرنسيين بعد استعمار طويل، فهذا لم يسهل الأمور على الاطلاق بل زادها تعميقاً. غير ان تعاطف القراء مع رواياتي جعل النقاد يعيدون النظر بها وليس سهلاً أن يستمر تهميشك في بلد وأنت قد أصبحت مقروءاً في ثلاثين عاصمة من حول العالم. في نهاية المطاف كان لا بد من الفصل ما بين المرحلة العسكرية التي عشتها كأي مهنة في العالم والأعمال الروائية التي أكتبها.
الفرنسيون يتعاطفون مع كتابهم العسكريين هذا صحيح، لا ننسى لاكلو الذي كتب "العلاقات الخطرة" أو انطوان دوسانت اكزوبري الذي ذكرت، فقد كان في الطيران الحربي الفرنسي، أما ابولينير، فهو مات حقاً خلال الحرب وكان مشاركاً كأي وطني في المعارك في الحرب العالمية الثانية لكنه لم يكن في الجيش، كان متطوعاً ليس أكثر، ولا أظن ان أي ناقد فرنسي يتعاطى مع أعمال اكزوبري أو كوديرلوس دولاكلو من وجهة نظر تطوعه العسكري بل عند هذا الحد قد يكتفي بإيجابيات الأمر كالتركيز على توسع افق الحلم عند اكزوبري لأنه طيار أو قصائد ابولينير الرائعة المصبوغة بالوطنية..
أنا أخذت وقتاً طويلاً لأعود وأتأقلم مع وجهة نظر الآخرين بي ثم بعد حين تغيرت نظرتهم لأن "روايتي" بشكل عام انطلقت وحدها ولم تنتظرهم، ثم لحقوا هم بها عندما أصبحت مترجمة ومقروءة في عشرات البلدان، وأقصد بكلمة "روايتي" أي معظم رواياتي وخاصة الأخيرة وما قبلها منذ الثلاثية في "سنونوات كابول" و"صفارات إنذار بغداد" وصولاً إلى "فضل الليل على النهار" وأخيراً "الاعتداء" التي أوقّعها اليوم في بيروت، هذا مع انني لست مرتبطاً بشبكات أو بمؤسسات داعمة أو مروّجة لأعمالي، وهذه النتيجة لم يقدمها لي أحد كهدية في فرنسا بل انا سعيت بنفسي إليها. وأحب ان اذكر لك انني ومنذ أكثر من عشرة أعوام، تتم تسميتي كواحد من بين لائحة "الكتاب الأوائل والمقروئين بقوة" في باريس وكل الذين يظهرون كل عام معي على اللائحة قد نالوا جائزة أو أكثر أما أنا فلا.
فرنسا والشهرة
[ لكن هذا لا يعني ان فرنسا لم تقدم لك الكثير، فكل الشهرة التي حصدتها والتقدم الذي أحرزته على صعيد انتشار رواياتك قد تم في فرنسا..
ـ صحيح، لست أحارَب ولكن أنا أتقدم وحدي ومن دون دعم، وأنا أفضّل ذلك لأنني شعرت ان الذي يجعلني أتقدم هو القارئ الفرنسي، وليست باريس بمعنى الذين يمسكون بخيوط اللعبة كلها.
[ لا يمكن التحدث إليك من دون التطرق إلى اسمك المستعار "ياسمينا" وهنا ليس السؤال فقط حول اصل الاسم ولماذا اعتماده، بل الاشارة أيضاً إلى أن العادة جرت عبر التاريخ ان تكتب المرأة باسم مستعار والأمر بدأ في أوروبا وبعدها في الدول العربية.
لماذا اسم "ياسمينا خضرا" بدلاً من محمد مولسهول؟ وهل يمكن ان تعود إلى التوقيع باسمك الأصلي، ألا تفتقده حين تريد أن توقع رواية جديدة؟
ـ في البداية، بدأت التوقيع باسم مستعار لأن كتاباتي لم تكن سهلة بمعنى انها مشاكسة وتتطرق إلى بعض الممنوعات وكنت ما زلت في الجيش، فاعتمدت اسم زوجتي مع تعديل بسيط. من ناحية ثانية، صحيح ان هذه العادة كانت متبعة من قبل النساء، لكن عند هذه النقطة بالذات، أظن انه من الجيد ان يعتمد رجل اسم امرأة وبذلك يشكل الأمر دعماً للنساء الكاتبات.
