التحديق الساهي في الفراغ
خالد ساحلي
سيحل علينا الضيوف هذه الليلة، أرجوك أمسك أعصابك، لا تقم بحماقات كما المعتاد، إني أقمت هذه السهرة للأصدقاء الذين لم ألتقي بهم من زمان، لن أسمح لك بإحراجي كما تفعل كل مرة، أرجو تفهم الأمر، بعد السهرة أفعل ما يحلو لك.
قالت زوجته محذرة ثم أضافت:
- أخفي ما تردده على أسماعي كل يوم، أرجوك لا تفسد ما خططت له أياما، إنها سهرتي هل تدرك هذا؟
كان يعقوب يستمع لوصايا زوجته نبية بيته و الحقيقة هو غارق في صور داخل ذاكرته، شعور القلق و الاضطراب، دلالة تقاطعات تفكيره و وقفاته مع ذاكرته المتسعة جدا.
كان منزويا، و في جلوسه بزاوية الأريكة الجلدية بنية اللون ناظرا في التلفاز الذي بالكاد يطفئه و هذا التسجيل الممل الذي يعيده عشرات المرات في اليوم صار عادة سيئة.
نادرا ما يخرج للتنزه وإن خرج فبصحبة زوجته مكثرة الإلحاح ، التي تدعوه لرؤية العالم كيف يتغير كما تقول له وكيف الحياة تستمر رغم كل شيء، وكيف هو أكبر من أن يهتم بشيء و يبكي عليه، لا شيء يستحق ذلك كما تقول له.
يعقوب يعرف جيدا أن هذه الكائنات الفانية التي يقابلها خلقت لها هذه الأشياء الفانية.
كانت زوجته ترغمه على الخروج وملاقاة الناس تقيدا بإرشادات طبيبه النفساني.
كانت زوجته تفوقه طولا، عليها سحنة جمال برّاقة الثنايا كزرافة تمشي بغنج، رشيقة بيضاء البشرة، زرقاء العينين، شعرها الأشقر إلى الكتفين، ظريفة مع جميع الناس كبيرهم و صغيرهم إلا معه.
محبوبة لدى العموم، سريعة الإجابة في كل شيء، مع الجيران و الأصدقاء و الزملاء في العمل ولكنها أيضا لقّاعة و نفجة في بعض الأحيان، سلطوية، شخصيتها بها هوس من القوة والسيطرة.
كان يعقوب يكره ملاقاة الناس و الاتصال بهم، لذلك بدّل البشر بهذه الأجهزة الإلكترونية، حتى زوجته صارت لا تثيره على الإطلاق، و كل ما هنالك عقد زواج على ورق و علاقة لا تتعدى تبادل بعض المسؤوليات و الواجبات الزوجية التي لابد منها.
فكرته أن غالبية الزوجات يحوّلن ما يحمل إليهن من خضر و فواكه و دقيق إلى شيء قابل للأكل أو تحويله إلى عجائن يخبأ بعد جفافه، هذا ما كان يربطه بزوجته التي تتفنن في تقديمها إلى الضيوف الذين لا ينقطعون عن زيارتها.
توصل في مشوار حياته إلى القناعة السخيفة التي لا تُخرج الزوجة عن مدار المباشرة والسطحية الهشة "المرأة تتحول سريعا إلى فنّانة و مقتنية حاجيات ومبذرة من طراز أول إذا ما وجدت ما تبذره و تنفقه على نفسها" هذا الذي كان يخبرها به.
لقد بحث يعقوب كثيرا عن زوجة قبل أن يلتقي "زهية" كان يؤمن بآيات القرآن و أسفار الإنجيل التي تمّجد الليل و لباسه، و الذكر و الأنثى المخلوقان الغريبان اللذان كتب عليهما التعارف والتزاوج، آمن بكثير من الطيبة بكلام الجوامع وحتى الكنائس حول الباءة و الزواج و المهور اليسيرة، الناس يتكلمون كثيرا و يتفننون، يشددون على ناس اليوم الجبناء المتهربين من الزواج، خوفا من المسؤولية المحتومة و اعوجاج كاهل صاحبها، ناس اليوم الأكثر انجذابا لحياة العزوبية جراء العلاقات المشبوهة، كل إدعاءات الطهارة لهذا الوسط مجرد تمثيل كما يقول دائما لنفسه.
رغم هذا آمن أيضا ببنات الأسر المحترمة، آمن في هذا العالم بوجود امرأة منفتحة تحترم عقل الرجل و تحب بقلبه.
