http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  كبش الفداء حسب تأويل ابن عربي
 
 

كبش الفداء حسب تأويل ابن عربي

كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الإثنين، 15 نوفمبر، 2010

كبش الفداء حسب تأويل ابن عربي

 
 
مقتطف من كتاب "الإسلام والتحليل النفسيّ" لفتحي بن سلامة
يعود الفضل في تقديم أجمل تأويل لإشكال العلاقة بين الحلم والتّضحية في الإسلام إلى المتصوّف الأندلسيّ ابن عربيّ (القرن الثّاني عشر). فقد أدرج هذا الإشكال في إطار نظريّته عن "حضرة الخيال".
انطلق ابن عربيّ من جواب الابن : "يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ" ليُخضع مسألة التّضحية بأكملها إلى رهان تأويل الحلم، فهو يقول : "والولد عين أبيه. فما رأى [الوالد] يذبح سوى نفسه. "وفداه بذبح عظيم" فظهر بصورة كبش من ظهر بصورة إنسان. وظهر بصورة ولد، بل بحكم ولد من هو عين الوالد."(1) وهكذا، فإنّ موضوع الحرمان الذي يخضع إليه الأب من حيث ماهيّته، وعن طريق الابن، هو الطّفل. ولا شكّ أنّ هذا التّأويل الذي قدّمه ابن عربيّ يندرج في إطار تقليد عريق في التّصوّف يقوم على اعتبار "التّضحية الكبرى" تضحية بالنّفس. والنّفس هي la psyché، وهي الجزء الحيوانيّ الفاني من الرّوح، وهي التي تظهر في صورة الحمل الوديع المقدّم قربانا، وعلى هذا النّحو يسلم الغنوصيّ نفسه إلى الفناء في الإلهيّ.
إلاّ أنّ طرافة ابن عربيّ تكمن في النّظريّة التي قدّمها في "الفصّ" المتعلّق بإسحاق. فهي من أرقى وألطف النّظريّات المؤوّلة للحلم المتعلّق بما يعتمل في الأب من شوق إلى قتل الطّفل، وللمرور من الفعل الخياليّ إلى الواقع :
"اعلم أيّدنا الله وإيّاك أنّ إبراهيم الخليل عليه الصّلاة والسّلام قال لابنه (إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك)، والمنام حضرة الخيال فلم يعبّرها، وكان كبش ظهر في صورة ابن إبراهيم في المنام، فصدّق إبراهيم الرّؤيا)، أي لم يعبّرها لما تعوّد به من الأخذ عن عالم المثال، فلمّا رقّاه اللّه تعالى عن عالم المثال ليجعل قلبه محلّ الاستواء الرّحمانيّ، أخذ خياله المعنى من قلبه المجرّد، وتصرّفت القوّة المتصرّفة في تصويره، فصوّرت معنى الكبش بصورة إسحاق عليه السّلام لما ذكر من كونه الأصل، فلم يعبّرها وصدّقها في أنّ ذلك إسحاق، وكان ذلك عند اللّه الذّبح العظيم، فلم يعط إبراهيم الحضرة حقّها بالتّعبير، ففداه ربّه من وهم إبراهيم بالذّبح العظيم الذي هو تعبير رؤياه عند اللّه، وهو لا يشعر."(2)
لم أقم في هذه التّرجمة (3) بأدنى محاولة لجرّ ابن عربيّ إلى عصرنا. فكلّ كلمة وكلّ فكرة في هذا النّصّ تمثّل جزءا من المجموع النّظريّ الذي صاغه ابن عربيّ عن "حضرة الخيال" أو "الحضور الخياليّ". وليست حضرة الخيال هذه حضورا في الخيال، بل هي حضور الخيال باعتباره جوهر الغياب الذي هو شوق الآخر. فابن عربيّ يميّز في هذه النّظريّة بين قطبين خياليّين. أمّا القطب الأوّل فهو الخيال المرتبط بالظّرفيّة الخاصّة بالذّات : يقول في الفصّ نفسه : "بالوهم يخلق كلّ إنسان في قوّة خياله ما لا وجود له إلاّ فيها، وهذا الأمر العامّ…"
أمّا القطب الثّاني، فهو الخيال غير الظّرفيّ : يقول ابن عربيّ : "والعراف يخلق بالهمّة ما يكون له وجود من خارج في محلّ الهمّة، ولكن لا تزال الهمّة تحفظه (4)"
فابن عربيّ يميّز هنا بين "الخيال المتّصل" بالذّات و"الخيال المنفصل" عن الذّات. فالخيال المنفصل يشمل في تقديري ما سمّيناه بـ"الخيال الضّروريّ" الذي لا يخيّل المستحيل، بل يشير إليه باعتباره منسحبا، وباعتباره بقيّة تقال، تماما كما هو شأن "كان".
والنّتيجة التي يمكن استخلاصها ممّا تقدّم حسب ابن عربيّ هي أنّ إبراهيم لم يستطع أو لم يهتد إلى تأويل الهوام(5) في حلمه، وهو "التّضحية بابنه". فقد بقي "بلاشعور" بالموضوع الحقيقيّ للشّوق إلى التّضحية. فما كان يجب عليه التّضحية به هو "الطّفل الذي فيه" لا ابنه. وتبعا لذلك، فإنّ مشهد ذبح الكبش كان تداركا (من قبل اللّه) في الواقعيّ لما تمّ التّعبير عنه في الخيال ولم تتوفّر وسائل تحويله إلى صورة ملائمة. فما هي إذن هذه الصّورة الملائمة، ومن أين تتأتّى وسائل التّحويل؟
يشرح ابن عربيّ هذا الأمر قائلا : "وقال اللّه تعالى لإبراهيم حين ناداه أن (يا إبراهيم قد صدّقت الرّؤيا) وما قال له : قد صدّقت في الرّؤيا إنّه ابنك، لأنّه ما عبّرها. فلو صدَق في رؤيا ما رأى لما كان عند الله إلاّ إسحاق ولذبحه، فلم يصدق فيها بالتّعبير كما هو عند الله، بل أخذ بظاهر ما رأى والرّؤيا تطلب التّعبير، ولذلك قال العزيز : (إن كنتم للرّؤيا تعبّرون)، ومعنى التّعبير الجواز من صورة ما رآه إلى أمر آخر، فكانت البقر سنين في المحْل والخصب، فلو صدق في الرّؤيا لذبح ابنه، ولكان عند اللّه كذلك، وإنّما صدّق الرّؤيا في أنّ ذلك عين ولده، وما كان عند الله إلاّ الذّبح العظيم في صورة ولده، ففداه لما وقع في ذهن إبراهيم (ص) ما هو فداء في نفس الأمر عند الله."(6)
وهذا يعني أنّ ما يراه ابن عربيّ هو أنّ الاستبدال الأضحويّ للابن بالكبش كان سدّا للنّقص الذي اعترى تأويل إبراهيم، إذ صدّق بالمعنى الحرفيّ لصور الحلم. فالتّعويض الأضحويّ يكون بذلك تداركا في اللّحظة الأخيرة لخطإ في التّأويل كان يمكن أن يصبح جريمة قتل لطفل. فالتّضحية هنا هي بمثابة التّأويل. المستهدف هو التّضحية بالطّفل الذي كان في داخل الأب من خلال الابن، أو على وجه الدّقّة من خلال صورة التّضحية بالطّفل، وهي غير قتل الابن.
وإذا كانت التّضحية تحلّ محلّ التّأويل النّاقص معوّضة إيّاه، فذلك يعود ربّما إلى وجود تكافؤ بين التّأويل والتّضحية. وإذا صحّ هذا القول، فإنّ التّضحية في الحلم تصبح حلما بتحقيق الشّوق إلى التّأويل. أمّا التّضحية نفسها فتكون الشّوق إلى التّأويل وقد تجسّد في الواقع. والرّهان في هذا الشّوق إلى التّأويل هو كما سنرى قتل الطّفل القابع في داخل الأب. ولكنّ الشّوق إلى قتل الطّفل القابع في داخل الأب لا يعدو أن يكون شوق الابن إلى أن يكون أبا، أو لنقل، لم لا، إنّه مصير الأب إبراهيم وقد وصل إلى مطبّة.
هذه هي النّتيجة القصوى التي نجح في استخراجها من إشكال التّضحية في الإسلام هذا الرّجل الذي ينتمي إلى العصر الإسلاميّ الوسيط، وهي تتمثّل في أنّ التّضحية خطأ في تأويل حلم الأب أو شوق الأب. إنّنا نجد لدى ابن عربيّ، معاصر ابن رشد، أمرا تشهد به كلّ آثاره، وهو محاولة تخليص روحانيّة التّوحيد الإسلاميّ من الإله المكفهرّ الذي يطالب بنصيب من اللّحم ويكره الآباء على إراقة دم الأبناء لتخفيف تأثّمهم. إنّ ابن عربيّ يحيل إبراهيم إلى شوق الآخر وإلى الطّفل الخياليّ، أي إلى إله قابع في لاشعوره. ونفهم لذلك سبب منع الإسلاميّين كتبه وحرقهم إيّاها، معتبرين إيّاها نتاجا لمرتدّ عن الإسلام.
الهوامش:
1- فصوص الحكم، ص 78.
2- م، ن، ص 138.
3- (يقصد ترجمة نصّ ابن عربيّ إلى الفرنسيّة.)
4-[فصوص الحكم، ص 147]
5- "الوهم" في لغة ابن عربيّ. (المترجمة)
6- ابن عربيّ، فصوص الحكم، شرح الشّيخ عبد الرّزّاق القاشانيّ، القاهرة، المكتبة الأزهريّة للتّراث، 1997، ص ص 139-140.
الإسلام والتحليل النفسيّ
فتحي بن سلامة
ترجمة وتقديم رجاء بن سلامة
منشورات رابطة العقلانيين العرب، دار الساقي،بيروت، 2008.
عن الأوان

 

تزفيتان تودوروف يسترجع ''روح الأنوار''‏

كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الإثنين، 15 نوفمبر، 2010

تزفيتان تودوروف يسترجع ''روح الأنوار''‏


الأنوار الأوروبية هبّت من الشرق
في كتابه ''روح الأنوار''، يقدّم تزفيتان تودوروف، الكاتب المؤرّخ والمفكّر الفرنسي من أصول بلغاريّة، مراجعة نقديّة وإبستمولوجيّة لذلك العصر في ضوْء متغيّرات السياق الحضاري، والواقع الغربي الراهن تحديداً، مستدلا على الممارسات السياسية الغربية، من الأنظمة الشمولية إلى الإيديولوجيا الاستعمارية، الّتي أدارت ظهرها لفكر الأنوار وخذلته بوصفه ''مشروعاً''، إنّه ''بيان نقدي'' ينتقد فيه تودوروف التوظيف الغربي المُسيء إلى روح العقلانيّة والاختلاف والتعدّد الّتي أنشأت روح التنوير.
من هنا تأتي أهميّة الكتاب وضرورته وهو يفكّر من جديد في ''المشروع الأنواري''، ويلفت إلى نزعة الإنسيّة فيه، ويتأمّل تودوروف في الكتاب تيار الحركة الإنسانية في عصر الأنوار باعتباره تياراً فكريّاً، وحساسيّةً ثقافيّة جديدة، وأيْضاً مُنعطفاً أسهم، إلى حدّ كبير، في تشكيل الهويّة الأوروبيّة من خلال نصوص الفلسفة والسياسة والعلوم والفنون والآداب، الّتي قطعتْ مع المنْظور الكلاسيكي للأشياء والعالم، وترافقت مع خطابٍ يقول بـ ''موت الإله'' وانْهيار اليوطوبيات، يتأمّل ذلك بقدر ما يكون مسْعاه الفهم الأعمق لهذه النّقْلة الجذريّة بدون إغفال مشكلات العصر الّذي نحياه.
إنّ الأفكار الكبرى للأنْوار الأوروبيّة، فيما يرى الكاتب، لا تعود إلى القرن الثّامن عشر للميلاد، بل إنّ كثيراً من آثارها رأت النّور في أواخر العصر الوسيط الأوّل، وعصر النّهضة والعصر الكلاسيكي، غير أنّ هذه الأفكار لم تخرج من مظانّ الكتب إلى عالم الواقع إلا بفضْل جهود المفكّرين، الّتي سرعان ما تفرّعت عنْها مدارس فكريّة ما تزال تتصارعُ حتّى اليوم، لهذا، يؤكّد ''أنّ عصر الأنْوار كان عصر مُناظرةٍ أكْثر ممّا كان عصْر إجْماع''، ويعترف بأنّه ليس هناك مانع من الحديث عن مشروع الأنوار الّذي قام على ثلاثة أفْكار أساسيّة لم تنفكّ أنْ تطوّرت، وهي: الاِسْتقلالية، وغائيّة الأفعال الإنْسانية ثمّ الكونيّة الّتي تعني الاِنْتماء إلى الجنْس البشري.
وهو يقيّم عصر الأنوار بعد مائتين وخمسين عاماً، يرى تودوروف أنّ فكر الأنوار اسْتطاع أنْ يحقّق نصْراً، لكنّ الأهداف المأمولة منه لم تتحقّق كاملةً وإلاّ كيْف نفسّر أنّ النّظام القائم، بوحْي من روح الأنوار، لا يزال محطّ انْتِقاد بعد الّذي شهده القرن العشْرون من مجازر وحربيْن طاحنتيْن وقيام أنْظمةٍ شموليّة في أوروبّا وخارِجها، بالإضافة إلى ما أدّتْ إليه الاِخْتراعات التقنيّة من دمار وتقتيل، يقول: ''إنّ هذا القرن بدا كأنّه يُسفِّه نهائياً جميع الآمال المعبّر عنْها في الماضي ممّا دفع الكثيرين إلى الكفّ عن الانتساب إلى الأنوار، وصارت الأفكار الّتي تتضمّنها كلمات من قبيل (إنسية)، (تحرّر)، (تقدّم)، (عمل) و(إرادة حرّة) فاقدة لكلّ اعتبار''.
وعليْه، يعتبر أنّ كلّ قراءةٍ متفائلةٍ للتّاريخ تفاؤلاً شديداً هي من قبيل الوهم، كذلك الاعتقاد في التقدّم الخطّي واللانهائي لمسيرة الجنْس البشريّ، الّذي أغوى بعض مفكّري الأنوار، من هُنا، يرى ضرورة أنْ يُعاد تأسيس الأنوار إعادةً منْ شأنها أنْ تحافظ على إرث الماضي، ومراجعته ''مراجعة نقديّة'' من غيْر أن يعني ذلك خيانة الأنوار، فمنذ ظُهوره وفكر الأنوار يُواجَه بالاِنْتقاد والرّفض، بدايةً من اتّهام المحافظين له بالشّطط والتّقصير إلى الاِنْتقادات الّتي وجّهت إليه بأنّه وفّر المستندات الإيديولوجية للاستعمار الأوروبي خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.
ولقد كانت السياسة الاستعمارية تتخفّى وراء المثل العليا للأنوار، لكنّها في الواقع كانت تمارَس باسْم المصلحة القومية لهذا البلد أو ذاك، مثلما عِيب على روح الأنوار أنّها نفْسَها أنتجت الأنظمة الشموليّة الّتي جلبت مواكب من الآلام والعذابات والإبادات الجماعية، وأذاقتْها لملايين من البشر، غير أنّه يجب التّمييز بين المواقف الرافضة تماماً للأنوار، وتلك الّتي تمثّل تحويلاتٍ لوجهتها. ويعود تودوروف إلى بعضٍ المناظرات لإثْبات الأمر قبل أن يستنتج أنّ أفكار الأنوار الّتي مثّلها روسو وديدرو وغيرهما أعطت التّجربة والعقل دوْراً أهمّ بالقياس إلى التّقاليد، ويذهب إلى أنّ كلّ المجتمعات الغربيّة المعاصرة تطبّق صيغاً متنوّعة من اللّائكيّة الّتي أصبحت بدورها محلّ تساؤل منذ تسعينيّات القرن الماضي، فإلى جانب انْتشار صيغةٍ أصوليّة عن الدّين الإسلامي بعد أن استتبعت، في نظره، أعمالاً إرهابيّة وهيمنةً على النّساء، هُناك شيوع أشكالٍ من رفض هذه اللائكية، وتحويل مقاصدها بالتّبسيط والتّعميم المُخلّ.
كما أنّ سيْر الحياة السياسية يتهدّدها خطران هما: الأخلاقويّة والعلمويّة، تهيْمن الأولى عندما يكون الخيْر فوق الحقيقة، وعندما يتمّ التّلاعب بالحقائق، فيما تهيْمن الأخرى عندما تبدو القيم وكأنّها تنْبع من المعرفة، وعندما تتنكّر الاختيارات السياسية في ثوب استنتاجاتٍ علميّة، يقول تزفيتان تودوروف: ''فالعلمويّة والأخلاقويّة كلْتاهُما غريبتان عن الرّوح الحقيقية للأنوار، وثمّة خطرٌ ثالِثٌ قائِم أيْضاً، يتمثّل في نزْع النّجاعة عن مفهوم الحقيقة''.. لقد حوّل هذان التيّاران مكتسبات الأنوار عن وجْهتها الحقيقيّة من ضمن تيّارات أخرى من مسمّياتِها الفردانية والدعوة إلى الشّطب الراديكالي للقداسة والقول بفقدان المعنى والنسبيّة المعمّمة.
كمِثالٍ على امْتلاك السُّلطة، يستشهد الكاتب بالولايات المتّحدة الّتي تدلّ المَشاهد في حياتِها العامّة على اسْتِخفافٍ جديدٍ بالحقيقة الّتي ما انفكّت تضيقُ بها، وما انْفكّت تقضّ مضجعها.. مُشيراً إلى طريقة تبريرها السّخيفة للحرْب على العراق بحجّة امْتِلاكه أسلحة الدّمار الشّامل، وإلى معاملتِها الظّالمة لأسرى معتقل غوانتانامو حيْث تُعطى الأولويّة للانْتصار السياسي أو العسكري على قوْل الحقيقة الّتي يتمّ التّلاعب بها والكذب عليها.
إنّ ما يلفت الانْتباه عند قراءة المؤلَّفات الأوروبية في ذلك العصر رغم تنوّعها من حيْثُ أجْناسها الأدبيّة، ومن حيْث مواطنها أو من حيْث قناعات أصحابها، هو كوْنُها تقدّم لنا عالماً طبيعيّاً نرى فيه الكائنات البشريّة في صراع مع قوى معادية هي قوى بشريّة خالصة، ونراها تسعى للوصول إلى حالة من الانْشراح والسّعادة عبر وجودها في الحياة على هذه الأرض، ولكن لا وسيلة تقدر على ضمان بقائها. ولم تعد السّعادة هدفاً لوجود الفرد فحسب، بل كذلك للحكومة والدّولة الّتي تحت مسؤوليّتها سعادة الأفراد بإزالة العوائق الّتي تحول دون ذلك، إلى أن انتصرت اسْتقلاليّة الفرد فصارت الدّولة موفّر خدمات أكثر منها محطّ آمال.
لقد شكّل ذلك انْقِلاباً بحيْث نزل الفعل من علْياء السّماء إلى الأرض، وصار يتجسّد في البشريّة لا في الإله بعْد التخلّص من الغائيّة الربّانية بمحض الحركة والإرادة، وهو ما جعل العصر الّذي نحياه، يقول الكاتب، ينْسى الغايات ويقدّس الوسائل، وبدا النّاس في هذه المجتمعات كأنّ شغلهم الشّاغل هو النجاح على الصّعيد المادّي والحصول على المال الّذي به تُشْترى سائر الملذّات.
ولئن كانت حريّة الأفعال محدودة بغائيّتها الإنْسانيّة وجوباً فإنّها تستوجب كذلك الوعي بأنّ جميع النّاس ينتمون إلى النّوع نفْسه، ولهم الحقّ بالتّالي في الكرامة بالدّرجة نفسها، لأنّ ما يجمع بيْن بني الإنْسان هو أكثر ثباتاً ممّا يفرّق بيْنهم، ويقول مونتسكيو: ''أنا إنْسان بالضّرورة، ولسْتُ فرنسيّاً إلّا بحُكْم الصّدفة''، وإن كنّا نجد أنّ المفكّرين الّذين تشرَّبوا روح الأنْوار كانوا أكثر اعتزازاً بانْتمائهم إلى بلدهم.
وفي الوقت الّذي نجد فيه إجْماعاً على عالميّة حقوق الإنسان لا تزال هناك ممارسات حاطّة بالكرامة الإنسانية مثل عقوبة الإعدام والتّعذيب، وهو ما يشكّل رفْضاً للكونيّة الّتي تنتسب إليْها الأنوار، إنّ الكونيّة لا تبرّر اسْتعمال القوّة خارج كلّ إطارٍ قانونيّ، ولكن احْتِرام كلّ إنْسان لا يعني بالمقابل أنّ القيم المشتركة لا حقّ لها في الوجود، أمّا المُساواة في الحقوق فهي مسألة غيْر قابِلة للتّفاوض أصْلاً، مثلما أنّ الاِعْتراف بالتعدّدية ضمن النّوع البشري لا يدفعنا إلى التخلّي عن بشريّتنا المشتركة.
يعترف تزفيتان تودوروف أنّ روح الأنوار نجد مكوّناتها حاضِرةً على مدى عصورٍ متنوّعةٍ في كلّ حضارات العالم الكبْرى (الهند، الإسلام، الصّين)، ففي حضارة الإسلام نجد آثار هذه الرّوح لدى ''المفكّرين الأحرار'' مثل الطّبيب الرازي الّذي دافع عن المعرفة الّتي يسْندها العقل والتّجربة، وغيره ممّن أحرزوا تقدُّماً في مجالاتٍ علميّة من قبيل الرياضيات والفلك والبصريّات والطبّ، إلى جانب المتصوّفة، لكن سرعان ما تمّ قمعهم بشدّة منذ القرن العاشر للميلاد، غيْر أنّ هذه الرّوح لم تتمكّن من فرض نفسها إلاّ بداية من لحظة معيّنة هي لحظة القرن الثّامن عشر للميلاد في أوروبا الغربيّة، وتتمثّل خاصية الأنوار الأوروبية في كوْنها هيّأت الاِنْبثاق المتزامن للمفهوميْن التاليين: فرْدٌ وديمقراطيّة داخل أوربا الواحدة والمتعدّدة في الوقت نفسه.
إنّ درس الأنوار يتمثّل في القول إنّ التعدّدية يمكن أن تُفْضي إلى وحدة جديدة من خلال الحثّ على التّسامح، وتنمية الفكر النّقدي الحرّ والتجرّد عن الذّات بما يسمح بالانْدماج مع الآخر، وعليْه، فإنّ هويّة أوروبا وتبعاً لـ ''إرادتها العامّة'' يمكن أن تقْوى عبْر القدرة على دمْج الاخْتلافات دون القضاء عليها؛ وإنّ ذلك هو ما يميّز أوروبّا عن غيْرها من المجموعات السياسيّة العالمية الكبرى حيْث الأفراد على أقصى درجة من التنوّع، ولكنّهم مُجْبرون على الانْتماء إلى أمّة واحدة، فأوروبّا لا تعترف بحقوق الأفراد فحسب، بل كذلك بحقوق الجماعات الّتي تتمتّع كلّ واحدة منها بتاريخ وثقافة وسياسة مشتركة، أي الدّول الأعضاء في الاتّحاد الأوربي.
إنّ الأنوار الأوروبيّة ليست إرثاً من الماضي، بلْ أيْضاً راهنيّة يعنيها المستقبل بقدرما تُعاني من أجله، من هُنا، نفهم لماذا يشدّد الكاتب على روح الأنْوار أكثر من فكرها، الرّوح الّتي اسْتوحاها وتعرّف عليْها بشكل أفضل من الكتّاب والعلماء والرسّامين والموسيقيّين والشّعراء، وهي لا تمضي، لكنْ تتجدّد فيما هي تُحيل، في آخر التّحليل، على موقفٍ من العالم لا على ''مذهبٍ فكري'' حتّى تبقى حيّةً بالكدّ والعلم، يقول: ''فالأنوار مازالت معاصرةً لنا ومردّ ذلك إلى عاملٍ مزْدوج، فنحن جميعاً أبناء الأنوار حتّى عندما نُهاجمها''.