أما بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال، فأنا أظن بأني اعتدت ربط عالمي الروائي بهذا الاسم المعتمد منذ البداية ولا رغبة لديّ في تغييره على الاطلاق.
الحروب والسياسة
[ في رواياتك تتطرق كثيراً إلى السياسة والحروب والعنف والإرهاب وكل ما يطال العالم وبشكل خاص عالمنا العربي من مشاكل وحروب، لماذا تحوّلت إلى الرواية من مهنتك العسكرية وليس إلى السياسة بشكل مباشر؟ من ناحية ثانية، صرّحت أكثر من مرة ان الكتابة هي سلاح آخر وقادر على التغيير: إلى أي حد قد يغير الروائي أو المثقف بشكل عام واقعه أو واقع بلاده؟
ـ حين كتبت لم يكن الهدف هو التغيير على الاطلاق، كتبت لأن ثمة حاجة ملحة داخلي كانت مدفونة وتطلع من وقت إلى آخر وتؤنبني لإهمالي لها، ثم فجأة صارت هذه التنبيهات كثيفة إلى درجة انها طغت على كياني وشعرت بضرورة الكتابة وهي حلمي منذ الصغر الذي تحول حاجة. فيما بعد، حدثت الأمور الأخرى، أي ماذا سأكتب، وعن أي موضوع؟ وبشكل تلقائي أيضاً، كانت الشؤون السياسية في الجزائر وواقع البلاد من الهواجس التي تسكنني فكتبت عنها. وأيضاً، فيما بعد، حصل انني اكتشفت اثر الرواية في الواقع ولمست ان الكاتب يلعب دوراً من حوله إضافة إلى دوره الأدبي. أنا لم أخطط لأصل وكيف أصل وكل شيء حدث تلقائياً وعفوياً وخاصة تفاعل القراء مع أعمالي، وأظن ان العنصر الأساسي في كل ما أصفه ولم أتلفظه بعد هو الصدق: الصدق في كل ما نكتب والصدق في الأفكار والصدق في الكتابة بالتالي.
الجزائر
[ الجزائر حاضرة بقوة في أعمالك، كذلك كل العالم العربي، فلماذا تكتب بالفرنسية؟ هل كانت الفرنسية خياراً أم واقع حال بسبب استخدام الفرنسية في الجزائر بشكل واسع؟
ـ أنا أحببت هذه اللغة بكل بساطة، فقد تعلمتها وأحببتها ليس أكثر، فهذا الخيار لا علاقة له بانتماءاتي. فأنا أستمر جزائرياً ومحباً للجزائر ومناضلاً من أجلها ومع هذا لي الخيار بتحديد اللغة التي سأكتب بها، كان يمكن أن تكون الانكليزية أو غيرها.
فأنا يمكن ايضاً أن أكون جزائرياً وأتزوج من امرأة أجنبية وأبقى على كل قناعاتي وانتماءاتي، فأين الغرابة في ذلك؟ وثمة ما يتوافق مع هذه النظرية هي حين ننظر إلى كتبنا مترجمة إلى لغات عديدة، فهي تبقى على ما هي عليه في مضمونها وإن نقلنها إلى كل لغات العالم.
[ في كتابك ما قبل الأخير "فضل الليل على النهار" تحكي سيرة جزائري في مرحلة الانتداب الفرنسي، وقد كتب الكثير عن هذه المرحلة، ما الإضافة التي قدمتها في روايتك؟
ـ ليس من رسالة في الرواية، فأنا لا أحب ذلك على الاطلاق، إنما حاولت أن أكتب عن تلك المرحلة عبر وضع كل تفصيل مكانه لأرى على طريقتي كيف جرت الأمور، تاريخ الجزائر يسحرني وكلما بحثت فيه وجدت تفاصيل لم أكن أعرفها، بالطبع أنا تأثرت بكل من كتب عن تلك المرحلة وفي تلك المرحلة من جزائريين وفرنسيين نذكر كاتب ياسين، محمد ديب، كامو، جيد وغيرهم.. وأنا أردت أن أكتب رواية بناء على استنتاجات خاصة بي مدموجة بتأثيرات عميقة من أعمال هؤلاء الكتّاب.