وجد هذه المرأة التي أحبها و أحبته، احترمها و احترمته، كانت تعمل صحفية و ناشطة في المجتمع المدني، رشيقة القوام بصورة ملحوظة عيناها كبيرتان واضحتان و ذكيتان تومضان بجاذبية، وجهها يشيع نورا كملاك سماوي، حين تنظر في ثناياها تجدها تبتسم و الحقيقة خلقتها هكذا كأنها تحمل شيئا من فرح أزلي لا يخالطه شيء من كدر.
لقد فرق بينهما المكان، ذاك المكان القطعة من أحجية القدر حين يتحول إلى خريطة مقسّمة إلى نصفين، نصف ضائع في متاهات تحرسها المومياء، جند تحركه القوى الفاسدة، عبيد، حراس على هذا الشق من الكتاب أن يلتئم، فرقهما المكان، تفرقت قطع خريطة حبهما و الأحجية.
عرف "سارة" من سنين، تعلّق بها و لكم قالت له عبر الحدود مراراً:
- تحب كثيرا عقلي.
تحجم عن إتمام جملتها فيكملها نيابة عنها كجملة سحرية تشي بالمخبئ المكنون فيها:
- أحب عقلك و قلبك و كل ما فيك، أنت كائن نوراني طاهر.
فرقهما المكان و ظروفه و عادات القبيلة المتغلغلة من حقب الجاهلية في نفوس كلها موت، نفوس تعتقد أنها تدين بدين الحب و الإنسانية.
قالت له سارة ذات يوم بارد:
- أنت سيف برّاق جميل يحتاج إلى غمده ليستريح من مشوار حرب قاسية ظالمة، وحدك المتجنى عليه.
يقول لها:
- سيف يترقب، محمول على خوف، رموا غمده على حدود البعد ليظل في جحيم بعيد عن السكينة و السلم.
فرقهما المكان، فتفرق كله و فر بعضه، و وحده المكان مكّنه من معرفة أحاسيسه و وحده من منحه الاختلاف و الحقائق بلا كيفية، قد تكون الأمكنة متشابهة، كل الحكايا متشابهة، كل غايات الحياة قد تكون متشابهة ما يفرقها عن بعضها البعض كون هذا التشابه يقع خارج نقاط بعضه البعض. إحساساته الموجودة هنا تفتقدها هي هناك، و إحساساتها الهناك يفتقدها هنا، المكان فرّقهما و هو يحمل أشيائهما الجميلة لكنها مفقودة في الوقت نفسه، أشيئهما في المكان الحضور الغياب، تنفيها الحواس وتشهد بالغياب.
لقد سمع يعقوب كثيرا عن صفقات الزواج و الرواتب الشهرية و المكانة و الأملاك المتاحة والإرث الذي سيجنيه أحدهما، و أمور تعدت غرائب الجاحظ الذي كتب عنها في البخلاء، و أي غرابة في البخل أكثر من البخل في الحب.
لذلك أختصر حياة جديدة بمجرد ما صادفته زهية في طريقه، شجعه على ذلك كلام مأثور سمعه من شيخ مقعد كان يجلس إليه يعرفه كان معطوب حرب، كان يعرف ما يدور في رأس يعقوب، حرّضه على أن يصير مثل خلق الله فمهما كانت له عشر لغات فإنه سيصمت حين يتكلم القدر ...
كان الوقت يسير باتجاه الليل، كان بطيئا وكانت ضوضاء الطهي و الصحون وأصوات الملاعق تشكل سنفونية مزعجة تنبعث من المطبخ، لقد أقدمت زوجته زهية أختها عبير و صديقتها الحميمة هاجر لمساعدتها على تحضير العشاء و الحلوى وما لزم لهذه السهرة الاستثنائية.
حلّ الضيوف الواحد تلو الآخر، كانت تستقبلهم زهية مبتهجة، حفّتهم باستقبال منقطع النظير، لم يرى يعقوب هذه السعادة البادية على وجهها مذ تزوجها، تساءل في نفسه إن كانت قد أخفت كل هذا الابتهاج لأجل هذا اليوم.
كان يعقوب جالسا في الصالون و قد أرغمته زوجته على ارتداء البذلة الرصاصية و ربطة العنق العريضة الصفراء و التي على هيئة فراشة.