 

الإسلاموفوبيا..

كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الإثنين، 15 نوفمبر، 2010

الإسلاموفوبيا.. المخاوف من الإسلام على الطريقة الفرنسية

بيروت -رويترز– رأى مترجما كتاب فرنسي مهم في مجاله الى اللغة العربية ان الاسلام يعاني كثيرا من صور نمطية تكونت خاصة لدى الغربيين وحتى لدى بعض المسلمين.
وقدم المترجمان في «تقديم» للكتاب وجهات نظر وشروحا مهمة تبرر البدء بعرض وجهات نظرهما تمهيدا للانتقال الى بعض مضمون الكتاب.
وقالا «يعاني الاسلام كثيرا من صور نمطية سيئة لدى الآخرين بل ولدى بعض ابنائه. ومع تعدد الاحداث المأسوية التي يكون المسلمون طرفا فيها يزداد سوء الفهم والتفسير».
اضافا ان احداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 اي التفجيرات التي وقعت في الولايات المتحدة ليست «المنطلق الاول فالاسلام يمثل -ذهنيا- خطرا على الكثيرين منذ قرون. ولا يمكن تجاهل آراء كثير من المستشرقين والفلاسفة الغربيين الذين لم ينظروا الى الاسلام نظرة انصاف الا ان ذلك لا ينفي ان الكثيرين من ابناء الاسلام قد ساهموا بقدر كبير في هذا التصور الخاطىء.
فمشاركتهم حاليا للاسف الشديد ضعيفة جدا في الحراك العلمي والاجتماعي والفكري على مستوى العالم مما يجعل المخاوف من الاسلام مسيطرة في كثير من المجتمعات الغربية التي لم تستقبل الاسلام بطريقة صحيحة وواضحة سواء أكان ذلك بخطأ منها ام بخطأ من ابناء المسلمين.
اما كتاب الباحث الفرنسي فينسان جيسير فقد حمل عنوانا بالعربية هو «الاسلاموفوبيا.. المخاوف الجديدة من الاسلام في فرنسا». وقام بترجمة الكتاب الى العربية الدكتور محمد صالح ناجي الغامدي والدكتور قسم السيد آدم بله. ومن المؤسف ان على القارئ ان يكتفي بهذا القدر من المعلومات عن المترجمين لان دار النشر التي قامت بنشر هذا العمل المهم لم تعرفنا بهما كما انها لم تعرفنا مباشرة بالكاتب الفرنسي نفسه.
ورد الكتاب في 192 صفحة متوسطة القطع وصدر عن «كتاب العربية» في مدينة الرياض السعودية.
وقال المترجمان ان الكتاب الذي يقدمانه الى القارىء العربي «يحاول ان يقدم تحليلا دقيقا لما يسمى بالمخاوف الجديدة من الاسلام (La Nouvelle Islamophobie ). ويقوم هذا التحليل على متابعة وقراءات عديدة لخطاب كثير من المثقفين البارزين اعلاميا على الساحة الفرنسية من اطياف ثقافية وفكرية عرقية مختلفة الذين يؤدون دورا كبيرا في توجيه الرأي العام».
ولخصا محتويات فصول الكتاب الاربعة على الصورة التالية: «المخاوف الاعلامية من الاسلام: الصحفيون والمثقفون المعنيون» و«براء الخوف الجدد» و«المعاداة الجديدة للسامية.. اهي من فعل المسلمين؟» و«مسلمون لديهم مخاوف من الاسلام».
وقالا ان الحياد في الترجمة دفعهما الى «ان نقدم النص الاصلي على وضعه وتسمية الاشياء باسمائها على الرغم مما في بعض هذه الاراء او المسميات من تعبيرات صادمة غير مقبولة ولكن هذا هو واقعها وفق منظورهم وأي تخفيف للعبارة او تعديل للمسميات فضلا عن خيانة امانة الترجمة تؤدي الى عدم نقل صورة الاسلام من خلال رؤيتهم لها بصورة دقيقة والمهم ان نلقي الضوء على مخاوفهم وافكارهم حتى نعرف كيف ينظر الينا الاخرون وكيف يفكرون».
ويبدأ الكتاب بعنوان هو «المخاوف من الاسلام على الطريقة الفرنسية» فيحمل استشهادا بتقرير صدر عام 2001 للجنة الاستشارية الوطنية العليا لحقوق الانسان التابعة لرئيس الحكومة جاء فيه ان الاحداث التي كانت جارية يومها «تؤثر ايضا على طبيعة الاهداف المختارة.
واذا كان المغاربة وابناء الضواحي المنحدرون من اصول عربية مهاجرة هم المستهدفون حتى الآن اكثر من غيرهم الا ان اعمال العنف هذه توسعت لتشمل الجاليات العربية الاسلامية.
وجاء ايضا انه «اذا كانت فرنسا لا تتمايز بصورة خاصة عن باقي الدول الاوروبية في حدة هذه «الموجة الجديدة» من المخاوف من الاسلام الا ان الجدال المتعلق بوضع الاسلام في المجتمع والظهور الواضح للمسلمين في الفضاء العام يكتسيان في ما يبدو حلة عاطفية اكثر وضوحا مما نجده عند جيرانها...
»وبصورة عامة اذا كانت الهجمات ضد الاشخاص والممتلكات الاسلامية في البلدان الاوروبية الاخرى تعود في اغلبها لاسباب تقليدية كالعنصرية ضد المهاجرين ورفض الاجانب فإن المخاوف من الاسلام «على الطريقة الفرنسية» تختلف.
ففي الوقت «الذي اوشك فيه الاسلام ان يصبح حقيقة وطنية فرنسية - فرنسية نجد تشكل رفض واضح للدين كما لو ان العنصرية بوصفها شيئا بدهيا اصبحت تبحث عن «غنيمة» جديدة لعدائها...».
وتحت عنوان «الانتقال الى الفعل...» ورد انه لو كان النقاش حول مكان الاسلام والمسلمين في «الجمهورية لما فكرنا -ربما- في تسطير هذا الكتاب فمنذ عدة سنوات نستطيع ملاحظة اشكال من «الانتقال الى الفعل» لا يستهدف فقط رموز المهاجرين (بيوت المساعدة... منظمات مساعدة الاجانب... وغيرها) وانما الدلالات الظاهرة لعملية استقرار الواقع الاسلامي الفرنسي ايضا: صالات الصلاة والمساجد ومحلات بيع السلع الحلال».

وفي مجال الحديث عن «المخاوف من الاسلام في الاوساط الاعلامية: الصحفيون والمثقفون المعنيون» والبحث عن مدى مسؤولية الاعلام في نشر هذه المخاوف جرى الاستشهاد بقول صدر سنة 1999 لفلورنس اوبيناس وميجول بن صايغ وهو «تتحدث الصحافة عما يتكلم عنه العامة والعامة تتكلم عما تتحدث عنه الصحافة».
وتناول الكتاب مسائل عديدة منها موقف لقسم من المسلمين تميز «بالاعتدال». وخلص في مجال اخير الى القول «واليوم لم يعد الخطاب الذي يقيم معارضة مستمرة بين «الاسلام المعتدل» و»الاسلام المتشدد» فاعلا. انه يدور في فراغ لانه لم يعد يتيح فهم التطور المثير للقلق للشبكات الارهابية على الساحة العالمية. فظاهرة العنف هذه يجب ان تمثل تحديا حقيقيا للمعرفة التي يجب ان تحثنا على تجاوز الاحكام المسبقة والتصورات النمطية عن الاسلام والمسلمين وتأخذنا بعيدا عن التسطيح البسيط».

"مدرس ظفار" رواية تراجع تجربة الثوار بسخرية

كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الإثنين، 15 نوفمبر، 2010

"مدرس ظفار" رواية تراجع تجربة الثوار بسخرية

المنامة: راشد الغائب

يخوض الكاتب البحريني خالد البسام تجربة مثيرة للاهتمام في روايته الثانية "مدرس ظفار" بالتطرق بأسلوب ساخر ونقدي لتجربة الثوار العرب عموما، والخليجيين تحديدا، في منطقة ظفار العمانية التي شهدت احتضان اليساريين الخليجيين في سبعينات القرن الماضي.
يقول البسام لـ "الوطن" إن روايته الثانية بعد "لا يوجد مصور في عنيزة" محاولة لتشجيع زعامات سياسية لكتابة سيرهم الشخصية أو تجاربهم التاريخية بعيون نقدية وليس تقديسية.
ويرى البسام بعد شهرين من صدور روايته "مدرس ظفار" التي وقعها بمهرجان "الأيام" الثقافي في مملكة البحرين، إن بطل الرواية، البحريني فهد، الذي يدرس في جامعة مصرية، وقطع دراسته، للمشاركة في تدريس الثوار في منطقة الغيظة، الواقعة على الحدود اليمنية العمانية، تعبِّر عن تجربة حقيقية لمجموعة أشخاص شاركوا في التجربة الظفارية، وكتم هؤلاء أسرار تجربتهم عن الكتابة والنشر، برغم مضي عقود طويلة على ذلك.
ويشير البسام إلى أنه لم يتلقَ حتى الآن عتبا من اليساريين الذين شهدوا التجربة الظفارية، وأن عمله يسعى لتعريف شريحة القراء الجدد، وبخاصة جيل الشباب، بتجارب سابقة بأسلوب نقدي مشوق وممتع.
غلاف الرواية، يحمل صورة لمجموعة من الثوار مرتدين الإزار العماني اليمني وحاملين بنادقهم، ويعلق البسام يقوله إنه اختار هذه الصورة المعبرة لثوار ظفار، وتحصَّل عليها من خلال شبكة الإنترنت، ولا يعرف أيا من الثوار الظاهرين في الصورة.

وتحكي رواية "مدرس ظفار" الصادرة عن دار الأمل للنشر، قصة شاب بحريني اسمه "فهد" يدرس في جامعة بالقاهرة، وملتحق بتنظيم سياسي سري اسمه الجبهة الثورية لتحرير عمان والخليج العربي، وهو من الشخصيات الحالمة بالثورة الظفارية، ويحفظ أسماء قادتها ومناطقها، وذلك في أجواء سبعينات القرن الماضي التي شهدت حراكا سياسيا في الوطن العربي بسبب تأثر قوى اليسار العربي بحركات التحرر العالمية.
وتنعطف الرواية باستدعاء البحريني فهد للقيام بمهمة حزبية، وهي التدريس في مدارس الثورة في ظفار، ويصطدم فهد بصخرة مبادئ الثورة وما يجري من تطبيق على أرض الواقع من قبل الثوار، إذ لا مساواة بين الجنسين في مناطق الثورة، وتشتد الخلافات مع العقليات الثورية الكلاسيكية التي لا تؤمن بالجيل الشاب، وتسمو النزعات القبلية على مبادئ الثورة عندما اختلف فهد مع أحد طلبته بمدرسة الثورة، وطرد فهد الطالب من الفصل الدراسي، مما دعا الطالب للاستنجاد بقبيلته، التي هدَّدت فهد بالقتل وحاولت اغتياله!.
يذكر أن للكاتب خالد البسام أكثر من عشرين كتابا في التاريخ المعاصر.
إذ تنطلق كتاباته من عبق التاريخ الذي أخذ القارئ العربي في رحلة طويلة إلى ملامحه القديمة، بدءا بكتابه الأول "تلك الأيام" عام 1986 الذي تلاه كتب أخرى كـ"رجال في جزيرة اللؤلؤ" 1991 و"خليج الحكايات" 1993 و"مرفأ الذكريات" 1995 و"يا زمان الخليج" 2002 و"نسوان زمان" 2003 وغيرها. وتحول إلى الرواية ليصدر روايته الأولى "لا يوجد مصور في عنيزة" والتي تدور أحداثها في السعودية وعاد من خلالها لجذوره الأولى.

