http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  وطن من زجاج
 


 وطن من زجاج..




عبدالسلام فزازي

آه ما لهذا الزمان لا ينصف الناطق الصامت..؟ بالأمس القريب، يوم كنت طفلا صغيرا في أزقة مدينة وجدة، أقصد بالطبع مرحلة الستينات، كنا ننام ونفيق على هدير الطائرات الفرنسية وهي تخترق فضاءاتنا، تقتفي خطوات المجاهدين الجزائريين في عملياتهم الفدائية، وكان بيتنا الصغير جدا يأوي أسرا جزائرية
شأننا شأن كل الأسر الوجدية، لم تكن بالنسبة لنا غريبة بقدر ما كانت أقرب إلينا من حبل الوريد.. أتذكر عمي قويدر، وأخوه يحيى، وعمتي زهرة، وابنها بختي، وابنتهما التي كانت لا تفارقني لويزة.. كنا حقا أسرة واحدة.. أجل واحدة.. وكان حي لازاري الذي يشكل متراسا للمجاهدين أمثال بوخروبة/ أقصد الرئيس الراحل بومدين، والمنزل المتهرئ إلى حد الآن وفي نفس الحي للرئيس بوتفليقة، كان ينام بعين واحدة خشية المباغتة التي قد تأتي أو لا تأتي.. ترى هل البيت عينه انتزع منه إلى حد الآن لا قدر الله؟ لا طبعا؟ ما لهذا التاريخ ولى الأدبار ليصبح الجار أعتا عدو ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف، والرسول عليه السلام كاد أن يورثه إلى درجة أن القاعدة الفقهية تقول: الجار أحق بشفعة جاره..؟ لماذا تحول الحمل الوديع إلى نيرون زمانه فعتا ثم جفا ثم اقمطر يوم حصحص الحق؟ أحاول أن أستعيد الماضي القريب فتغتالني التفاصيل، وأحن إلى عمي قويدر ويحيى ولويزة.. لأحكي لهم قصة عبث الأقدار.. أجل عمتي زهرة، آه عمتي زهرة، تتذكرين إن كنت لا زلت على قيد الحياة يوم كنت تضمينني أنا الصغير إلى صدرك، وترددين على مسامع أمي عائشة التي غادرتنا إلى مثواها الأخير وأنت لم تفارقيها على الإطلاق..تتذكرين يوم كنت ترددين:« تعالى ابني عبد السلام لأضمك إلى صدري، ففيك حب مدينة تلمسان ووجدة..؟ بينما كانت تردد أمي نفس المقولة قائلة: تعالي حبيبتي لويزة يا حبا يفوق حب مدينة فاس ومكناس..؟ ماذا لو تسمعين عمتي زهرة نداء ابنك عبد السلام الذي لم يعد ذلك الطفل الصغير بعد أن غزا الشيب مفرقه، وتقاسمت تضاريس وجهه التجاعيد.. ما أعظم الحب القديم: وما الحب إلا للحبيب الأول؟ وما أتعس من تنكر للذاكرة وجعلت منه السياسة السياسوية أداة قتل ودمار للقيم والمبادئ، وكأن نفس الفضاءات، ونفس الأحاسيس، أتى عليها دهر من الزمن فدكها عن آخرها..
 أحاول ما استطعت إليه سبيلا أن أسترجع أبجدية ذلك الحب الزئبقي، لكن عبثا أحاول لأن ممحاة الحب في أيدي الجنرالات التي لا تعرف للحب معنى.. وأحاول عبر الذاكرة الموشومة أن أسترجع فضاءات حي لازاري، وحي كولوش، وفيلاج اشعوف، وواد الناشف،وظهر لمحلة، معية الوجوه التي غيبها النسيان، فلا أرى إلا قبسا من الذكريات يكفكف دموعي التي لا تسعفني.. ماذا عمي قويدر لو كنت أنت الحاكم بعد المحنة التي عاشتها المقاومة الجزائرية، والحال أنك لم تكن أبدا تشعر بالغربة في وجدة التي كانت للعدو الفرنسي بالمرصاد..؟ كنت أبدا تحلم بكسر الحدود بين جارين ظلا يتربصان بالعدو فلقناه دروسا في المقاومة، لأن المغرب الكبير كان عصيا على الأعداء، قويا بتحالفاته التي لم تكن وليدة السياسة السياسوية، بقدر ما كانت وليدة حب تاريخي قائم على الحب والدين والجوار، بل وكما كان يقول عمي قويدر على « النيف» رمزا للأنفة والكبرياء وهو الرصيد الذي لا يبلى.. أكيد أن من تنكر لهذا التاريخ من الجنرالات لا زال يتكلم بنفس القاموس، لكن في غياب المبادئ، واستحضار العنجهية التي لم تعد تخيف بعوضة..فلم يعد النيف نيفا، ولا الشوارب شواربا، ولا المطرق مطرقا / العصى..