[ ما تعليقك على ان هذه الرواية بالذات استحوذت على الاهتمام الأكبر في فرنسا؟
ـ بالفعل، هذا ما حصل، ولكن أحب أن أشير إلى أنني في روايتي لم أتهم ولم أتناول الموضوع من وجهة نظر واحدة، أنا حاولت أن أقول الحب بكل تمزقاته لكنه ينتهي إلى تسامح وتصالح.
قد نكون بحاجة سياسياً إلى فصول كثيرة لكي ننظر إلى هذه المسألة بشكل واضح وصريح ومباشر. واحتراماً إلى كل مَن يموت في الحروب، يجب علينا دائماً أن نضمد الجراح وألا نقلب أوجاعها إذا أردنا أن نفكر بالمستقبل بشكل إيجابي.
... وفلسطين
[ في "الاعتداء" تناولت موضوعاً عنيفاً وهو الحرب في فلسطين من خلال شخصية "انتحارية"، هل تظن ان الكتابة عن العنف قد تسعف المجتمعات في عملية تحصينها ضد العنف، أم انها قد تحرض عليه أكثر؟
ـ أظن ان العنف هو من أخطر ما يحصل في كافة المجتمعات اليوم، في "الاعتداء" بطلتي امرأة فلسطينية متزوجة من طبيب إسرائيلي كانت في البداية تعيش بسلام في محيطها إلى أن تقرر ذات يوم أن تفجّر نفسها في عملية انتحارية استهدفت مواطنين إسرائيليين، وكانت المفاجأة لزوجها حين عاين الجثث ان امرأته كانت من بينها. وهنا أعالج قضية الإرهاب والعنف من وجهة نظر فردية ونفسية وأحاول أن أترصّد مكونات العنف التي بدأت في مجتمعاتنا منذ منتصف القرن الماضي صعوداً حتى اليوم.
لقد صُنِّفت أعمالي على أنها تناولت في غالبيتها قضايا الحروب والعنف والإرهاب إلا أنني أحاول أن أترصد مكامن "الوحشية التي أصبحت من مكونات هذا العصر وفي كل مكان".
[ هل تخشى وقوع حروب جديدة في المنطقة؟ وهل تظن ان الحروب قد تؤدي إلى نتائج إيجابية وملموسة؟
ـ واقع الحياة اليومية الحالية لا يدل على ان جيل اليوم قد يتجاوب مع الحروب. أنا أنظر إلى أولادي وإلى أصدقائهم الشابات والشباب وأحاول أن أقرأ ما يصبون إليه في المستقبل. أجيال اليوم لم تعد أجيال حروب، نحن جيل الحرب ونحن صنعنا ما صنعناه من ويلات وأهوال. أظن أننا كنا أمثلة "رهيبة" لأبنائنا، وأنا أخجل من كل المتاهات التي دخلنا فيها في مجتمعاتنا حيث جعلنا الموت والعنف يسيطران على كل احتمال حب وسلام ولم نترك الأمل لنظرة إيجابية إلى الحياة.
أنا سعيد اليوم حين أنظر إلى الأجيال الصاعدة والشابة وأراهم يهتمون بأمور أخرى علمية وتكنولوجية وبيئية مصيرية حيث الإنسان إنسان مع كل انتماءاته وفي كل بقعة من الأرض.
الجيل الجديد يعرف الرحمة والتسامح والحب أكثر من جيلنا، أنا أقول لأولادي حين يموت آخر واحد من جيلنا، أطبقوا القبور وانسونا. لا نستحق أن تتذكرونا وتذكروا أفعالنا، نحن لم نفعل سوى الحرب والقتل والتمييز العنصري والديني والمناطقي، وهم ينظرون بثقة إلى المستقبل، إلى مستقبل الإنسان على الأرض بكل تجرّد.
[ أنت تقسو على نفسك وعلى جيلك قليلاً، ألا تظن، أم ان الحديث عن جيل قد يشمل كل شيء؟
ـ لم أكن قاسياً على الاطلاق. الوضع كان أسوأ من ذلك في القرن العشرين، وأنا أتعاطف اليوم بشدة مع جيل العلم والمعرفة والمحبة والسلام
المستقبل - الاثنين 15 تشرين الثاني 2010 - العدد 3832 - ثقافة و فنون - صفحة 20