قراءة في كتاب 'الخلافات السياسية بين الصحابة'

كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الإثنين، 15 نوفمبر، 2010

قراءة في كتاب 'الخلافات السياسية بين الصحابة'

د. المهدي الوزاني*
كتاب "الخلافات السياسية بين الصحابة" للكاتب اللاّمع محمد بن المختار الشنقيطي هو إسهام قيّم في إثراء المكتبة العربية في مجال ما اصبح يُعرف بالفقه السياسي. هذا العمل يُؤسس لمشروع نظرية الحكم في الإسلام الذي يَعِدُ الكاتب بأن يكون موضوع كتاب آخر يعكف على كتابته. كثير قبله تطرّقوا الى موضوع نظرية الحكم في الاسلام ولكن مشاريعهم كانت تصطدم بجهلهم –او تجاهلهم – لممارسات الصحابة في هذا المجال فكانوا يؤسسون على بعض الآيات التي ليس فيها أحكام –بل مجرد وصف لواقع الحال- كالآية 38 من سورة الشورى: "والذين استجابوا لربهم واقاموا الصلاة وامرهم شورى بينهم" وهو وصف لحال الأنصار الذين استجابوا لدعوه الله عندما بايعوا رسوله. وكان حال الانصار انهم لايقطعون أمرا الا بعد مشورة في عهد الجاهلية ومن بعده. وكان اصحاب هذه المشاريع يستقرأون مثل هذه الايات وتولية الرسول لبعض الولاة فتخرج مشاريعهم عرجاء يغلب عليها الاجتهاد الشخصي اكتر من محاكاتها لسنة الرسول(ص). الدكتورالشنقيطي أدرك ان مَكْمَنَ معرفة نظرية الحكم في الاسلام هي في الممارسات والصراعات التي تلت وفاة الرسول (ص)، فلم يكثرت بمن ينصح بعدم الخوض في تلك الأحداث وطيّ صفحاتها الى الأبد دون الإعتبار منها. كذلك لم ينحو منحى من أراد ان يوفق بين الظالم والمظلوم والقاتل والمقتول باختراع تبريرات وشبهات واهية لاتقنع إلاّ من عمى التعصب بصيرته. فبجرأة لاتجدها إلا عند العلمانيين –وهو ليس منهم- او الشيعة –وهو كذلك ليس منهم- دافع عن المبادئ الاسلامية وجعلها – وهو محق في ذلك- أسمى من الرموز. أحب سقراط ولكن احب الحقيقة أكثر. فعندما يتعارض تصرف صحابي ما مع المبدأ كان يسمي الاسماء باسماءها جُلّ الوقت، ولا يتوانى عن توبيخ ذلك الصحابي إن كان دون الشيخين. وقد وُفّق كثيرا في انصاف من لم ينصفوا.
تطرق الكاتب للفترة الممتدة من يوم السقيفة، حين كان الرسول (ص) على حجرة المغتسل واجتمع قسم من الصحابة وبايعوا ابو بكر بطريقة ارتجالية وبغياب كبار الصحابة: كأبو ذر وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي وأهل البيت كعلي بن ابي طالب والعباس، من ذلك اليوم الى يوم احراق الكعبة بمجانيق جيش يزيد ابن معاوية.
يعلل الكاتب لفتح الباب لدراسة تلك الفترة التي كانت مغيّبة من ذاكرة الأمة إلى ما يلي:
1. لا يمكن لأمة أن تتقدم الى الأمام ان لم تكن واعية بتارخها، اي ذاكرتها الجماعية.
2. ان الاستفادة من الخطأ لا يقل نفعا من الاستفاذة من الصواب، بل قد يفوقه احيانا.
3. ان التبرير لأخطاء الماضي يأتي غالبا على حساب مبادئ الاسلام نفسه. بل قد نُشرعن لأخطاء الماضي فتصبح سنّة تتبع. يقول الكاتب: "ما نحتاجه اليوم هو الدفاع عن المبادئ اكثر، إذا أريد لهذه الأمة أن تستعيد شيئا من كرامتها، وتعيش طبقا لرسالتها الخالدة".
4. ومبدأ القول بعلم وعدل يحتم ان ننقح ما نكتبه ونتداوله حول هذه الحقبة، فلا نساوي بين الظالم والمظلوم أو ننكر وقوع تلك الأحداث وهو منطق الجهلة.
5. عدم التساهل مع الأحاديث التي تُأَيّد رأينا وإن كانت ضعيفة، ومهاجمة الأحاديث المتواترة لمجرد أنها لا تدعم وجهة نظرنا.
وقد وضع الكاتب منهجا علميا صارما وحديثا –ولا ندري لماذا نسب الكاتب هذا المنهج لأبن تيمية وهو أبعد الناس عنه كما سنوضّح.
باستتناء ثلاث قواعد مقيّدة للباحث دون سبب علمي، فان الإثنا وعشرون قاعدة التي تضمّنها البحث هي أحدث ما توصلت اليه الأبحاث الأكادمية في عصرنا هذا. ونحن نأيّده على هذه القواعد. وقد ساعدت هذه القواعد الكاتب على الوصول الى نتائج تتّسم بالدّقة والإنصاف. ولو ان الكاتب التزمها في كل الأوقات لوُفّق اكثر من ذلك. ولكنه احيانا عندما يتعلق الأمر بصحابي كبير نراه يرتبك ويصبح همّه الأكبر محاولة عدم المساس به، فينسى منهجه وينقلب لمنهج التبرير والتكلّف الذي هو نفسه نبّه من خطورته وفساده.
عموما هذا الكتاب رائد في مجال دراسة الخلافات السياسية بين الصحابة، وان لم يحارب من دعاة الجماد والتسولف، قد يأسس لكتابات أكثر جرأة وجودة علمية. ومن شأن هذا الكتاب ان يُقرّب وجهات النظر بين السنّة والشيعة اذ لم يعد الخلاف حول ما وقع في السقيفة، وحرب الجمل وصفين وكربلاء والحرّة، بل أصبح الخلاف في التعامل مع هذه الاحداث؛ فانحاز الشيعة الى المظلوم وضد الظالم ايا كان وان كان صحابيا، ووقف اهل السنة مع كل الصحابة كلهم وتجاوزوا على اخطائهم لفضل بعضهم على الاسلام فبل السقيفة.
طبعا النقذ لا يكون ذا فائدة كبيرة ان كان كلّه إطراء. بل ان نجاعته تكمن في تلاقح الأفكار عن طريق المكادحة والمطارحة. ان أكثر الأفكار تولد على حدود الإختلاف. وهذا الكتاب كغيره من الكتب يحتوي على بعض الثغور. واليك بعضها:
· ان التحدث على لسان ابن تيمية لتقييم تلك الفرة التاريخية لهو من أغرب ما جاء في الكتاب. وخصوصا عندما يجد القارئ نفسه أمام اختلاف واضح بين رأي الكاتب ورأي بن تيمية، ثم يقدمه الكاتب على انه توافق. وسوف نورد بعض الأمثلة على ذلك. عندما نقرأ كلمات الكاتب نجدها دقيقة وملتزمة الى حد كبير بالمنهج الذي وضعه، وعندما نقرأ لإبن تيمية نجده يبرر ويتكلف في ذلك. ولعمري كم تخبط في أمر اللّعن، فيقول ان الله لعن، والرسول لعن، ثم يرجع فيقول ان الأفضل ان نتنزه عن اللعن لأنه دوني ولا يليق بالمؤمن. وينسى ان الله ورسوله فعلا ذلك؟ والكاتب يوافقه الرأي. ثم يستدرك ابن تيمية ويقول ان اللّعن بالتعيين –اي ذكر الاسم- هو ما يجب التنزه عنه. ثم يذكر ان الرسول لعن الحكم والد مروان. والكاتب يورد فتوى لأحمد بن حنبل يجوز فيها لعن يزيد بن معاوية.
ان الكاتب بنسج كلامه مع كلام ابن تيمية، قد يكون اعطى لكتابه بعض المصداقية عند السلفيين، إلا انه خلط عذب بآسن. ان كلام الكاتب جاء في عصر الحرية والانفتاح على الآخر، وعصر توفر المصادر؛ كل المصادر، لذلك جاء نقيّا ليس فيه كثير تكلف، بينما كلام ابن تيمية جاء في عصور الظلام وانحطاط الأمة وكترة التشنّجات فيها، لذلك جاء آسن فيه كثير من التكلّف وحميّة الغلبة للمذهب، إلا في بعض المواضع التي كان فيها ابن تيمية أكثر جرأة من غيره وخصوصا على علي وعثمان دون ابو بكر وعمر وعائشة ومعاوية.
وهنا نسأل لمذا مزج الكاتب بضاعته ومنهاجه –الذي هو منهاج اكادمي عصري- مع بضاعة خائبة؟ اما كان كافيا للكاتب ان يعتمد على قراءته للتاريخ دون ان يلجأ لمن يهضم له التاريخ؟ كنت اود ان أقرأ لقلم الكاتب عوض قراءة آراء ابن تيمية المنشورة منذ عصور والمشهورة بين اهل الاختصاص.
· ان القارء للكتاب يجد ان الكتاب يعطي اهميّة لآراء بعض العلماء المتقدّمين وليس بعرض الأمور على العقل والتحليل. وفاته ما قاله امير المؤمنين علي بن ابي طالب: "الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله". اظف الى ذلك ان الفكر البشري ليس كالخمر كلما كان اعتق كلما كان اجود، بل بالعكس تماما، إذ انه يتكامل مع مرور الزمن، بشرط ان يكون التمحيص جار على قدم وساق. ويستتنى من ذلك الوحي الذي هو الهي وسنة النبي التي هي كذلك علم من لذن حكيم عليم. فسلطان كلام فلان من العلماء لا داعي له. اي كان العالم، اذا تكلم نجعل كلامه في دائرة الامكان حتى يأتينا صاطع البرهان. نحن ابناء الدليل اينما سار نسير.
· اما في ما يخص الثلاث القواعد، فأبدأ بقاعدة: "استصحاب فضل الاصحاب" فإنها قاعدة لا قيمة لها، فهي إما أن تكون مقيّدة للبحث، بفعلها النفسي على الباحث المؤمن حيث قد تُرهبه وتُثنيه عن تتبّع الظّلمة من الصحابة، أو أنها مشمولة بغيرها إن كان القصد الإفتراء على الصحابة. وعلى كل حال فالإفتراء عليهم أو على غيرهم تتوّكل به قاعدتا "التتبث فى الرواية" و"العلم والعدل". وهنا ملاحظة، ان استعمال كلمة الاستصحاب الذي هو مصطلح فقهي له دلالته الخاصة غير مُوفق. فقد يكون عمرو من الناس صالحا في ماضيه وهذا لا يستصحب أن يكون صالح العاقبة كما صرحت الآيات بذلك.
قاعدة "الاعتراف بحدود الكمال البشري" وهي كذلك عديمة الفائدة وقد تخلّ بقاعدة "العلم والعدل". فمحلّ الخلاف ليس في عصمة الصحابة او عدمها، بل في صحابة عصوا الله وماتوا مُصرّين على ذلك أو ندموا على فراش الموت، وصحابة جاهدوا وصبروا لحفظ بيضة الاسلام. وكأن هذه القاعدة أريد بها تهيئ القارئ نفسيا لما يلي من الفضائع ليس إلا. اما قاعدة: "اجماع الأمانة والقوة في الناس قليل" فهي اغرب قاعدة جاءت في الكتاب. اولا من الناحية التقنية هي تعبير عن واقع حال. ثانيا، ولْيَكُنْ. ونحن نعرف ذلك، ولكن على من لاتتوفر فيه الشروط أن يُقيل نفسه قبل أن يضيّع اموال المسلمون. والمال العام حسابه عسير. فلو كان فلان تقيّاً لنزل عنها لغيره عندما لم يجد نفسه أهلا لها. وخصوصا انّه كان موجود بينهم قالع باب خيبر(القوة) وباب مدينة علم الرسول(العلم) ومن قال فيه رسول الله(ص): "أقضاكم علي" (العدل) . ثالثا حتى ان كانت نسبة الذهب للتراب قليلة فهذا لايعطيك الحق أن تبيعنا التراب على انه ذهب. يطلق على ذلك الغش في الاسلام. تريد لهؤلاء الصحابة أن يصلوا الى اعلى الدرجات في قلوبنا مع انهم سقطوا عند البلاء؟
· فرضية خاطئة انطلق منها ابن تيمية وتبعه الكاتب. هذه الفرضية قيّدت البحث بحيث أنّه مهما اكْتُشِفَتْ من فضائع فمكانة الصحابة، كل الصحابة، محفوظة وفي أعلى الدرجات. الفرضية هي ان من هاجر أو آوى وجاهد في سبيل الله لايمكنه فعل شيء يسقطه الى أسفل الدرجات. وهذا خلاف لأوليات الإسلام. أولا من الناحية النظرية رب العالمين يخبرنا ان بقاء مكانة النبي نفسه، إنما هي مرهونة بعمله. عندما يرتفع العمل ترتفع الدرجة، وعندما يتسافل العمل تتسافل الدرجة. معادلة محكمة. واليك الأدلة: " ولقد اوحي اليك والى الذين من قبلك لئن اشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين" الزمر-65. " وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ" الحاقة-44-46. ثانيا من الناحية العملية القرآن يورد لنا قصة إبليس أو طاووس الملائكة كما كان يوصف قبل العصيان، الذي عبد الله ستة آلاف سنة. وبزلة واحدة نزل الى درجة الشيطان الرجيم. ليس لله قرابة مع أحد. وان قلت ذلك عالم الملائكة والجن وأحكامه مختلفة، شهرنا أمامك انقلاب السامري. الذي وصل من الدرجة انه كان يرى جبريل عندما يزور موسى، ولا أحد من الصحابة ادّعى ذلك. ومع كل هذه المنزلة التي لم يصل أحد من الصحابة اليها، عندما عصى السامري ربّه طرده من رحمته ومات والله غاضب عليه. " قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من اثر الرسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي" طه-96. الرسول هنا جبرائيل الذي أخذ السامري حفنة من الرمل من آثاره، فاحتفظ بها حتى سوّلت له نفسه أن يستعملها في صنع العجل. ثالثا القرآن حذّر الصحابة من الانقلاب: " وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم" آل عمران-144. رابعا رسول الله، كما ذكر الكاتب نفسه، حذّر أصحابه من الارتداد: "لا ترجعوا كفارا بعدي يضرب بعضكم رقاب بعض" ص-168. خامسا بعضهم قتل بعض، ظلما وعدوانا. كابن الغادية الذي قتل عمّار وجاء الى معاوية يفتخر وينتظر الجائزة وكلّهم صحابة: القاتل والمقتول والمدبّر. وقتل معاوية لحجر بن عدي لما رفض التبرئ من علي ابن ابي طالب. وكلهم صحابة: القاتل والمقتول والمقتول من اجله. سادسا ليس دور الكاتب المحافظة على مكانة فلان أو فلان، انّما همّه تقصّي الحقيقة، فإن كان فلان من الناس عظيما فالحقيقة من شأنها أن تجعله أكثر إشعاع من ذي قبل. لامجال للضبابية في هذا العصر، وخصوصا لمن يرمي للتأسيس لمشروع نهضوي.
· لقد أورد الكاتب مصطلح "التعبد بالصحابة". ولم أجد له ذكر له لا في القرآن ولا في السنّة، اللّهم إلاّ بعض الأحاديث الضعيفة. ونسأل: بماذا يكون هذا التعبّد؟ ومتى أضيفت الصلاة عليهم، أفي عهد رسول الله أم بعده؟ الرسول ومن قبله القرآن أمر بالصلاة على أهل البيت فهل أمر صراحة بالصلاة على الصحابة؟
· المفارقة التي وقع فيها الكاتب ومعه بن تيمية، بل ومعظم المتأخرين، هي اعتبار الصحابة كلحمة واحدة لا تقبل القسمة. من الصبيانيّة اعتبار آلاف من البشر- لمجرد أنهم صحبوا رسول الله(ص)- أناس ذو خصائص متشابهة؟ ولعلّ هذا حدث بعد ما استتبّ الأمر الى معاوية. بحيث خلق هذه الحصانة الصحبوية لكي يتحصّن فيها ممّن يعكر عليه ملكه. والا فالصحابة على درجات فيهم الطالح وفيهم الصالح فيهم القاتل والزاني وشارب الخمر الخ. والقرآن يخبرنا بذلك: " يقولون ان بيوتنا عورة وما هي بعورة ان يريدون الا فرارا" الأحزاب-13. "لو خرجوا فيكم ما زادوكم الا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين" التوبة-47. هنا رب العزة يخبرنا أن من بين الصحابة من ينساق وراء قول المنافقين. ومن الصحابة من هو ظالم. كبار الصحابة ولّوا الأدبار يوم أحد. والله يقول: "ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال او متحيزا الى فئة فقد باء بغضب من الله وماواه جهنم وبئس المصير" الأنفال-16. والأمثلة كثيرة. الصحابة قتل بعضهم بعضا فلا يمكن أن يكونوا لحمة واحدة. الصحابة تلاعنوا وتسابوا الخ. فليس من العلم أو العدل التحدث عنهم كأنهم لحمة واحدة ليغطي الصالح منهم عن فضائع الظالم منهم.