ترى لا قدر الله لو غزا الاستعمار المغرب مرة أخرى، ما الذي سيفعله حكام الجزائر فينا؟ هل سيستقبلوننا بالورود كما استقبلناهم؟ هل سيمنحونا أسلحة مقاوميهم كما منحناهم إياها؟ وهل ستأوينا منازلهم كما آوتهم الأسر الوجدية بدون قيد ولا شرط؟ أينك عمي قويدر؟ أريد جوابك لا جواب من أنجبهم حزب بوتفليقة الذي أدار لنا ظهره ونجوم في السماء تنظر ولا تسعف..؟ أريد جواب عمتي زهرة التي اخترقت الحدود يومذاك وجعلت مدينتي تلمسان ووجدة في شخصي المتواضع فضاء واحدا وموحدا، كما جعلت أمي عائشة ابنتها لويزة يساوي حبها حب مدينة فاس ومكناس.. لعن الله السياسة والسياسيين والناس أجمعين.. تعالى عمي قويدر لترى من فعل هذا بجماجمنا يوم طرد بومدين /عفوا بوخروبة، المغاربة من وطنهم الجزائر وفرق بين المرء وأخيه، والأب وبنيه، والأم عما أرضعت، والصديق عن صديقه، ورفيقه، وشقيقه، ونسيبه، وليشرب التاريخ القديم /الجديد البحار..؟ تعالي عمتي زهرة لتري كيف تمرغ الحب في نفس الفضاءات،وكيف تحولت الاحلام الى كوابيس اتت على اليابس والأخضر، وتحول كل شيء وبقدرة قادر إلى حقد فرعوني كان وظل يحمل شعار « أنا ربكم الأعلى..»..تعالي لويزة لتندبي حظنا بحال لسانك الذي لا يفارقني يوم كنت تعضين على شفتيك الرائعين مرددة: « آبردي، بردي، واش راك ادير أخلا دارالشر..أنت راك صغير وماتنجمش لهذ الشي»، بربك هل يمكن أن نعلم الأنذال معنى الحب رغم أن في آذانهم وقرا..؟ هل نستطيع أن نقول لهم علانية: أين النيف؟ الستم كما يقول المثل: أسد علي وفي الحروب نعامة..؟ لماذا قطعوا الوصال بين الأحبة؟ ولماذا شردوا، وقتلوا، وعاثوا في الأرض فسادا بعد أن علمناهم ونحن صغارا أن الوطن ليس فندقا لهم يدخلونه ويخرجون منه متى يشاءون، بل الأوطان للوطنيين الذين لا يتنكرون للتاريخ، وما دام الحكام مغرمون بتبعية المستعمر فلنخاطبهم باللغة التي يتقنونها جيدا أما آن الأوان أن تؤمنوا بالمثل القائل: FAISANTL’AMOUR ET PAS LA GUERRE .. آه عمي قويدر عمتي زهرة، أختي لويزة.. لو تسمعونني أرثي زمنيا قملي الشكل..؟ آه أحبتي هناك، لو تساعدوني كما يقول درويش على ترديد :« لو أستطيع أعدت ترتيب الطبيعة، ها هنا صفصافة، وهناك قلبي...»؟.
من كان منا يتصور أن الحكاية ستمسي غضبا تتوارثه الأجيال المغتصبة.. وسيتحول كل شيء إلى طاحونة هواء تتلاعب بها الرياح شأنها شان أرجوحة ميناء قديم تهاوت سفنه كأعجاز نخل خاوية..؟ وكيف للمرء أن يصدق أن الأرض هي الأرض، والتاريخ هو التاريخ، لكن ورثة هولاكو أبوا إلا أن يجردوا الأجيال المتعاقبة من أشيائهم عنوة، ويدجنوا أفق انتظارهم، ويطمسوا ما تبقى من حب معلق بين السماء والأرض، يشبهون في ذلك نيرون حين اشتاق إلى قول الشعر، ولما لم يطاوعه البحث المضني عن المعاناة كي يحظر شيطان الشعر، فرأى أن يحرق روما أملا في المعاناة، فقال في آخر المطاف بيتان من الشعر بعد إحراقها عن آخرها.. الإحراق عندنا مع الأسف الشديد شمل التاريخ، والبشر، وصانعو الأمجاد، فبات عبد القادر الجزائري غريبا عن عبد الكريم الخطابي.. والمغربي مغرب عن الجزائري، والغرب اقرب إليهما من حبل الوريد، والكل يدور مع المصلحة وجودا وعدما.. الله يا زمن السياسات العربية الفاشلة.. الله يا لعنة أصبحت فردا في العشيرة.. الله يا من يرفعون الشعارات والخطوة إلى الوراء.. أنكون حقا خير امة أخرجت إلى الناس، والحال أننا لم نستطع أن نواري سوءاتنا في المحافل الدولية..؟ بربكم من نكون في زمن العولمة غير بيارق تحركها أيادي من يصنعون لنا تاريخا على المقاس..؟ هي الأشياء التي لا يمكن لأي كان أن يتولى أمورها، والحال أن من كتب عليه شيء عاشه، ولا مفر من القضاء الذي لا نستطيع بحال من الأحوال أن نعترض عليه..سياستنا قدر فرضع علينا مع الأسف الشديد جبابرة يفعلون بنا ما يؤمرون ولا يأتمرون إلا حين يشار إليهم من الخارج أن ابطشوا بأبنائكم تسلموا...
يتبع في حلقات..
الدكتور عبد السلام فزازي

 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free