مـامـاغولا
عبده حقي
زعموا .. وسمعنا كثيرا عن (ماماغولا) .. وأخيرا كذبت الحكايات وها هي (ماماغولا) على مشارف مدينتنا العتيقة .. قادمة تنوء ببطنها المندلق بثقل الأشلاء .. زاحفة بتوأدة إلى ساحة حارتنا كي تقتات حين تجوع على جثث الصبايا الراتعين في (راس الدرب) .. وهو(راس) في لغتنا العامية لأنه كان مركزتدبيرطيشنا وشيطناتنا.. كان عقلنا المدبر(CERVEAU) الذي يغيرويتراجع .. يكرويفر.. يركب ويفكك .. يحيي ويميت الإشاعات . هنا في (راس الدرب) كان الأطفال يلفقون أخبارهم الفنتاستيكية عن (ماماغولا) ويلغمونها بأحابيل أخيلة شيطانية لاتنذعن لسلطة العقل أووجاهة الصدق .
وزعموا أيضا أنها باتت مرابطة في الصابة المعتمة .. وأنها لاتجوع مثلما نجوع نحن بنوا آدم .. إنها دائما جائعة ولذلك فهي تلتهم كل ما يصادفها في الطريق ، كما أنها لاتكترث بما تلتهمه أكان فريسة آدمية أم حيوانا أم شجرة في خلاء .. هي (بيلدوزير) خرافي وكفى ...
وانزويت تلك الليلة وحدي بعيدا ، وحدي أفكرفي مشهد حتفي القريب .. هناك في الركن القصي باتت تتزاحم في مخيلتي صورالضحايا ، ورأيت جثتي ملقاة بينهم ... كنت أتصوروأتوقع أبشع حالات حتفي .. رأسي بين آلة فكيها المشرعتين .. رأسي المدبرلامحالة سيكون إحدى تفاحاتها اليانعة .. وبعد برهة سوف أحس برأسي قد ذابت مثل مصاصة (كوجاك) في مغارة فمها الواسع فيما ستبقى قدماي تركلان في الهواء ثم ستشلان بعد حين وهاقد إنتهت البيلدوزر(ماماغولا) مني أوبالأحرى إنتهت من وجبة آدمية أخرى ... إلتهمتني بالتمام والكمال إلى آخرمضغة في جسدي الصغير... وهاهي الآن قد أناخت بكلكلها لتلعق بقعة دمي على الأرض ، ولاشك أنها الآن تفعل بي مافعله أسلافها ديناصورات ماقبل التاريخ بأسلافنا البدائيين الغابرين في تخوم الجينالوجيا الإنسانية ...
وماهي إلادقائق مكثت خلالها كما قلت منزويا .. واجما وساهما في أبشع صورإلتهامي حتى إنفجرت نوبة صراخ هيستيري عارم بفناء الدار.. وألفيت جسدي فجأة يركض مع الراكضين بل ألفينا أنفسنا جميعا ومن دون إتفاق نعدوفي إتجاه واحد لم يكن سوى مخبأنا عادة في لعبة الغميضة من تحت السرير... ومع قفزتي الأولى في هذا الهرب الجماعي إلتفت ورائي فرأيت :
ــ ماذا رأيت ؟
ـ رأيت نهايتنا الكانيبالية .. نهايتنا جميعا متوثبة كالموت الرابض على العتبة ، شبح إمرأة تتكؤعلى منشارصقيل .. بقامتها المتكورة الملفوفة في لحاف الرعب الرمادي المخروم ولسانها الأحمرالقاني يتدلى على صدرها مثل طحال طويل .. وقلت في نفسي (هاقد حلت ساعة الحقيقة ) فأين المفر؟ وبدأ صراخنا وإستغاتاتنا تملؤالدارجلبة وأيقنت أنه قد وصل إلى أقصى الجيران في (راس الدرب) .. وكنت وكان الآخرون يترقبون لامحالة أدرعها المزغبة أن تتسلل من تحت السريرلتسحب أولى ضحاياها بيننا .. أن تسحبها من قدميها ثم تنهال عليها بالنهش والهرش والإفتراس والتمزيق .. تتلذذ بجسدها على مهل ثم تعود بعدها إلى سحب ضحيتها الثانية وهكذا أيقنت أن الدورلامحالة سيأتي علي في المرة الثانية إذا كان حظي قد رحمني في المجزرة الأولى .. فما الذي سيمنع (ماماغولا) من أن تنتقيني من بينهم وتجرجرني من قدمي إلى مائدتها ...
وطفقنا نترقب .. نترقب أن يحدث شيء ما من تحت السرير.. كأن تتسلل فجأة دراعها الأفعوانية أويصيت شخيرها المتوحش أويلفحنا لهيبها التنيني ... لكن لاشيء من كل هذا وغيره حدث .. وبقينا نترقب والمجزرة لم تحدث أوربما تأجلت بضربة حظ إلى حين .. ومرت دقائق أوفى وأكثرمما كنا نتوقع .. دقائق منحتنا الثقة بأن بيلدوزرالقدرقد غيرت عنا وجهتها خارج الدارإلى ضحايا أسوء حظا منا في الحارة .. هذا ما أحسست به وما أحس به الآخرون من دون شك .. وفي لحظة ما إعتراني مايشبه الإطمئنان وأوشكت أن أعتق أنفاسي المكتومة لتنفرج من جديد وتدفع بكلماتي الأولى إلى الحلقوم ( الحمد لله .. الحمد لله .. المجزرة لم تحدث ) لكن ما إن شرعت غبطة النجاة تختلج في أعماقي حتى سمعنا صرخة والدي في فناء الداروبخطى هرولته المقدامة ، المندفعة ثم بارتطام بابنا المتداعي بالحائط وكان هذا الإرتطام وبذلك الصريرالمتمزق المألوف يعني في عاداتنا اليومية أن أحدا ما قد خرج .. قلت في نفسي (لاشك أن أحدا ما قد خرج) .. وحدست أن الهدنة التي أعقبت صريرالباب ما هي إلا الصمت الذي يسبق العاصفة أوقد تعني أن الخطرقد ولى وأن المجزرة لم تحدث كما زعم الأطفال في (راس الدرب )..وطفقنا نخرج من خندقنا الواحد تلوالآخر.. وعاد كل منا إلى حيث ألف أن يعود أو يقعد .. وفجأة سمعنا مرة أخرى صريرالباب وكان هذا الصريرالثاني في عملة الباب إيذانا بأن الباب قد إنغلق وفجأة إنغلق بالفعل وبدا والدي يأتي عائدا بابتسامة ممهورة بلهاث وحنق وهويجرجر خلفه شغالة جيراننا (دادا) من أسمالها الرثة مثل أسيرة ثم إنفجرضاحكا وقال ...
ـــ هاهي (ماماغولا) اللعينة !!
وفي تلك اللحظة لم ندركيف إتفقنا من حيث لاندري على هيستيريا ضحك وقهقهات وحمدنا الله على أن المجزرة لم تحدث وأن (ماماغولا) اللعينة ليست إلابشرا مثلنا ...