· اما التقليل من أخطاء الصحابة، فهو أخطر ما في الكتاب. أولا ليست من النزاهة العلمية ان يذكر الشخص حديث "لا ترجعوا كفارا بعدي يضرب بعضكم رقاب بعض" ص-168. ويذكر أن بن الغادية قتل عمار بن ياسر ووقف أمام باب معاوية، ثم يقول أن أفعالهم لا تخرجهم من الدين وان الله غفر لهم. الرسول يصف القاتل بالكافر والكاتب يهوّن من أخطائه. وأين الدفاع عن المبدأ؟ وهل هناك أعظم من قتل المؤمن ظلما وجورا؟ والله يقول: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما" النساء-93. الله يخبرنا أن القاتل منهم في النّار -لأن باب التوبة يتطلب عفو المقتول وهو محال- ويلعنهم ونحن نقول أن الله يتوب عليهم ونتنزه عن لعنهم. ومن أجل ماذا؟ أن نغطي على خطيئات المجرمين منهم. هذا في حد ذاته إساءة الى الصالحين منهم أن يقرنوا بتلك الأناس كابن الغادية ومعاوية وعمروا بن العاص. وإساءة لمبادئ الإسلام وباب يدخل منه الأعداء للتشهير بدين يقدس القتلة والسفاكين.
· اما نبز الشيعة فكان على الكاتب أن يتنزه عنه لعدة أسباب. وهومن تنزه عن اللعن وهو مباح. أما النبز فمنهي عنه في القرآن:" ولا تنابزوا بالالقاب" الحجرات-11. اولا لانه لم تكن هناك ملازمة وهو أسلوب غير علمي هدفه التشهير بمذهب اسلامي وتنفير الناس منه. فكلمة "التشيع السني" التي استحسنها الكاتب ليست لها معني. فالتشيع في اللغة لا يعني التعصب. بل يعني الاقتداء والاتباع وكذلك يأتي كمرادف للمحبة وللموالات. وكلها لا تستقيم مع ما عناه الكاتب، أي التعصب الأعمى. ثانيا إن عنى الكاتب أن منهج الشيعة في تحليل ما جرى بعد الرسول هو أسلوب يحاكي أسلوب ابن عربي، الذي هو اسلوب تعسفي وفيه كثير من التدليس كما وضّح الكاتب، ان كان ذلك هو القصد، فقد اخطأ الهدف وأظهر عن جهل كبير بحال الشيعة في أمور الخلافة وما تلا وفاة رسول الله. ولعل الكاتب اعتمد كتابات ابن تيمية-ألذ أعداء الشيعة ومن أفتى بقتلهم- لمعرفة آرائهم، وطبعا هذا ليس من العدل ولا العلم. فلا يعرف الإسلام عن طريق ما يكتبه عنه أعداءه مثلا. ما كان للشيعة أن يحافظوا على مذهبهم أمام الاضطهاد والتشنيع والتنكيل الذي لحق بهم طوال التاريخ لو اتبعوا اسلوب ابن عربي. أولا الشيعة يطّلعون على كل ما يكتبه أهل السنة في أمور الخلاف. ويردّوا عليها بلإعتماد على مصادر أهل السنة والصحيح من أحاديث أهل السنة. ويفعلون ذلك بكل دقة ورحابة صدر. وما على الكاتب إلاّ ان يطّلع على كتبهم وآرائهم على الانترنت، ككتاب المراجعات ومعالم المدرستين. اين اسلوب بن عربي من اسلوب مدرسة أهل البيت. انظر الى هذا الحوار الذي جرى بين مؤسس حركة النهضة مبارك بعداش والشيخ الدكتور راشد الغنوشي: يقول السيد مبارك بعداش بعد أن بلغ خبر تشيعه إلى قيادات الجماعة " قال لي راشد( يقصد راشد الغوشي): هنيئا! هل تشيعت؟ فقلت له: إنني أسألك عن ثلاثة أمور فإن أجبتني عنها تخليت عن التشيع.
فقال راشد: لاأريد أسئلتك لأنّنا لانستطيع أن نجاري الشيعة في النقاش والحوار، فهم حزب قد شيدوا معتقدهم وأحكموا بناءه منذ زمن قديم، ولهم تاريخ حافل من أيام الإمام عليّ !. فهاهو رجل قدّم لكتاب الكاتب لايوافق الشيعة آراءهم ولكنّه لا يبخسهم حقهم ويعترف لهم بإحكام معتقدهم واستدلالاتهم.
واليك تفصيل هذه النقاط:
ص44 (هنا نقصد صفحات النسخة الإلكترونية): يقول الكاتب: "ولو أن الباحثين الذين يدرسون الخلافات السياسية بين الصحابة نظروا الى الأمر من هذه الزاوية –زاوية الإبتلاء- ... لأنهم في هذه الحالة سيحافظون على مكانة الأشخاص...". ونحن مع الكاتب ان السقيفة وحرب الجمل وصفين والنهروان، كانت ابتلاءات، نجح فيها البعض وسقط فيها آخرون. وهل الحياة غير الإبتلاء. وهل يُنال ما عند الله إلا بالنجاح في الإبتلاء. وهل يَدخل النار من يدخل النار إلا بالسقوط عند الابتلاء.
ثانيا إن دور الباحث ليس انصاف الناس او حسابهم، بل تقصي الحقائق بكل صدق.
ص54 -55: يبدوا من كلام الكاتب، ان الصحابي يستحق التقدير حتى وإن عصى الله ورسوله، بل ومات على ذلك، كما فعل معاوية وعمرو بن العاص وعائشة.
ص63: هنا يبدوا انه وقع خطأ مطبعي: يبدوا ان الكاتب كان يعني: "فربّ سامع أوعى من مبلّغ"
ص66: يقول الكاتب: ومن أبلغ الحجج التي ساقها ابن تيمية في هذا الصدد... "كل مؤمن آمن بالله ، فللصحابة عليه فضل الى يوم القيامة". فليس من الإنصاف –فضلا عن العرفان بالجميل – أن نسيء إلى من قدم اليك رسالة الله وهدايته."
أقول: فليس من الإساءة ذكر أفعالهم ، ثم التبرؤ ممن خرج عن جادّة الطريق، وموالاة من لزم الجادّة. فلم يسئ الى الصحابة من لعن معاوية وتبرأ من خروج عائشة، ووالى علي وعظّم الصحابة الذين لم ينقلبوا. فليس الأمر إما الكل أو لاشيئ كما يوحي لنا كلام ابن تيمية. ثانيا ليس كل الصحابة كانوا مبلّغين. بل معظهم كان بعيدا عن جمع الحديث او الإعتناء به. بل هناك من منع تدوين الحديث. فأدخلنا في متاهات كنا في غنا عنها. بل الصحابة المبلّغين من حفظة القرآن ورواة الأحاديث لم يدخلوا في السياسة.
ص68: "اعملوا ما شئتم فإني غفرت لكم" أشتم في هذا الحديث وَضَّاعي معاوية الذين كان يغدق عليهم. اولا،ا لأن الحديث يعارض قول الله "ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" الزلزلة-8. ويعارض قول رسول الله: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" . الله ليس له قرابة مع أحد، عملك يحدد قربك. وانما الأعمال بخواتيمها. لذلك أُمرنا ان ندعوا بحسن العاقبة.
ثانيا كيف عرف بن تيمية انه غفر لهم جميعا وفيهم قاتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، كابن الغادية الذي قتل عمار بن ياسر ومعاوية الذي قتل الصحابي الجليل حجر بن عدي. والله يقول: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما" النساء-93. هذه الآية تصرح لنا أنه بعد قتل المؤمن عمدا فلا غفران، بل جهنم، لأن حرمة المؤمن عظيمة، وكذلك لتعذر طلب العفو من المقتول. وهي كذلك تُجَوِّزُ لنا لعن القاتل.
ص100: اما أسلوب البلاك اوت. اي تغييب الأحداث فقط لإنها فضيعة وتظهر الصحابي الفلاني في وضع الظالم والباغي، فليس بعلمي وليس بصاحب مشروع نهضوي ان يقبل به. بل يجب أن يحمل عليه بدون هوادة. "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فانه آثم قلبه والله بما تعملون عليم" البقرة-283 . وعلى أي حال أي خطاب نريد أن نحمل لأجيالنا: ان نظرتم الى مناقب فلان وغضضتم البصر عن بعض الأعمال التي لا نحب ذكرها، تجدون فلان عظيما كما وجدناه عظيما. فاتخذوا فلان قذوة، كما اتخذناه كذلك.
ماذا يكون موقف اجيال تربت على هذا المنطق الهش عندما يقابلهم المخالف باعمال فلان التي أخفيناها عنهم.
"وقد وردت في مقتل الحسين قصة طويلة لا يحتمل القلب ذكرها" ومن الغريب أن وافق الكاتب المحدثين على منطق البلاك آوت، وهو الذي قال أن فائدة الخطأ قد تفوق فائدة الصواب ان اعتبر البشر من ذلك. والقرآن مليء بالعبر والفاجعات والدمار...إن يوم عاشوراء هو مدرسة الإباء، انه يوم برز الإيمان كله للكفر كله. درس تعلم منه حتى المهاتما غاندي عندما قال: تعلمت من الحسين كيف اكون مظلوما فانتصر. هذا التغييب لما جري في كربلاء حدى بمفتي سوريا الحالي ان يستنكره ويعدل عن مذهب أهل السنة والجماعة.
نسأل الكاتب، ألا يخدم القاتل مشروع تغييب ما جرى في العاشر من محرم سنة 61 هجرية؟
ص101: لا أعلق على قول بن تيمية بأن معاوية خير الملوك. اي اذا كان فلان من الناس ظالما ووجد من هو أظلم منه، فهذا يعتبر مزية للأول...أي عقل يقبل هذا.
ص-107: هنا الكاتب يخلط بين السبّ واللّعن. السبّ هو المنهي عنه: "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم" الأنعام-108. والسبّ هو الذي قد يحتوي على البديء من القول. أما اللّعن فلا بداءة فيه، اذ هو في الأصل دعاء الى الله أن يطرد فلان من رحمته. وهو تعبّد كما جاء في كثير من الآيات لعلّ الكاتب مطّلع عليها ولا حاجة لذكرها. فالآيات توضح ان الله يلعن والمؤمنون يلعنون كذلك. والأحاديث كثيرة منها ما ذكره الكاتب نفسه في صفحة 240 من ان رسول الله لعن الحكم ابو مروان.
اما دعوة الكاتب بالتنزه عن اللّعن "لتتريه لسان المؤمن عن قول السوء مطلقا" فمردود لأن اللّعن ليس سوءا بل دعاء. وكيف يتنزه عن ذلك المؤمن ولا يتنزه عن ذلك الله ولا رسوله. وحسبك 40 آية من كتاب الله جاء اللعن فيه لأعداء الله، وحسبك ماذكره البخاري في باب اللعن من أن رسول الله كان يلعن وفي قنوت صلاة الفجر. وذلك حجتنا أن اللعن تعبّد، لأنه يوّلد مناعة نفسية لذى المؤمن من أعمال الفسقة والظالمين.
اما قول ابن تيمية: "الهجرة والنفاق نقيضان" فالرد عليه بسيط جداً. اذ ان النقيضان لا يجتمعان في موضوع واحد في وقت واحد. اما إذا اختلف الموضوع فلا مشكلة: فعلي من المهاجرين وعمّه ابا لهب من الكافرين. وكذلك اذا اختلف الزمن: فزيد من الناس قد يكون مهاجرا ومؤمنا أول حياته ثم ينقلب على عقبه آخر حياته، كانقلاب السامري وبلعم ابن باعورة الخ. ومن المؤسف أن ينساق الكاتب وراء هذا الإستدلال السقيم. فهذا الإستدلال يُسخر منه في عصرنا، عصر التمحيص وآلاف الجامعات المنكبّة على التنقيح والتثبيث.
فالخلاف ليس حول أحوال عمرو بن العاص قبل صفين. فحتى الشيعة يعترفون له بمناقبه في حياة الرسول، وإنما الخلاف هل انقلب عمرو بن العاص ام لا؟ وأعمال عمرو بعد وفاة الرسول هي الكفيلة بإخبارنا عن أحواله.
ص118: اما قول ابن تيمية: "واما معاوية فيكفي تولية عمر له دليلا على براءته من النفاق" لهو من السقم ما يجعل القارء يشك في نزاهة ابن تيمية أو في عقله. اذ كيف تجعل ما لم تأت عليه ببيّنة أساس للإستدلال على غيره؟ اذ من قال لنا أن عمر لم يعيّن إلاّ من لم يكن منافقا. وهوالذي ذكر ابن تيمية نفسه أنه يعين الفاجر. ثم هل كان عمر يشقّ على قلوب الناس. وكم عيّن عمر وعزل مرارا. والغريب ان عمر اعترض على تعيين معاوية عندما كان وزيرا لابو بكر، ثم عاد وأقرّ تولية معاوية..إنها السياسة وما أدراك ما السياسة.
ص135: يقول بن تيمية عن عثمان بن عفان: "...وأدخل[عثمان] من أقاربه في والولايات والمال ...حتى مات مظلوما" كيف يموت مظلوما من جنت عليه ما عملته يداه؟...لنقل ان تولية أقربائه لم تكن محسوبية وانه اساء تقدير كفاءة وأمانة اقربائه، ولكن لماذا لم يعزلهم عندما اشتكى اهل الأمصار إليه؟...وقد كان يصله فجورهم وقضمهم لمال المسلمين وقد اشتكى له عمار بن ياسر فضُرب عمار على مرآى من الخليفة عثمان؟... مهما حاولنا لانستطيع مسخ التاريخ...الحق عادة يكون في اليسر وعدم التكلّف.
يقول ابن تيمية عن عائشة –ويوافقه الكاتب: على انها ما خرجت إلا متأولة قاصدة للخير كما اجتهد طلحة بن عبدالله والزبير بن العوام..."
لا أظن أن أحدا يتحلّى بقليل من الموضوعية يعتبرأن تأليب المسلمين وجمع جيش قوامه عشرات الآلاف من الجنود يكون من أجل الخير. ثم يتوجهون الى البصرة ويقتلون واليها تحت التعديب. والوالي منصب من علي بن ابي طالب وليس له دخل بقتل عثمان. إنه بديهي عندما يدج بمثل هذا الجيش أمام جيش الخلافة، سوف يكون هناك تلاحم وإراقة الدم. وهذا ما حصل...فلا أرى تأولا ولا خيرا...أما كان الأولى بأم المؤمنين أن تبعث برسالة الى الخليفة وتنظر ما يفعل. واليست هي امرأة، فما بال دخولها بين الرجال؟ ومن أين لها أو للاخرين المطالبة بدم عثمان وهي ليست ولية دمه؟ وأي تأويل هذا بحيث تعصي قول الله: " وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية" الأحزاب-33. وتعصي رسول الله: " كأني باحديكن قد نبحها كلاب الحوأب ، وإياك أن تكوني هي أنت يا حميراء !". ثم تنسى كل هذا وتدخل بين الرجال في أمر لا يهمّها أصلا، إذ كانت تألب الناس على عثمان قبل موته. ولعمري كيف يكون مراده الخير من ينصحه قادته بأن يوقف الحرب ويحقن الدماء ويصرّ على استمار القتال؛ حيث اصبحت الحرب بدون معنى بعد انكسار جيشها وقتل طلحة والزبير. مما حدى بعلي أن يأمر أحد قادته ببترارجل الجمل؟ كيف ما نظرت الى هذه الحادثة فانها لا تستقيم على ما ذهب اليه ابن تيمية.
وليت شعري كم تخبط ابن تيمية في دفاعه عن عائشة. بعد أن بالغ في إقناع القارء أنها لم تخرج إلاّ لطلب الصلح وأن الحرب وقعت بدون اختيار أحد، يعود ويقول: "وواضح من هذه النصوص أن أم المؤمنين عائشة بدأت تستشعر الخطأ..."؟ كيف تستشعر خطأ لم يقع حسب ابن تيمية.
وأما القول بأن الاقتتال وقع بدون اختيارهم فهو استخفاف بعقول الناس. ويا ترى هل يمكن للناس استعمال هذد الحجة مع الله؟ "والله ما أنا الذي سرقت ولكن يدي امتدت للشيء فأخذته دون اختيار مني". أي دين يبقى بمثل هذا المنطق. أليس الأيسر القول ان طلحة والزبير كانا يتوقان للخلافة وان عائشة غاضها ان يُستخلف من تكره. لاتكلف وكل الأمور تستقيم دون عناء.
ص157: المذنب عندما يستغفر ويتوب الله عليه تكرما ليس استحقاقا منه، يجب ان يعيش ذليلا ما دامت تبعات أعماله ظاهرة للعيان. ولكن عند ابن تيمية ان كان المذنب صحابيا فمجرد الاستغفار يرفع من قدره.
السؤال: هؤلاء الصحابة العظام هل خلقوا عظاما أو نالوا عظمتهم بأعمالهم؟
فإن كان الأمر الثاني فخسة الاعمال الا تستوجت تدني في الدرجات ؟
ص158: ألم يكن خروج عائشة على علي مقدمة لخروج معاوية؟ اين قاعدة "العلم والعدل". وإن كان الأمر كذلك الا تكون عائشة هي من وضغت المسمار في نعش الخلافة؟؟ وكيف يوصف هذا بالهيّن؟ وكيف يوصف قتل 17 ألف مسلم على ايدي مسلمين بالخطأ؟ اليست هذه جذور الارهاب ومن يسوّغون قتل الأبرياء من المسلمين لإقامة الخلافة؟
لا بد من ايراد ما قاله الكاتب في ص176- بعدما كان يوافق ابن تيمية، يعود ويقول: "لقد قاتل علي والحسين واهل المدينة وابن الزبير من أجل الحق، وقاتل خصومهم من أجل السلطة والثروة . فليس من الحق أو الإنصاف وضع الطرفين في سياق واحد"
فلماذا أتعبت القارئ من اجل الوصول لنتيجة واضحة مفاذها أن عائشة وطلحة والزبير ومعاوية ويزيد هم طلاب دنيا وظَلموا من أجل الظفر بها. بعضهم نالها وبعضهم لم ينلها والعاقبة للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.
ص161: هنا قول الكاتب وقول ابن تيمية متناقضان، ولكن القارء يجد انطباع ان الكاتب يحاول تقديم الأمر انه توافق. فالكاتب يصف الصحب بأنه استزلهم الشيطان احيانا. والتستر على ذلك خيانة للدين. ولكن ابن تيمية يصر على ان الأمر لا يعدو كونه اجتهاد افضى الى اخطاء لاتقدح في أحد من الصحب. لقد جعل بن تيمية قتل الحسين وأهل بيت النبوة مسألة تأويل.
ص164: لانعرف لماذا كلما تجلى فضائع بعض الصحابة للإبن تيمية أو للكاتب، ينتقل الموضوع الى جواز أو عدم جواز لعن الصحابة. ألسنا في صدد تقصي الحقائق؟ اليس تقييم أعمالهم هو أصل الموضوع؟ أليس هذا تملص؟ يصبح الذي يلعن هو الذي في قفص الإتهام وكأن عمله هو الذي حرف الأمة عن مسارها الصحيح. ما صدر عن الصحابة هو المشكل الأساسي. أما من يلعن، فهو لا يهمنا، لأننا لا نتخذه مثلا..فتصرفه لا يعنينا البثة...ولكنها سنة تركها معاوية، عندما خلق حصانة حول الصحابة، كل الصحابة، حتى لاتذكر أفعاله الشنيعة. ولقد ذأب على ذلك معظم المسلميين إلى يومنا هذا.
ص168: أورد الكاتب حديث عن النبي(ص) مفاذه: "لا ترجعوا كفارا بعدي يضرب بعضكم رقاب بعض" ثم يعلّق الكاتب عن راوي الحديث: وانظر الى العجب يروي عن النبي النهي عن القتل ثم يقتل مثل عمار.
أليس أفضل ان يرفع التكلف وبه يرفع العجب. ثم نتذكر قاعدة "العلم والعدل" ونحكم أن القاتل من الصحابة يعد واحداً من الذين انقلبوا كفارا بعد موت النبي(ص) كما ذكر القرآن وحذّر من ذلك النبي(ص)...الم يثبت ابن حجر ومعه الكاتب انه على الأقل، واحد من الصحابة، ابن الغادية، قاتل عمار قد عاد الى الكفر؟ لماذا نظل نراوغ ونختلق أعذارا لأناس هم أنفسهم لم يكلّفوا أنفسهم ذلك العناء. ابن الغادية كان يفتخر بقتله عمار. ولماذا غيّب ذكر عطايا معاوية لقتلة الصالحين من الصحابة؟
ص176: لقد ذكر الكاتب أن عليا والحسين وقعا في أخطاء سياسية، وان هذاعلى اي حال لا يقارن بين من طلب الباطل وأدركه. ومثل هذا الاستنتاج جد مؤسف خصوصا أن الكاتب وعدنا بالدفاع عن المبادئ الإسلامية. وعلي والحسين كانت مشكلتهم الأساسية هو الإلتزام بالمبادئ. ولقد اشار بعضهم على علي ترك معاوية حتى يستثب له الحكم. فأجابهم ان ترك معاوية ولو يوم واحد هو إقرار بظلم. فأي حكم يصدر عن معاوية في تلك الفترة يكون عليا مسؤول عنه. والحسين لم يُترك له إلا بابان، باب الذّل والركون للفاجر يزيد، أو أن يقتل. ففضّل الشهادة. فكانت اعظم شهادة عرفها التاريخ. ولنستمع لخطبته قبل مسيره للعراق، وهو واثق ان أهل العراق سوف يخذلونه كما خذلوا أباه وأخاه. فالمؤمن مكلف بالعمل وليس مكلف بالنتائج. فلو لم يُلبّي ندائهم يكون متخادلا على نصرة دين الله. وضع صعب وامتحان اعظم من كل ابتلاءات الصحابة، ولكنه نجح حيث سقطوا. دينه يأمره بالمسير لنصرة من أخبره رسول الله أنهم سوف يخذلونه. وهذا ما قاله لعبدالله بن عمر عندما نصحه بعدم الخروج، من أنه مقتول لامحال خرج ام لم يخرج. فقتله في ساحة الوغى اشرف له. يقول الحسين: " ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين ، بين السّلة والذلة ، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبيّة ، من ان نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام "...يا طالب الدفاع عن المبادئ، اليس هذا هو انصهار الرمز في المبدئ حيث صارا شيء واحد.
ص183: يتسائل الكاتب ويستميت في ايجاد مخرج للحفاظ على المبادئ الإسلامية وقدسية الأشخاص. ولم ينتبه ان ذلك مستحيل منطقيا إلا ان لم يفترق الأشخاص عن المبادئ. أما إن انسلخوا من المبادئ، فقدسيتهم تسقط. كما سقطت قدسية طاووس الملائكة في لحظة وصار شيطان رجيم. وهنا نورد الاستدلال على الاستحالة:
معادلة(1): رفيع المكانة متعلق بالالتزام بالمبادئ (أ => ب)
واذا سألنا اي رياضي أو منطقي يخبرنا أن (1) يؤدي الى المعادلة التالية:
معادلة (2): نقيض ب => نقيض أي ان عدم الإلتزام بالمبادئ يؤدي حتما الى وضيع المكانة. فكل من ابتعد عن المبادئ تسافل في الدرجات ولو كان نبيا أو وليا كالسامري أو ابن باعورة.
ص192: في هذه الصفحة لفتة لطيفة لإبن تيمية لم أقرأه عند أحد، يقول: "ولذلك [معاوية] لم يحرك ساكنا ضد قتلة عثمان حينما استقر له الملك..."
ثم يعود ابن تيمية ويقول: "أن معاوية لم ينازع على الخلافة" مما يجعله اقصى اليسار ويجعل الكاتب أقصى اليمين. إن ما أورده الكاتب من ص196-198 ليجعل تحليلات ابن تيمية واهية وفيها كثير من التأول والتكلف الذي لا يعرف له سبب عند من يسمونه شيخ الإسلام. فشاب الاسلام تغلب على شيخ الإسلام.
ص231: ذكر الكاتب أن عليا شهد لأبي بكر وعمر أنهما عملا بسنّة الهادي، والدراية تخبرنا أن علياً كان سوف يكون الخليفة الثالث لو قبل بالحكم بسنّة الشيخين. رفضه (وهو أول رافضي) يعني أنّه كان يرى سنّة الشيخين مخالفة لسنّة رسول الله. واكبر شهادة شورى الستة الذين اختارهم عمر والحوار بين علي وعبدالرحمن بن عوف.
ص240: ومن عجيب ما جاء في الكتاب ذكر افعال مروان الشنيعة من غدر وفتك ثم القبول بتصديق حديثه. منطق غريب: "المهم ان تكون صحابيا، واقتل وازني واخذع والعن اولياء الله، ثم كِلْ الأمر لجمهور من العلماء للدفاع عنك"...لا أخال إلاّ مروان وهو يسخر من هذه الأمة الحائرة في تصنيفه...إذا لا غرابة أن يحكم بلاد العرب ذئاب من المحيط الى الخليج.
ص246: يتحدث الكاتب عن عظمة الخليفة عثمان. ولنا أن نسأل من اين استدل على ذلك، امن الألقاب الفارغة التي الصقت به في عهد الدولة الأموية-بنو عمومته. أم تلك الأحاديث التي ألفت في عهد معاوية. فما على الكاتب الا أن ينشر الخبر التالي في نواكشد حتى يلمع اسم الرئيس الموريتاني السابق: "1000 دولار لمن يأتينا بمنقبة لولد الطايع". ذلك ما فعله معاوية، فتوالت الألقاب: ذو النورين والشهيد المظلوم والذي تستحي منه الملائكة أكثر مما تستحي من الرسول الخ. هذه الألقاب والأحاديث لا تنسجم مع أفعال عثمان. فالعاقل يهملها وإن كانت بعدد النجوم. اين كانت عظمة عثمان عندما استولى عليه مروان، ألم يعد يفرق بين الحق والباطل؟ وكيف ينفي ابا ذر الى الرمضة لانه قدم له النصح؟. وكيف يسمح لمروان ان يضرب عمار بن ياسر على بطنه حتى يغمي عليه في حضرة عثمان؟ وكيف يولي الفاسق والفاجر والظالم ومختلس أموال المسلمين. إن كان هذا عظيما فالقذافي أو الملك عبدالله أعظم.
ص250: اورد الكاتب هذا الحوار الذي جرى بين الإمام أحمد وابنه: "...فقلت: يا أبت، فلماذا لاتلعنه [يزيد بن معاوية]؟ فقال: ومتى رأيت أباك يلعن أحدا؟". وأقول: ان جواب الإمام أحمد عقيم. إذ نراه يجوز اللعن ولا يلعن. كأنه يخاف أن يتهم بالتشيع. فسنّة مخالفة الشيعة التي سنّها معاوية جعلت الناس تُسقط الفرائض فما بالك بالسنن، وإلا فاللّعن تَعبدٌ اذ أنه اقتداء بالله ورسوله. واليك بعض السنن والفرائض التي سقطت لمخالفة الشيعة: مسح الرجلين في الوضوء (فالغسل مخالف لصريح القرآن)، الجهر بالبسملة، القنوت في الصلاة، متعة الحج (اي طواف النساء)، التختم باليمين، الخ.
ص251: لا أعرف لماذا يكتم أحمد بن حنبل الحق عندما يقول "نهب المدينة المنورة". والواقع أن جنوده استباحوا نساء المدينة ثلاثة أيام حتى ولدت اكثر من ألف امرأة من الزنى. أما نهب الأموال فكان جاري به العمل في حروب العرب حتى بعد الاسلام.
ويضيف الكاتب: "...على أن الذين كرهوا لعن يزيد لم يكن ذلك منهم تعظيما ليزيد بل خوفا من انفتاح الباب الى لعن معاوية أو غيره ممن صحبوا..."
اذا الأمر ليس تتريها للسان بل اعطاء الصحابة حصانة ضد اللّعن. هذا كان يستقيم لو لم يلعن بعضهم بعضا. اضف الى ذلك أن العلماء ليس لهم الحق ان يشرّعوا من تلقاء انفسهم. فهم ليسوا أعدل من الله في حق الصحابة، ليحرّموا ما أحلّ الله، بحجة الدفاع عن الصحابة. ورسول الله نفسه لعن الحكم ولعن من يخيف المدينة؛ اي يزيد بن معاوية... ولُْيلعن الصحابة الذين انقلبوا على اعقابهم وأين المشكلة؟ فهل المعيار التقوى او مصاحبة الرسول؟ وهل تنفع الصحبة مع الفاحشة ومشاققة الرسول ومحق مشروع الخلافة حتى عاد الحكم عضوضا؟
الخاتمة
هذا الكتاب له مكانته في المكتبة العربية. وفيه كثير من الجرأة والموضوعية بالمقارنة مع ما كتب من قبل في موضوع الخلافات السياسية بين الصحابة. إلا أن هذه الجرأة لا تكفي في عصر التحديات. لقد انفتح الباب على مصراعيه ولم يعد بالإمكان الاقتصار على تجهيل الناس (البلاك آوت). فالتحديات آتية من كل الجهات. هناك أولا العلمانيين الذين لايهمهم لا قداسة الأشخاص ولا قداسة المبادئ. وهناك التحدي من الشيعة الذين يهمهم الحفاظ على قداسة المبادئ كما هو حال أهل السنة ولكن لا يتورعون على التبرئ ممن لا يلتزم بالمبادئ حتى وإن كان صحابيا. وهناك التحدي من الكنائس التى أصبحت تستعمل احداث التاريخ المخزي الذي يتكتم عليه المسلمون، كموقعة الطف والحرة ليضربوا الإسلام. فمنطق النعامة لم يعد مجديا كما أن منطق النصف موضوعية الذي اعتمده الكاتب غير كافي. لأنه سيؤدي الى نصف مشروع نهضوي.
على الكاتب، وهو صاحب مشروع نهضوي أن ينهي هذه المعركة مع ذاته أولا وأن لايبقى عنده غموض أو التباس حول من يوالي ومن يعادي قبل أن يبحث عما يصلح الآمة، أما منطق موالات القاتل والمقتول والتقي والمتذبذب فلن ينفعه.
وعلى الكاتب ان لا يبحث عن الحقيقة فقط في حدود موروثه. فقد تكون الحقيقة خارج هذا الموروث. وحتى إن كانت داخل دائرة هذا الموروث فهو لا يكون قد حصن نفسهه من إشكالات المخالفين إلا بعد الإضطلاع عليها من مصادرها الأصلية ثم الرد عليها. كما تقول المفكرة الفرنسية سيمون فايل: "الحقيقة لاتدرك إلا من الخارج، لإن التعلق [بنتيجة ما] يكون مولدا للأوهام". وفي هذا الخصوص أنصح الكاتب، ان لم يكن فعل من قبل، أن ينكب على دراسة كتاب: "معالم المدرستين" لمرتضى العسكري. وهو دراسة أكاديمية متأنية في المقارنة بين "مدرسة الخلفاء" و"مدرسة أهل البيت". ولقد قصد الكاتب من خلاله أن يحرك البحث في هذه المسألة في الجامعات الإسلامية، بعيدا عن ضجيج المناظرات والخصومات. لذلك ضمن الكتاب نداء لأهل العلم في كل الجامعات الإسلامية، من القرويين الى قم. يقع الكتاب في ثلاث مجلدات ويتطرق للفترة التارخية من يوم السقيفة الى قتل الحسين: جزء1، جزء2، جزء3. هذا الكتاب مازال بعد أكثر من ثلاثين سنة ينتظر ردا مماثلا وبنفس الجودة من "مدرسة الخلفاء". كذلك يمكن للكاتب أن يقرأ لكاتب محايد وهو البرفسور ولفريد مادلونج، وخصوصا كتاب:
The Succession to Muhammad: A Study of the Early Caliphate
Wilferd Madelung
البرفسور مادلونج ليس اي مستشرق، بل باحث مقتدر ومعروف في الأوساط الاكادمية بالدقة والموضوعية والإنفتاح على كل المصادر.
اما في ما يخص نظرية الحكم في الإسلام فالطريق يمر من الجواب على الأسئلة التي طرحها الفيلسوف الكبير صاحب نظرية الاستقراء، محمد باقر الصدر في كتابه: "بحث حول الولاية". ومن هذه الأسئلة مثلا: هل رأى الرسول من واجبه ان يحافظ على الدولة الإسلامية بعد وفاته، أو أن دوره كان منحصرا في التبليغ ومع موته انتهت مسؤليته؟ وإن كان يهمه ما سوف يؤول اليه وضع المسلمين، ماذا فعل لإنجاح التجربة؟ هل أوصى؟ أو أنه أعد جيلا من الصحابة كلهم قادرون على القيام بالأمر؟ وهل ترك اسلوب تداول السلطة واضحا أم انه تركه لمن بعده لكي يجتهد؟ ولماذا آل الاجتهاد الى اربع نظريات لإنتقال الحكم مع اول تجربة؟ فتولية ابو بكر كانت ببيعة البعض وارغام الآخرين بحد السيف للإدعان، وتولية عمر كانت بوصية، وتولية عثمان كانت بشورى النخبة، وتولية علي كانت ببيعة العامة؟ اختر لنفسك ما شئت من سوبر ماركت ما يسمى ب"الخلافة الراشدة".
*اكاديمي مغربي مقيم بالولايات المتحدة

هل تحدد اللغة طريقة تفكيرك؟

كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الإثنين، 15 نوفمبر، 2010

هل تحدد اللغة طريقة تفكيرك؟

* كي دوتشـــر - ترجمة: محمد دحو
سبعون عاما خلت، في 1940، نشرت مجلة Science Magazine مقالا قصيرا أثار نقاشا حادا آنذاك بين مثقفي القرن الماضي. لم يكن عنوان المقال Science and Linguistics ولا المجلة نفسها محط اهتمام العموم. كما لم يكن الكاتب وهو مهندس كيميائي اشتغل لحساب شركة تأمين ويحاضر في جامعة Yale كأنتروبولوجي مرشحا لأن يكون عالما يثير الناس. رغم هذا، استطاع هذا الكاتب Benjamin Lee Whorf أن يوقد نقاشات ويسيل مدادا كثيرا حول مدى قدرة لغتنا الأم على تشكيل طريقة تفكيرنا وتحديدها لما نستطيع التفكير فيه.
قال ووغف Whorf إن اللغات الأمريكية الأصلية تفرض على المتكلمين بها صورة للحقيقة تختلف تماما عن تلك التي لدينا. فمستعملو هاته اللغات القديمة لا يستطيعون مثلا إدراك مفاهيم هي أساسية لدينا كالوقت وسيرورة الزمن أو التمييز بين أشياء كـ "حجر" أو أفعال كـ "سقط". لعقود، ظلت نظرية ووغف تحير الأكاديميين الباحثين والمهتمين من العموم على السواء، فزعم البعض منهم أن اللغات الأصلية في أمريكا تمكن مستعمليها من فهم حدسي لنظرية اينشتاين للزمن كبعد رابع، وادعى آخرون أن طبيعة الديانة اليهودية حددتها القواعد الصارمة التي تحكم اللغة العبرية.
نهاية الأمر، اقتنع الكثير من الباحثين بأن نظرية ووغف لا تستند إلى حجج تدعمها وتم إهمال البحث بشأنها. غير أنه في السنوات الأخيرة أثبتت الأبحاث أن اللغة الأم تكرس فينا عادات تفكير معينة، كما أنها تبلور تجربتنا بشكل ملفت وغريب.
نعلم الآن أن ووغف أخطأ حين افترض أن لغتنا الأم يمكن أن تحول بيننا وبين بعض الأفكار. فعندما تفتقر لغة ما لمفهوم ما فإن مستعملي هاته اللغة لا يستوعبونه. فنظرية ووغف تفيد أنه إذا لم تتضمن لغة ما مفردات تدل على المستقبل مثلا فلن يقدر المتكلم بها استيعاب المستقبل كمفهوم.
وحيث أن لا حجج هناك تدعم أن اللغة الأم تضيق على مستعمليها استيعاب مفاهيم جديدة، كان لزاما على الباحثين أن يذهبوا في اتجاهات أخرى حتى يثبتوا أن للغة الأم تأثير على طريقة التفكير وطبيعة التجارب التي نراكمها بخصوص العالم الذي نعيش فيه. قال رومان جاكبسون، عالم اللغة المعروف، بأن الاختلاف بين اللغات لا يتجلى فيما تسمح لنا به لغتنا من أفكار بل فيما تفرضه عادة علينا. لنتدبر هذا المثال: نفترض أني قلت لك باللغة الانجليزية: "Ispent yesterday evening with a neighbor" (قضيت مساء البارحة عند/ مع جار (ة) لي) هنا، اللغة الأنجليزية لا تفرض علي أن أحدد هل هذا الجار أنثى أم ذكر بخلاف اللغة الفرنسية التي ترغمك على استعمال كلمة "voisine" أو "voisin" والألمانية "Nachbarin" أو "Nachbar".من جهة أخرى، ترغمك اللغة الأنجليزية وبشكل صارم على تحديد بعض المعلومات التي تعفيك لغات أخرى منها، ترغمك اللغة الأنجليزية على تحديد الزمن لأي نشاط بينما تعفيك اللغة الصينية من ذلك، فشكل الفعل عند الصينيين لا يتغير سواء كانت الصيغة حاضرا، ماضيا أو مستقبلا. هذا لا يعني البثة أن الناس في الصين لا يستوعبون مفهوم الزمن، لغتهم فقط لا تجبرهم على ذلك.
عندما تجبرك اللغة يوميا وباستمرار على تحديد نوع من المعلومات دون أخرى تدفعك تلقائيا إلى التركيز على جوانب في الحياة اليومية لا يعيرها متكلم للغة أخرى أدنى اهتمام. وحيث أن هاته العادات تبدأ في سن مبكرة فإنها تصبح مع مرور الوقت عادات ذهنية ترقى فوق اللغة ذاتها وتوثر في تجاربك، إدراكك والاقترانات التي ينجزها ذهنك، بل وأحاسيسك وذكرياتك وتوجهاتك.
وهل هناك مرة أخرى أي دليل على هذا في الواقع؟
لنأخذ التذكير والتأنيث، اللغات مثل الإسبانية، الفرنسية، الألمانية والروسية لا تجبرك فقط على تحديد جنس أصدقائك وجيرانك، بل أيضا على تعيبين الاشياء إما مؤنث أو مذكر. اللحية مثلا في اللغة الفرنسية اسم مؤنث "La Barbe" والماء في اللغة الروسية اسم مؤنث ويصبح مذكرا عندما تذيب فيه كيس شاي.
بينت تجارب عديدة أن هذا التمييز في اللغة بين "جنس" الأشياء صاغ كثيرا من الاقترانات الذهنية والأحاسيس عند الناس. في 1990، قارن بعض علماء النفس هاته الاقترانات في مجموعتين تتكلم إحداهما اللغة الألمانية والأخرى اللغة الاسبانية. فالقنطرة مثلا عند الألمان اسم مؤنث Die Bruck وعند الاسبان اسم مذكر EL puento، نفس التمييز ينطبق على ساعة، شقة، جريدة، جيوب، طوابع بريدية، طاولات، حروب، مطر، أوساخ. الاسبان يقرنون القناطر بالقوة بينما يقرنها الألمان بالوسامة والرقة.
في تجربة أخرى، طلب من متكلمين بالاسبانية وآخرين بالفرنسية كل على حدى أن يعينوا أصواتا رجولية أو نسوية لأشياء يرونها، عند رؤيتهم لـ "Fourchette"، شوكة اختار الفرنسيون صوتا نسويا رقيقا بينما اختار الاسبان صوتا رجوليا "رزينا" tenedor.
السؤال الذي يطرح نفسه ويستحق البحث هو هل لكل هاته الدلالات الضمنية التي نقرنها بالأشياء من حيث "جنسها" والتي ترغمنا بعض اللغات كالفرنسية أو الاسبانية مثلا (فيما تبقى اللغة الانجليزية صحراء في هذا الصدد) على استعمالها أي تأثير على بناء القناطر وأشكالها، على الذوق واللباس، والعادات... في المجتمعات. الدليل الأكثر بروزا على مدى تأثير اللغة الأم على الفكر يظهر بوضوح عندما نتطرق إلى المجال أو نروم تحديد المكان ووصف الاتجاهات التي تفضي إليه. لنفترض أنك تعطي شخصا ما وجهة ليبلغ منزلك فتقول: "بعد أن تتجاوز أضواء المرور، عرج على يسارك ثم على يمينك، ستجد أمامك منزلا بطلاء أبيض، بابنا على اليمين". نظريا يمكن أيضا القول: "بعد أن تتجاوز أضواء الإشارة هناك، توجه شمالا، عند تقاطع الطرق عرج شرقا، هناك منزل بطلاء أبيض في الجهة الشرقية، بابنا في الجنوب".
الاتجاهات التي استعملناها في المرة الأولى تعتمد على ذواتنا وأجسامنا كمركز فيما تعتمد الثانية على نقط ثابتة لا تتغير ولا تتأثر بحركيتنا.
لغة Guugu Yimitirr التي يستعملها سكان استراليا الأصليون شمال Queensland أثبتت أن بعض اللغات لا تلتزم بما نحسبه نحن شيئا عاديا طبيعيا وسهلا. فهؤلاء السكان لا يعتمدون عند وصف وجهة ما مفردات كـ "يمين" "يسار" "وراء" "أمام" ... لأن لا وجود لها في لغتهم. فإذا ركبت مع أحدهم سيارة وأراد منك أن تترك له حيزا يجلس فيه فسيخاطبك قائلا: "تحرك قليلا إلى الشمال" أو "اقترب أكثر جهة الشرق"، إذا أراد أن يدلك على شيء تركه بمنزلك فسيقول لك: "لقد تركته في الجانب الجنوبي من الطاولة الشمالية"، إن أراد أن يحذرك من حشرة قرب رجلك: "احذر، هناك حشرة في الجهة الشرقية من رجلك". حتى وهم يتفرجون على شاشة تلفاز موجهة نحو الشمال تصور شخصا يقترب نحوهم فإنهم يعتبرون أن هذا الشخص كان متجها شمالا.
مثل لغة Guugy Yimitirr منتشرة في العالم، من بولونيا حتى المكسيك، من ناميبيا حتى بالي. بالنسبة إلينا، إن خاطبنا أستاذ رقص قائلا: "ارفع يدك الشمالية وحرك رجلك الجنوبية شرقا" فسيبدو لنا تافها وبليدا. لكنك لن تعلم أبدا شخصا يتكلم مثل هاته اللغات الرقص بـ "تقدم ثلاث خطوات إلى الأمام ثم استدر يمينا".
إن اللغة تركز فينا عادات ذهنية معينة، تحدد طريقة تفكيرنا، تصور لنا حقائق لا يراها آخرون بل وتتدخل حتى في ذكرياتنا الماضية. فإن حدث ودخلت فندقا بصحبة شخص يتكلم لغة Guugy Yimitirr وزرتما غرفتين متقابلتين لهما نفس التصميم ويحتويان على نفس الأثاث فستتذكر أنك شاهدت غرفتين متشابهتين بينما صديقك الاسترالي زار غرفتين مختلفتين. اللغة التي نتكلمها يمكن أن تؤثر حتى على ما نراه في الألوان. ففي اللغة الانجليزية، الفرق بين الأزرق والأخضر واضح وبين بينما يتلاشى هذا الفرق في لغات أخرى، هذا يؤدي بنا مع الوقت إما إلى تضخيم هذا الفرق أو حصره وندرب دماغنا على ذلك.
لسنوات، ادعينا أن لغتنا الأم زنزانة تحد من قدرتنا على التفكير العقلاني وثبت لنا العكس واستخلصنا أن جميع الناس بمختلف ثقافاتهم يفكرون بنفس الطريقة. لكن لا يجب أن نستهين بأهمية التفكير التجريدي في حياتنا. كيف نستهين بهذا والقرارات التي نتخذها يوميا بعقلانية وترو لا تفوق تلك التي تسوقها أحاسيسنا وحدسنا وانفعالاتنا وحتى المهارات التي اكتسبناها.
منذ الصغر، تشكل اللغة توجهاتنا وإقبالنا على العالم، تبلور ردود أفعالنا اتجاه الأشياء التي نصادفها. يمكن أن يكون لها أيضا تأثير على معتقداتنا، قيمنا وايديولوجيتنا. يمكن أن نفتقد القدرة على معرفة ما مدى مساهمتنا في الجفاء السياسي والثقافي بين الأمم. لكن، يجدر بنا على الأقل أن ندنو من بعضنا البعض لنحاول فهم اختلافاتنا على أن نستمر في التظاهر بأننا نفكر بنفس الطريقة.
*كي دوتشر عالم لغة وباحث فخري في جامعة مانشستر.
·هذا المقال مقتضب من كتابه الذي سيصدر هذا الشهر Through the Language Glass : Why the world looks different in other languages".
· تمت ترجمة هذا المقال من جريدة نيويورك تايمز الالكترونية وبتصرف نشر يوم 26 غشت 2010.

عندما تتحوّل الترجمة...

كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الإثنين، 15 نوفمبر، 2010

الروائي اللبناني جان سالمة

بيروت- جورج جحا
تعيد مجموعة الروائي اللبناني جان سالمة الشعرية المكتوبة بالفرنسية والتي ترجم عدد من الشعراء والادباء قصائدها الى العربية طرح أسئلة قديمة عن ترجمة الشعر وإلى أي مدى هي ممكنة دون أن تتحول الترجمة الى "اعادة خلق" قد تشبه الأصل أو تبتعد عنه.
وماذا إذا ترجم غير شاعر قصيدة ما الى اللغة العربية وجاءت الترجمات قليلة الشبه بعضها ببعض؟ هل يمكن اعتبار هذا الاختلاف عائدا الى قدرة شاعر ما على نقل ما قاله الشاعر الاساسي المترجم له ام نقول ان القصيدة الاساسية تحولت هي نفسها الى ما يشبه التجربة الشعورية اي الى موضوع شعري والذي يقوم بالترجمة في هذه الحال يتفاعل معها بطريقة مختلفة عن تفاعل مترجم اخر معها.
يجرنا هذا الى اسئلة منها اين هي في القصيدة المترجمة حصة الشاعر وحصة المترجم. نشعر احيانا كأن المترجم اخذ موضوعا هنا وعبر عنه من خلال تفاعله معه ومن خلال ثقافته وذوقه والثقافة والذوق يختلفان من شخص الى اخر.
نقرأ بعض قصائد سالمة بالفرنسية فتخلق في انفسنا اجواء معينة ولا نلبث ان نقرأ ترجمة معينة لها ويشعر البعض بان الترجمة الشعرية آتية من عالم مختلف ينقلنا بعضه الى عالم الكلاسيكية العربية ودويّها بينما كتب سالمة بهدوء وبما يشبه ما اطلق عليه الناقد المصري الراحل الدكتور محمد مندور تعبير "الشعر المهموس" في حديثه عن قصيدة "أخي" لميخائيل نعيمة.
اذن هل يمكن ان نلتقي الشاعر نفسه من خلال قصيدة مترجمة له؟
يبدو ان الجواب هو انه يمكن ان نلتقيه الى حدّ بعيد. وبعض الترجمات تحافظ احيانا لا على روحية القصيدة المترجمة بل على شكلها التعبيري او تاتي قريبة جدا منه.
وفي أي حال فأمامنا هنا عمل شعري بالفرنسية تحت عنوان " قصائد" كما ورد بالترجمة العربية وردت فيه 14 قصيدة.
وبلغ عدد الصفحات الفرنسية 117 صفحة متوسطة القطع والعربية 131 صفحة. الصفحات انيقة والغلاف أيضا وفي الكتاب رسوم فنية.
أجواء القصائد الفرنسية إجمالا هادئة خفيضة الصوت بنبض فيه بساطة وبوح وجداني أحيانا أما القافية حيث ترد والايقاع فمموسقان بقدر كبير من الهدوء.
نقرأ مطلع قصيدة "معا" التي ترجمها الى العربية الدكتور عصام حداد. يقول "الليل داج وكل ما حولي ساج/ إلا أنا وحدي تعبان سهران/ كأنما شدّت الى النيراـ عيناي/ كامد ولكني صامد كما لي في الاعاصير".
نلاحظ هنا بلاغة وفصاحة النص العربي ومتانته إلا أنه قد لا يذكرنا تماما نبضا وايقاعا بما كتبه سالمة بالفرنسية بقدر ما نتذكر خطبا قديمة من مثل "ليل داج وسماء ذات ابراج..."الخ.
الشاعر ريمون عازار في ترجمتة قصيدة "عشرة أعوام" كان اشد موسقة في الايقاع والقافية فيقول في بداية القصيدة واضعا القارىء في اجواء النص الاصلي "عشرة مرّت وجرحي ما اندمل/ عجبا من قال أحيا بعد اعصار جلل؟/ كل شيء ينتهي.. كل شيء ينطوي / وحده الحب.. فلا يطوى/ ويبقى في تلاوين الازل./
قصيدة "أحاج" نقلها الى العربية اثنان متعاونان هما أمين لطف الله وجوليا زيدان.
اسلوب المترجمين القريب من اجوء قصيدة النثر او "الشعر المنثور " على الاقل جعلا النص يتلاءم الى حد بعيد مع الاصل الفرنسي.
وننتقل الى اسم اخر من اسماء مقدري جان سالمة وهو الدكتور يوسف شريم في ترجمته قصيدة"أكاليل الغار". يأتي النص ربما سيرا مع الاصل الفرنسي شعرا كلاسيكيا خطابيا مدويا.
يقول "أنت لبنان كنت تغفو بماض ولديك التحولات الكبار مقصد الفاتحين أرضا ودنيا والاساطير والقنا والغبار".
وكذلك ترجمة الشاعر جورج شكور لقصيدة "أمس" التي تذكرنا بأجواء من قصيدة "وطن النجوم" لايليا أبي ماضي. ففي الترجمة التقاط لاجواء الحنين الى زمن أفل وأمكنة ابتلعها الزمن أو كاد.
والنص العربي شاكل الأصل إلى حد بعيد بل أعطاه أحيانا مزيدا من الموسيقى الحزينة خاصة حيث يقول "أنذا جئت أحييك يها الحي القديم/ حيث كنت الطفل طفل الشيطنات .../أترى تعرفني تذكرني تدرك سرك /أم تراها أحنت الايام ظهرك؟".
ولعل المثل الابرز على ما ورد في بداية الموضوع هو ترجمة شاعرين او اكثر لقصيدة واحدة كما في قصيدة "العصفور الدوري" نبدأ بترجمة الشاعر جورج شكور للقصيدة حيث يقول "صباحا أيها الدوريّ لم تنزاح عن دربي؟ اليّ اليّ تعرف ان ذاك الامس كاليوم ولا شيء سواك اليوم يعجبني ايا حبي فهيّ إليّ مقتربا بلا خوف ولا لوم..." إلى أن ينهي القصيدة قائلا "ستذهب باكرا آه لماذا سوف تتركني ترى ترجع؟ بي شكّ وهذا الشك يؤلمني ولكني برغم الشكّ منذ غد سأنتظر يها الدوريّ يا حبي أحبك لا كما البشر".
وننتقل الى ترجمة للقصيدة عينها قام بها جورج هيمو وفيها يقول "عم صباحا ايها الدوري اللطيف لم الهرب مني؟/اذن انت تعرف جيدا ان البارحة مثل اليوم/ لا شيء في الكون يعجبني بمقدار قربك مني// يا للروعة يا للسحر وخصوصا الرشاقة في الحركة... ابق قليلا يا صديقي لا تغادرني/ قل لي اين تذهب الحق بك عن كثب .../
وقد يبدو للقارىء بصرف النظر عن المعاني المشتركة ان هناك ثلاث قصائد بينها وجوه شبه مع شيء من الاختلاف في "الروحية".
اما قصيدة "نهر الايام المنسية" فلها أيضا ترجمتان عربيتان الاولى للشاعر الياس عطوي حيث قال "نهر الايام المنسية عد لي تنساب كأغنية يا حب صباي وخاتمتي بشروق جمال الابدية سافر .. فطريق الحب على شمم الابطال جنوبية...".
اما الترجمة الثانية فقام بها الدكتور احمد علبي وجعل عنوانها "جدول الايام المنسية" وفيها يقول "ايا جدول الماضي ياصبوة فتوتي/ واصل مجراك على ايقاع الحبور/ كان ذلك البارحة لم يكن سوانا/ كان ذلك الزمن الغابر السعيد او زمن الاعترافات".
مرة اخرى نشعر بان هناك ثلاث قصائد واحدة بالفرنسية واثنتان بالعربية وان بين الثلاث قدرا من الشبه دون شك لكن في كل منها "روح" ونبض مختلفان.
ونعود لنسأل هل يكتب مترجم القصيدة هذه القصيدة بالعربية أم انه ايضا يكتب نفسه فيها الى حد بعيد.
يشار الى ان قصيدة "مصرع النسر" التي ترجمها الشاعر ريمون قسيس ومطلعها "نسر الجبال القوي انتابه الهرم/ من قبل من اشهر واللين ينعدم" انما تذكر بموضوعها وحتى بعنوانها بقصيدة الشاعر الكبير الراحل عمر ابو ريشة "مصرع النسر" التي يروي فيها قصة هرم نسر وعجزه وانه قرر وللمرة الاخيرة ان يطير الى القمة حيث كان يعيش كي يموت هناك.
تطل علينا القصيدة بمطلعها الرائع اذ يقول "أصبح السفح ملعبا للنسور فاغضبي يا ذرى الجبال وثوري واطرحي الكبرياء شلوا مدمّى تحت اقدام دهرك السكّير..."."رويترز"

 

ليلى الأطرش تخوض جحيم الواقع العربي

كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الإثنين، 15 نوفمبر، 2010

ليلى الأطرش تخوض جحيم الواقع العربي

معن البياري
تذهب الأردنيّة ليلى الأطرش في روايتها الخامسة «رغبات... ذاك الخريف» إلى خيار في بناء العمل لم يحضر في رواياتها السابقة، (أولاها «وتشرق غرباً» 1988)، وليس ملحوظاً كثيراً في المدوّنة الروائية العربيّة. يقوم على تعدّد الأبطال وعوالمهم، لكلّ منهم قضاياه التي تغاير ما لدى غيرهم، ويتمّ السرد عن كلّ منهم، من دون أن تكون صلات بين كثيرين منهم، فتغيب الجوامع بينهم، ومن دون أن تكون روابط بين الحوادث والوقائع المتصلة بهم والمتحدّث عنها. هكذا يجد قارئ النصّ نفسه أمام عدد من الروايات، تلتقي نهاياتها في زمن واحد هو «ذاك الخريف» الذي يحضر في عنوان الرواية. وتوحي تلك النهايات بأنّها لرغبات الشخوص الرئيسيين في النص، الذين يتوزّعون في 320 صفحة، انشغلت بمسارات لأزمنة تحرّكت وأمكنة تنوّعت. وكذلك بمسارات أوجاع وخيبات وآمال وشهوات ورهانات وتطلعات، أحالت كلها، غالباً، إلى مدينة عمّان بتنويعاتها المكانيّة وبمكابدات ناسها وأهلها، والعابرين فيها والمرتحلين منها أيضاً. والبادي أنّ ليلى الأطرش صدرت في كتابتها روايتها، والتي نشرت ضمن أعمال «التفرغ الإبداعي» لدى وزارة الثقافة الأردنية (2010)، عن اعتبار الكتابة الروائيّة كتابة عن الحياة والواقع في تفاصيلهما المتنوّعة، أي عن النبض المتوتر في هذه التفاصيل التي تتعلق (بالضرورة؟) بأحاسيس الإنسان العربيّ وانفعالاته وانشغالاته اليومية والمصيرية، وكذلك بتصوراته في شؤون السياسة والمجتمع والعالم.
تتألف «رغبات... ذاك الخريف» من 25 فصلاً، يطغى المكان في عناوينها، منها: عمّان، مخيم الحسين، مقهى عبدون، إيوا، الكويت، بيروت، حي الياسمين، مركز البحث العلمي، باريس. وتتسمّى عناوين قليلة باسم شخصيات في الرواية، وتأخذ عناوين أخرى أسماء حالات شعورية ذاتية وجمعية، (صقيع الروح، جموح جسد). وعمّان، «العاصمة التي يدغدغ الفقر أطرافها»، مبتدأ السرد في أولى صفحات الرواية ومنتهاه في آخرها. أمّا الزمن الموضوعيّ الذي تحضر فيه شواغل شخصيات العمل فبين تموز (يوليو) 2002 إلى يوم التفجيرات التي استهدفت ثلاثة فنادق في عمّان في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005. وبالضبط من ساعة ذهاب الشاب غيث، ومعه والده (الاشتراكي) ووالدته إلى المطار، مغادراً عمان إلى أميركا للدراسة، إلى ساعة توزّع شخصيات في الرواية، ومنهم غيث، في تلك الفنادق، ليس في مصادفة أرادتها ليلى الأطرش، أو الراوي العليم الذي يهيمن في المساحات الأوسع في السرد، بل في مسار زمني مضى فيه القصّ إلى تحولات ومستجدات طرأت في شواغل هذه الشخوص ومآلاتها، وفي انتقالاتها بين أمكنة غير قليلة أخذتْها إلى خيارات في الحياة، حادّة أحياناً.
يتقطّع مسار ذلك الزمن ويتكسر في استرجاعات واستباقات وتداعيات واستذكارات، محكمة، ليصير ممكناً القول إنّ «رغبات... ذاك الخريف»، بنهايتها المفتوحة هذه، معنية بالإحالة إلى تحولات اجتماعية وسياسية في الأردن، وجواره إلى حدّ ما، طوال نحو ستين عاماً، منذ نكبة فلسطين وقبلها هجرة عشيرة الحسنات من الكرك إلى مأدبا ثم عمّان، في محكيات غالباً ما يتداخل فيها تنويع سرديّ، يتبدّى في التباس جماليّ وفنيّ رائق بين حكي الراوي وحكي الشخصية المرويّ عنها، ما ييسّر تعبيرها عن نفسها، مع الحضور الطاغي للأول في عموم العمل، إلى جانب إفادات من تقنيات الرسائل الإلكترونية.
تروح الانتقالات الزمنية في «رغبات... ذاك الخريف» إلى غزو الكويت، وإلى مقاومة الفلسطينيين ما قبل 1984، وخلافات اجتماعية بين وجهاء بينهم إبّان ذلك التاريخ. وتروح إلى حياة اجتماعية في الكويت في سنوات وجود الفلسطينيين الكثيف فيها، وإلى خلافات عوائل في مدينة الكرك الأردنية وتقاليدهم، وإلى وقائع أخرى متصلة بشخصيات الرواية، ومتصلة بالفضاء السياسيّ والتاريخيّ والاجتماعيّ العام. وفي واحدة من الانتقالات المكانية في الرواية، يذهب القارئ، بعد وجوده في خيام اللاجئين الفلسطينيين والطوابير أمام معونات وكالة الغوث، إلى إيوا في أميركا ومنازلها المتناسقة وأناقة أجوائها الهادئة، وحيث الامتداد الأخضر لحقول الذّرة. وفي زمن السرد عن الشخصيات وشواغلها يحضر جلاء إسرائيل عن قطاع غزة، وفوز حركة حماس في الانتخابات الفلسطينية، والحصار على العراق ثم الحرب عليه واحتلاله، واغتيال رفيق الحريري في لبنان، وحصار ياسر عرفات. وتضيء الإحالات إلى هذه الحوادث الظلال الزمنية العامّة للمستجدّات التي تطرأ على الشخصيات، من قبيل تحوّل الشاب أحمد الذي يقيم في مخيم الحسين في عمّان إلى متدين جداً، بعد توترات لديه، تعود إلى رغبته في الانعتاق من وضعه المعيشيّ إلى ما يماثل ما يراه في حي عبدون الراقي، وقد «ضاقت حياته حتى الاختناق «، بحسب الراوي، حتى إذا صار يعمل في أحد الفنادق التي حدث فيها واحد من الانفجارات كان قلقه يتعلق بمسألة تقديم المشروبات الروحية للزبائن، وكان قد سأل أمّه مرّة ما إذا كانت فلسطين «لن ترجع إلا إذا تمرمطْنا»، بعد محاولتها إقناعه بأنّ المخيم هو «إحنا الفلسطينيين».
تفجيرات وضحايا
التفجيرات التي كانت حدثاً مدوياً في الأردن هي الواقعة التي تختتم بها رواية ليلى الأطرش، حين يتواجد في الفنادق التي وقعت فيها أحمد، وكذلك غيث الذي كان ترك دراسته العلمية في إيوا في أميركا وصار يعمل في المقاولات، ويكون على موعد في فندق آخر مع موسى لاتمام صفقة معه، وكانا قد تعرّفا بعضهما الى بعض في المطار في طريق موسى إلى باريس. ويتواجد في فندق ثالث السوداني عثمان الذي من ذكاء الرواية وجود شخصيته فيها، وهو يقيم في عمّان، بعد أن أقنعته زوجته التي تحبّه بإجراء تخصيب صناعيّ فيها لينجبا، وهي المحرومة من الأطفال ومن المتعة بسبب ختان ظالم، يذهب إلى الفندق لموعد مع عراقي. وهناك اللبناني زياد البستاني الذي يحلّ في فندق ويكون في انتظار رجاء الطيراوي التي تعرّف عليها في بيروت، ويريد الزواج منها، وهي التي يكون والداها منفصليْن، وكانت حكايات جدّتها لها عن تاريخ العائلة في فلسطين ومقام الأسرة في الكويت طويلاً من المحطات الرائقة في الرواية، وهي «الجدة التي تتوهج ذاكرتها بالتفاصيل، وكأنها امرأة خلقت لتروي».
مع «المتناثرات الروائيّة» أو «المتواليات الحكائية» أو «المحكيات المتعددة»، في أمكنة وأزمنة ومشاهد متنوعة عن هؤلاء، ومع حديث الارتحالات والهجرات والعولمة والتحولات والمتغيرات السياسية والاجتماعية، ثمّة الحضور الغنيّ لشخصيات أخرى في الرواية ذات إشراقات خاصّة، لا سيّما الشخصيات النسوية، ومنها عمّة غيث التي يقضي عريسها يوم زواجها منه قبل خمسة عقود، وكانت اختارتْه على رغم معارضة أهلها ولأنه ليس من دينها، ما اضطرّ الأسرة إلى «الجلوة» من الكرك إلى مأدبا ثم إلى عمّان، وظلّ طيف العريس حاضراً في ذهنها على الرغم من مضي السنوات، ورأت صورته يوماً في عامل نظافة، تعطف عليه بالطعام وبعض النقود. ومن النساء في الرواية، محاسن الطيراوي التي اقترنت بزوجها على الضدّ من رغبة أهلها، لكنهما ينفصلان لاحقاً، بعد عيش طويل في الكويت وتفاصيل تتصّل بالغنى والثراء. وهناك ابنتها رجاء التي تعلمت في الجامعة الأميركية في القاهرة، وتتعرّف في بيروت إلى اللبناني زياد الذي ترغب في الزواج منه، على الرّغم من معارضة أسرتها. واللافت أنّ الشخصيات النسائية أكثر نجاحاً في تحقيق ذواتهن من الرجال، ما يتبدّى، إلى حدّ ما، لدى نوال المطلقة أخت أحمد في مخيم الحسين، ولدى هبة ابنة عم غيث في أميركا والتي تزوجته، وكذلك لدى رجاء وأمها محاسن الطيراوي. ويمكن حسبان عمة غيث كذلك، حين بدت مقتنعةً بتصالحها مع ذاتها، وقد «مرّت مخالب السنوات على وجهها وجسدها فلم تحفر إلا قليلاً».
تدل هذه الملاحظة على غزارة التفاصيل والحوادث في الرواية، وغنى الإحالات فيها، ما يتكشّف في اعتناء الرواية، في مواربة فنية، بصراعات الشخصيات مع رغباتهم الذاتية، المجهضة والمتحققة، ومع تطلعاتهم الفردية في بيئاتهم وأوساطهم الاجتماعية، في عمّان والكويت وأميركا مثلا. وفي وسع قارئ الرواية أن يقع على أنصبة كلّ شخصية في الرواية، بتنوّع محكياتها ومروياتها، من الانكسارات والنجاحات، فيعثر، مثلاً، على شغف محاسن الطيراوي، في لحظة اصطدام مع زوجها عند طلاقها منه، بحكاية ساحر في سريلانكا «يقرأ الغيب، وله قدرة على تقريب القلوب لا يملكها غيره»، سمعتها من خادمتها السريلانكية.
لم يغيّب حضور الراوي العليم في الرواية تظهير الشخصيات من دواخلها، في استبطان مشاعرها، وكذلك تعبير الشخصيات نفسها عما تتناهبها من توترات بشأن الحاضر والمستقبل، ما قد يحيل إلى توصيف للرواية عموماً بأنها كتابة عن القلق أساساً. ويشترك الراوي مع الشخصيات المروي عنها في توصيف الأمكنة والفضاءات، الواسعة والمغلقة، ومن ذلك ارتعاش غيث في شقـتّه الباردة في إيـوا بالوحـدة، وضـيق شـوارع الكويت شبه الخالية في منتصف الخمسينات.

مفاجآت «البوكر»

كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الإثنين، 15 نوفمبر، 2010

مفاجآت «البوكر»
عبده وازن

هل تشهد جائزة «البوكر» العربية سجالاً في دورتها الجديدة، على غرار ما حصل في الدورة السابقة، أم أنّ هذا السجال «المنتظَر» تمكّنت من حسمه مسبقاً الأسماء التي اختيرت في اللائحة الطويلة، وبعضها كان مرجّحاً فوزه؟ لم تخلُ هذه اللائحة، التي أعلنت أخيراً، من مفاجآت، سواء في تغييبها أسماء مهمة أو في إدراجها أسماء أقل أهمية. لكنّ «أمزجة» أعضاء لجنة التحكيم أو أحكامهم هي التي تملك السلطة في هذا الشأن، وهي القادرة على الحسم مهما اختلفت آراء الآخرين، نقّاداً وقرّاء، حول أعمال بعينها، قبولاً أو رفضاً. والجائزة هذه - مثل معظم الجوائز - وقفٌ على قرار اللجنة التحكيمية حتى وإنْ كانت ظالمة حيناً أو متساهلة حيناً آخر.
لا يمكن الكلام الآن عن «مؤامرة» حيكت ضدّ أسماء أو روايات معيّنة، يجب ربما انتظار اللائحة القصيرة، التي ستكون أشبه بـ «الامتحان» الذي ستخضع له اللجنة، فاللائحة الطويلة تضمّ روايات مهمة، ناهيك عن الاسماء التي تصعب غربلتها فعلاً، عبر إبقاء بعضها وإسقاط بعضها. لكنّ ثمة أسماء في اللائحة الطويلة يبدو أمرها محسوماً - سلباً -، في نظر اللجنة والقراء على السواء، وأعمالها الروائية التي اختيرت لم تكن في حجم أعمال استُبعدت، وكان استبعادها مفاجئاً وغير مبرَّر، إذا تمّ تجاوز «أمزجة» المحكّمين وخياراتهم. ومعروف أن بضع روايات كان تقدَّمَ بها أصحابها الى احدى الدور الراسخة في النشر الروائي ورفضت، ورفع بها «قراء» هذه الدار - وهم من النقاد الحصيفين - تقارير نقدية غير رحيمة. ولعل أصحاب هذه الروايات فوجئوا حتماً بهذا الفوز الذي ما كانوا يتوقّعونه. ومع أن ادارة الجائزة نجحت حتى الآن في ضبط سرّية لجنة التحكيم فلم يُذع سوى اسم أو اسمين، تكهّناً ومن قبيل الإشاعة، فقد أشيع أن واحداً أو اثنين من المحكّمين اتصلوا بأحد المرشحين وهنّأوه، لكنه صدم عندما لم يجد اسمه في اللائحة.
ليس من المستغرب ان ترافق جائزة البوكر، غداة البدء بإعلان اللوائح، حملةٌ من الإشاعات و «التخمينات» والظنون، فهذه الجائزة هي أهمّ جائزة تمنح في حقل الرواية. انها الوحيدة التي توفّر للفائز بها فرصة الخروج الى العالم، عبر الترجمات التي تحظى بها الروايات الفائزة حتى في اللائحة القصيرة. علاوة على حال «التكريس» والشهرة التي ينعم بها الفائز وخلال فترة وجيزة. ويجب عدم الاستهانة بالمبلغ المالي الذي يتقاضاه وإن بدا ضئيلاً حيال جوائز عربية أخرى.
شخصياً أعترف أنني فوجئت بحذف روايتين من اللائحة الطويلة كنت أتوقع ادراجهما فيها، وهذا رأي شخصي قد يخالفني فيه بعضهم أو بعضهن. فوجئت فعلاً بتغييب رواية سمر يزبك «لها مرايا» ورواية سامية عيسى «حليب التين»، فهاتان الروايتان، بنظري، كانتا تستحقان الفوز في اللائحة الطويلة، بل إن هذه اللائحة، بنظري أيضاً، تظل «ناقصة» من دونهما. رواية الكاتبة السورية سمر يزبك فريدة في لعبتها السردية الذكية والمتماسكة، وفي جوّها الملتبس والمضيء، وفي حفرها داخل الذات الجماعية والذات الفردية بغية إسقاط الأقنعة والوصول الى جوهر الكائن والجماعة. وقد نمّت هذه الرواية عن مراس هذه الروائية الشابة، مراسها الصعب، في السرد والتنقيب والبناء، هي التي خاضت سابقاً فن الرواية عبر أعمال حاضرة بشدّة.
أما الكاتبة الفلسطينية سامية عيسى، التي تطل في روايتها الأولى «حليب التين»، فهي بدت في حال من النضج السرديّ والرؤيوي. فروايتها تمثل تجربة غير مألوفة في الحركة الروائية الفلسطينية الحديثة، وقد حققت عبرها خطوة نحو أفق روائي جديد وغير معهود. لكن الرواية هي من الجرأة والقسوة والفضح حتى ليستحيل اختيارها «رسميّاً» أو تشريعها أدبياً واجتماعياً وسياسياً. قوّة هذه الرواية انما تكمن في تلك اللحظات الرهيبة التي يمتزج فيها الجنس في مفهومه الوجودي بـ «البراز» في دلالته الحيوانية... وهذا يحصل في قلب مخيّم فلسطيني يعاني أحوالاً شتى من البؤس: المادي والسياسي والاجتماعي والإنساني. أما الخيار الآخر، خيار الرحيل عن المخيّم، فليس أقل رحمة، إنه المنفى ببشاعته وصقيعه.
غير أن ما من رأي شخصي أو موقف أو إشاعة تقدر أن تقلّل من شأن جائزة «البـوكر»، فـهذه الجائزة أضحت قبلة الروائيين والنقاد والقراء، وبات موعد إعلانها أشبه بـ «اللحظة» المنتظَرة التي تفصل بين ما يسبقها من آمال واشاعـات ومـا يتبعها من وقائع. انـها جائزة أدبية بامتياز، بل كما ينبغي أن تكون الجائزة الحقيقية.
أما ما يمكن الوقوف عنده في اللائحة الطويلة هذه، فهو طغيان الأسماء الشابة والجديدة، وهذا يدل بوضوح على التحوّل الذي يشهده المعترك الروائي العربي الراهن. لكن ما ساعد على بروز هذا الطابع الشبابي هو إقدام روائيين ينتمون الى أجيال سابقة، مثل جيل السبعينات وما قبل، على إعلان رفضهم الترشح للجائزة، ومنهم على سبيل المثل: سحر خليفة، الياس خوري، محمد البساطي، حنان الشيخ ورضوى عاشور وسواهم... ولعلّ ما يمكن الالتفات اليه أيضاً هو ورود أسماء شابة مجهولة او شبه مجهولة روائياً في اللائحة الطويلة، وهذه فرصة ملائمة للتعرّف اليها، بعيداً من أضواء الإعلام والعلاقات. ومن الأسماء هذه: السعودي مقبول موسى العلوي واللبنانية فاتن المرّ.
هل ستكون خيارات لجنة التحكيم صائبة في اللائحة القصيرة أم أنها ستخضع لأمزجة المحكّمين الذين لا يزالون مجهولين حتى الآن؟

 

 

الروائي الجزائري ياسمينا خضرا لـ "المستقبل":

كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الإثنين، 15 نوفمبر، 2010

الروائي الجزائري ياسمينا خضرا لـ "المستقبل":

حاورته :كوليت مرشليان
استمر جزائرياً ومناضلاً من أجلها لكن لي خيار تحديد اللغة التي أكتب بها
زار الكاتب الجزائري ياسمينا خضرا بيروت للمرة الأولى وتزامنت إقامته في العاصمة اللبنانية مع أيام "صالون الكتاب الفرنكوفوني" الذي اختتم نشاطاته منذ فترة وجيزة. والمقابلات التي بدأ الصحافيون اجراءها مع معظم الروائيين والشعراء والمؤرخين في بهو "اوتيل بالم بيتش" وهم ضيوف المعرض، صارت موعداً سنوياً يحفل بالمفاجآت الجميلة والمشوقة حيث يترك هؤلاء انطباعاتهم الشخصية والخاصة جداً حيال المناخ الثقافي في البلاد ويتحدثون عن مؤلفاتهم الجديدة وقد يفصحون عن أسرارهم الصغيرة بخصوص موضوع رواية جديدة أو مشروع مستقبلي.
ياسمينا خضرا الذي التبس اسمه على معظم الصحافيين منذ منتصف الثمانينات في العالم العربي كما في باريس هو الاسم المستعار للكاتب محمد مولسهول المولود في الجزائر عام 1955 والذي قدم إلى الأدب بعد تجربة قاسية ومريرة في مواجهة الحروب والمعارك، إذ كانت مهنته الأولى أو حياته الأولى باللباس العسكري. فهو يكرر دائماً وفي معظم أحاديثه ولقاءاته الصحافية انه التحق بمدرسة عسكرية وكان فتياً تلبية لرغبة والده وسرعان ما تخرّج برتبة ضابط ملازم فانخرط في القوات العسكرية المسلحة حيث أمضى جزءاً كبيراً من حياته، غير انه بدأ الكتابة وهو "في اللباس العسكري" لذا راح يوقع باسم مستعار لأن كتاباته كانت مفخخة وصادمة ومن دون شك غير مقبولة من "رجل التزم المبادئ العسكرية الصارمة". وهو اعتزل الحياة العسكرية عام 2000 أي بعد 36 عاماً من الخدمة فيها. أما الكتب التي وقعها في تلك المرحلة فوصلت إلى نحو 14 كتاباً نذكر منها: "آمين" عام 1984، "حورية"، "بنت الجسر"، "من الناحية الأخرى للمدينة"، "القاهرة خلية الموت"، "معرض الاوباش"، "موريتوري"، "حزين الوهم"، "أبيض مزدوج"، "بماذا تحلم الذئاب؟" التي كانت آخر رواية تصدر لياسمينا قبل أن يقرر الإفصاح عن اسمه في عمل لاحق حمل عنوان "الكاتب" عام 2001، تبعه "دجّال الكلمات" بعد عام حاول فيه أن يبرر حياته ومسيرته الأدبية.
وقد حمل تصريحه حول حياته الشخصية المفاجآت للمثقفين والمعنيين في باريس، ولكن سرعان ما عرف شهرة عالمية بعد أن تُرجمت أعماله إلى عشرات اللغات وتباع في عدد كبير من دول العالم، خاصة تلك الأخيرة في السنوات القليلة الماضية: "سنونوات كابول" عام 2002، "حصة الموت" عام 2004، "صفارات انذار بغداد" عام 2006، و"فضل الليل على النهار" عام 2008. أما روايته "الاعتداء" فشكلت مفصلاً في حياته الأدبية، وحيث البعض اتهمها باللغة الأقرب إلى العنف، اعتبرها البعض الآخر ابداعية في توجهاتها وهي تتحدث عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في بُعد أدبي جعله "يهزّ أفكار الغربيين عن العالم العربي".
خضرا وقع "الاعتداء" إلى جانب "اولمب الخائبين" روايته الجديدة في "صالون الكتاب الفرنكوفوني" إلى جانب كل مجموعة كتبه لقرائه، وفي "اوتيل بالم بيتش" الذي احتشد بالكتّاب مطلع هذا الشهر التقيناه وأجرينا معه هذا الحديث:
[عندما اكتشفت الصحافة الفرنسية هويتك الأصلية وبعد تصريحك بأنك كنت عسكرياً في الجيش الجزائري شكّل الأمران صدمة تحوّلت فيما بعد إلى إيجابية معينة في اطار التشويق والشهرة: إلى أي حد ساهم الأمر سلباً أو إيجاباً برأيك في إطلاق أعمالك الأدبية؟
ـ لا أعتقد، بل حصل عكس ذلك، إذ لم يكن الأمر سهلاً على الاطلاق لأن الرفض جاء من قبل شريحة كبيرة من المثقفين وقد تم تأويل الموضوع بأساليب شتى، أما ما حصل معي فهو بكل بساطة انني كنت أحلم منذ صغري بأن أكون كاتباً وجاء حلم والدي معاكساً لما رغبت به وارادني ان اكون ضابطاً في الجيش ولمّا ابلغ العاشرة، بعد حين تم القرار بذلك، وبالفعل التحقت بعدها بقليل بمدرسة عسكرية ودخلت معترك الحياة السياسية المغايرة لما كنت أصبو إليه، فكان أن نفذت الأمرين معاً وعندها لم أجد ان العالمين على هذا القدر من التباعد أو التضارب فحصل انني أصبحت جندياً وكاتباً في آن.
الشخصية المزدوجة
[ولماذا لم يتم استيعاب شخصيتك الأدبية المزدوجة مع ان الفرنسيين يكنّون كل احترام وتقدير لكتّاب عسكريين أو على الأقل شاركوا في الحروب مثل الشاعر ابولينير أو الطيار العسكري سانت إكزوبري..؟
ـ هذا صحيح لكن الأمر كان مختلفاً معي، إذ انني كنت قد اخفيت شخصيتي الحقيقية ومن جهة ثانية أنا قدمت من ماضي الحرب الجزائرية والصراع مع الفرنسيين بعد استعمار طويل، فهذا لم يسهل الأمور على الاطلاق بل زادها تعميقاً. غير ان تعاطف القراء مع رواياتي جعل النقاد يعيدون النظر بها وليس سهلاً أن يستمر تهميشك في بلد وأنت قد أصبحت مقروءاً في ثلاثين عاصمة من حول العالم. في نهاية المطاف كان لا بد من الفصل ما بين المرحلة العسكرية التي عشتها كأي مهنة في العالم والأعمال الروائية التي أكتبها.
الفرنسيون يتعاطفون مع كتابهم العسكريين هذا صحيح، لا ننسى لاكلو الذي كتب "العلاقات الخطرة" أو انطوان دوسانت اكزوبري الذي ذكرت، فقد كان في الطيران الحربي الفرنسي، أما ابولينير، فهو مات حقاً خلال الحرب وكان مشاركاً كأي وطني في المعارك في الحرب العالمية الثانية لكنه لم يكن في الجيش، كان متطوعاً ليس أكثر، ولا أظن ان أي ناقد فرنسي يتعاطى مع أعمال اكزوبري أو كوديرلوس دولاكلو من وجهة نظر تطوعه العسكري بل عند هذا الحد قد يكتفي بإيجابيات الأمر كالتركيز على توسع افق الحلم عند اكزوبري لأنه طيار أو قصائد ابولينير الرائعة المصبوغة بالوطنية..
أنا أخذت وقتاً طويلاً لأعود وأتأقلم مع وجهة نظر الآخرين بي ثم بعد حين تغيرت نظرتهم لأن "روايتي" بشكل عام انطلقت وحدها ولم تنتظرهم، ثم لحقوا هم بها عندما أصبحت مترجمة ومقروءة في عشرات البلدان، وأقصد بكلمة "روايتي" أي معظم رواياتي وخاصة الأخيرة وما قبلها منذ الثلاثية في "سنونوات كابول" و"صفارات إنذار بغداد" وصولاً إلى "فضل الليل على النهار" وأخيراً "الاعتداء" التي أوقّعها اليوم في بيروت، هذا مع انني لست مرتبطاً بشبكات أو بمؤسسات داعمة أو مروّجة لأعمالي، وهذه النتيجة لم يقدمها لي أحد كهدية في فرنسا بل انا سعيت بنفسي إليها. وأحب ان اذكر لك انني ومنذ أكثر من عشرة أعوام، تتم تسميتي كواحد من بين لائحة "الكتاب الأوائل والمقروئين بقوة" في باريس وكل الذين يظهرون كل عام معي على اللائحة قد نالوا جائزة أو أكثر أما أنا فلا.
فرنسا والشهرة
[ لكن هذا لا يعني ان فرنسا لم تقدم لك الكثير، فكل الشهرة التي حصدتها والتقدم الذي أحرزته على صعيد انتشار رواياتك قد تم في فرنسا..
ـ صحيح، لست أحارَب ولكن أنا أتقدم وحدي ومن دون دعم، وأنا أفضّل ذلك لأنني شعرت ان الذي يجعلني أتقدم هو القارئ الفرنسي، وليست باريس بمعنى الذين يمسكون بخيوط اللعبة كلها.
[ لا يمكن التحدث إليك من دون التطرق إلى اسمك المستعار "ياسمينا" وهنا ليس السؤال فقط حول اصل الاسم ولماذا اعتماده، بل الاشارة أيضاً إلى أن العادة جرت عبر التاريخ ان تكتب المرأة باسم مستعار والأمر بدأ في أوروبا وبعدها في الدول العربية.
لماذا اسم "ياسمينا خضرا" بدلاً من محمد مولسهول؟ وهل يمكن ان تعود إلى التوقيع باسمك الأصلي، ألا تفتقده حين تريد أن توقع رواية جديدة؟
ـ في البداية، بدأت التوقيع باسم مستعار لأن كتاباتي لم تكن سهلة بمعنى انها مشاكسة وتتطرق إلى بعض الممنوعات وكنت ما زلت في الجيش، فاعتمدت اسم زوجتي مع تعديل بسيط. من ناحية ثانية، صحيح ان هذه العادة كانت متبعة من قبل النساء، لكن عند هذه النقطة بالذات، أظن انه من الجيد ان يعتمد رجل اسم امرأة وبذلك يشكل الأمر دعماً للنساء الكاتبات.
أما بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال، فأنا أظن بأني اعتدت ربط عالمي الروائي بهذا الاسم المعتمد منذ البداية ولا رغبة لديّ في تغييره على الاطلاق.
الحروب والسياسة
[ في رواياتك تتطرق كثيراً إلى السياسة والحروب والعنف والإرهاب وكل ما يطال العالم وبشكل خاص عالمنا العربي من مشاكل وحروب، لماذا تحوّلت إلى الرواية من مهنتك العسكرية وليس إلى السياسة بشكل مباشر؟ من ناحية ثانية، صرّحت أكثر من مرة ان الكتابة هي سلاح آخر وقادر على التغيير: إلى أي حد قد يغير الروائي أو المثقف بشكل عام واقعه أو واقع بلاده؟
ـ حين كتبت لم يكن الهدف هو التغيير على الاطلاق، كتبت لأن ثمة حاجة ملحة داخلي كانت مدفونة وتطلع من وقت إلى آخر وتؤنبني لإهمالي لها، ثم فجأة صارت هذه التنبيهات كثيفة إلى درجة انها طغت على كياني وشعرت بضرورة الكتابة وهي حلمي منذ الصغر الذي تحول حاجة. فيما بعد، حدثت الأمور الأخرى، أي ماذا سأكتب، وعن أي موضوع؟ وبشكل تلقائي أيضاً، كانت الشؤون السياسية في الجزائر وواقع البلاد من الهواجس التي تسكنني فكتبت عنها. وأيضاً، فيما بعد، حصل انني اكتشفت اثر الرواية في الواقع ولمست ان الكاتب يلعب دوراً من حوله إضافة إلى دوره الأدبي. أنا لم أخطط لأصل وكيف أصل وكل شيء حدث تلقائياً وعفوياً وخاصة تفاعل القراء مع أعمالي، وأظن ان العنصر الأساسي في كل ما أصفه ولم أتلفظه بعد هو الصدق: الصدق في كل ما نكتب والصدق في الأفكار والصدق في الكتابة بالتالي.
الجزائر
[ الجزائر حاضرة بقوة في أعمالك، كذلك كل العالم العربي، فلماذا تكتب بالفرنسية؟ هل كانت الفرنسية خياراً أم واقع حال بسبب استخدام الفرنسية في الجزائر بشكل واسع؟
ـ أنا أحببت هذه اللغة بكل بساطة، فقد تعلمتها وأحببتها ليس أكثر، فهذا الخيار لا علاقة له بانتماءاتي. فأنا أستمر جزائرياً ومحباً للجزائر ومناضلاً من أجلها ومع هذا لي الخيار بتحديد اللغة التي سأكتب بها، كان يمكن أن تكون الانكليزية أو غيرها.
فأنا يمكن ايضاً أن أكون جزائرياً وأتزوج من امرأة أجنبية وأبقى على كل قناعاتي وانتماءاتي، فأين الغرابة في ذلك؟ وثمة ما يتوافق مع هذه النظرية هي حين ننظر إلى كتبنا مترجمة إلى لغات عديدة، فهي تبقى على ما هي عليه في مضمونها وإن نقلنها إلى كل لغات العالم.
[ في كتابك ما قبل الأخير "فضل الليل على النهار" تحكي سيرة جزائري في مرحلة الانتداب الفرنسي، وقد كتب الكثير عن هذه المرحلة، ما الإضافة التي قدمتها في روايتك؟
ـ ليس من رسالة في الرواية، فأنا لا أحب ذلك على الاطلاق، إنما حاولت أن أكتب عن تلك المرحلة عبر وضع كل تفصيل مكانه لأرى على طريقتي كيف جرت الأمور، تاريخ الجزائر يسحرني وكلما بحثت فيه وجدت تفاصيل لم أكن أعرفها، بالطبع أنا تأثرت بكل من كتب عن تلك المرحلة وفي تلك المرحلة من جزائريين وفرنسيين نذكر كاتب ياسين، محمد ديب، كامو، جيد وغيرهم.. وأنا أردت أن أكتب رواية بناء على استنتاجات خاصة بي مدموجة بتأثيرات عميقة من أعمال هؤلاء الكتّاب.
[ ما تعليقك على ان هذه الرواية بالذات استحوذت على الاهتمام الأكبر في فرنسا؟
ـ بالفعل، هذا ما حصل، ولكن أحب أن أشير إلى أنني في روايتي لم أتهم ولم أتناول الموضوع من وجهة نظر واحدة، أنا حاولت أن أقول الحب بكل تمزقاته لكنه ينتهي إلى تسامح وتصالح.
قد نكون بحاجة سياسياً إلى فصول كثيرة لكي ننظر إلى هذه المسألة بشكل واضح وصريح ومباشر. واحتراماً إلى كل مَن يموت في الحروب، يجب علينا دائماً أن نضمد الجراح وألا نقلب أوجاعها إذا أردنا أن نفكر بالمستقبل بشكل إيجابي.
... وفلسطين
[ في "الاعتداء" تناولت موضوعاً عنيفاً وهو الحرب في فلسطين من خلال شخصية "انتحارية"، هل تظن ان الكتابة عن العنف قد تسعف المجتمعات في عملية تحصينها ضد العنف، أم انها قد تحرض عليه أكثر؟
ـ أظن ان العنف هو من أخطر ما يحصل في كافة المجتمعات اليوم، في "الاعتداء" بطلتي امرأة فلسطينية متزوجة من طبيب إسرائيلي كانت في البداية تعيش بسلام في محيطها إلى أن تقرر ذات يوم أن تفجّر نفسها في عملية انتحارية استهدفت مواطنين إسرائيليين، وكانت المفاجأة لزوجها حين عاين الجثث ان امرأته كانت من بينها. وهنا أعالج قضية الإرهاب والعنف من وجهة نظر فردية ونفسية وأحاول أن أترصّد مكونات العنف التي بدأت في مجتمعاتنا منذ منتصف القرن الماضي صعوداً حتى اليوم.
لقد صُنِّفت أعمالي على أنها تناولت في غالبيتها قضايا الحروب والعنف والإرهاب إلا أنني أحاول أن أترصد مكامن "الوحشية التي أصبحت من مكونات هذا العصر وفي كل مكان".
[ هل تخشى وقوع حروب جديدة في المنطقة؟ وهل تظن ان الحروب قد تؤدي إلى نتائج إيجابية وملموسة؟
ـ واقع الحياة اليومية الحالية لا يدل على ان جيل اليوم قد يتجاوب مع الحروب. أنا أنظر إلى أولادي وإلى أصدقائهم الشابات والشباب وأحاول أن أقرأ ما يصبون إليه في المستقبل. أجيال اليوم لم تعد أجيال حروب، نحن جيل الحرب ونحن صنعنا ما صنعناه من ويلات وأهوال. أظن أننا كنا أمثلة "رهيبة" لأبنائنا، وأنا أخجل من كل المتاهات التي دخلنا فيها في مجتمعاتنا حيث جعلنا الموت والعنف يسيطران على كل احتمال حب وسلام ولم نترك الأمل لنظرة إيجابية إلى الحياة.
أنا سعيد اليوم حين أنظر إلى الأجيال الصاعدة والشابة وأراهم يهتمون بأمور أخرى علمية وتكنولوجية وبيئية مصيرية حيث الإنسان إنسان مع كل انتماءاته وفي كل بقعة من الأرض.
الجيل الجديد يعرف الرحمة والتسامح والحب أكثر من جيلنا، أنا أقول لأولادي حين يموت آخر واحد من جيلنا، أطبقوا القبور وانسونا. لا نستحق أن تتذكرونا وتذكروا أفعالنا، نحن لم نفعل سوى الحرب والقتل والتمييز العنصري والديني والمناطقي، وهم ينظرون بثقة إلى المستقبل، إلى مستقبل الإنسان على الأرض بكل تجرّد.
[ أنت تقسو على نفسك وعلى جيلك قليلاً، ألا تظن، أم ان الحديث عن جيل قد يشمل كل شيء؟
ـ لم أكن قاسياً على الاطلاق. الوضع كان أسوأ من ذلك في القرن العشرين، وأنا أتعاطف اليوم بشدة مع جيل العلم والمعرفة والمحبة والسلام
المستقبل - الاثنين 15 تشرين الثاني 2010 - العدد 3832 - ثقافة و فنون - صفحة 20

 

 
 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free