كانت تقّدم له ضيوفها وأصدقائها، بعضهم يعرفه فلطالما ترددوا على منزله وفيهم من يلتقي به لأول مرة؛ أحدهم طبيب جراح يعمل في العاصمة اصطحب زوجته معه و التي تعمل معه كممرضة، عرفها في المستشفى وتزوجها، هذا الطبيب الذي أخبرت زهية يعقوب عنه حين كان يدرس معها الطب كيف استطاعت هذه الممرضة اصطياده وكيف كان هو نذلا حين استغلها، وكيف الأمر تحول إلى إخضاع بعد علاقة مستترة فزواج خوفا من فضيحة الحمل.
أخبرته أيضا عن راقص الباليه الذي يبدو هزيلا كعود ثقاب، طويلا كصفصافة كان يرتدي لباسا ملتصقا بجلده، شبيها إلى حد ما بالبهلوان، حذاءه الأسود المدّبب في الأمام يلمع كمرآة انعكس عليها ضوء مصباح. أخبرته أنه صار مديرا لمعهد الباليه، و هذه السيدة السمينة التي إلى جنبه و التي تمسك بذراعه متباهية به هي زوجته الممثلة المملة المضحكة، قالت له زهية لطالما هذه البقرة أضحكت خلقا كثيرا من على الركح. و هذا الرجل الأنيق الذي تفوح منه رائحة عطر باريسي هو رجل الأعمال الذي كان صديق أسرتها، بعدها تزوج ابنة عمها الوحيدة و التي ورثت عن أبيها كل أملاكه، و كلمته عن بعض الضيوف الذين لم يكونوا شيئا مذكورا.
كان يعقوب يصافح هؤلاء و هم ينحنون له في احترام مصطنع، بلا شك يعرفون عنه الكثير.
كَمُل عدد المدعوين، كلام كثير و أخذ بالأحضان، ضحكات مرتفعة تطوق خصر السقف، واجترار للذكريات تلوكه الألسن. الماضي السعيد، تداعى الجميع إلى طاولة الأكل.
قال الطبيب الذي كانت زوجته لجانبه تحرك عينيها كدمية ميتة:
- الفضل موصول للسيدة زهية، لقد لمّت شملنا بعد سنين من غياب.
و قال رجل الباليه:
- الحق أن السيدة زهية معروفة من زمان بحسها الفني و مفاجآتها الكثيرة، بارعة هي دائما.
و قالت زوجته السمينة كبقرة سويسرية:
- إن أناملها تصنع النادر من الطعام، لقد تفوّقت حتى على سيدات الطهي المحترفات.
و قال رجل الأعمال و بدا ليعقوب أنه رجل أعمال فاشل:
- هذا ما كلمتك عنه يا صغيرتي، هذا الحس المرهف الذي تتميز به زهية و تفوقت به على كثيرات. قال ذلك لزوجته التي كانت تنظر إليه بإعجاب و فخر.
كانت زهية تستمع لهذا الإطراء منتفخة بداخلها، أحست بشيء من عظمة تستحقها وإن إعجابهم بها دليل تفوقها على نساء كثيرات لا يحسنّ حتى صنع حلوى المسكوتشو.
أنهى الجميع عشاءهم، انتفخت البطون كأنها حبلى، و أظهروا فرحا كونهم محظوظين لحضورهم السهرة الباهرة.
نقلت السيدات الأواني إلى المطبخ فتراكم بعضها فوق بعض داخل حوض الغسيل، بعدها حملن شيئا من الحلوى و المكسّرات و المحلّيات و أجتمع الضيوف مجددا على الأطباق الشهية و المشروبات المنعشة متبادلين الحكايا القديم منها و الجديد.
كان يعقوب يستمع دون أن ينبس ببنت شفة، و الواقع أن الضيوف هم الذين تجاهلوه غير مكترثين بحضوره، مانحين آذانهم لزهية كلما حدّثت أحدهم.
كان يعقوب يراقب نظرات الطبيب إلى زوجة رجل الباليه، تَصَنّعَ عدم انتباهه للممثلة السمينة كبقرة و هي تنظر إليه بإعجاب، و عيناها اللتان ترسلان رسائل صامتة و مشفرة، كان يراقب أيضا رجل الأعمال و هو يرمي إلى فمه حبة دواء زرقاء بدا له يعرفها إنه دواء الهلوسة يعطى للمجانين في المصحات الاستشفائية، لقد أكل منه كثيرا أياما مضت.
كان الجميع سعيدا، إلا يعقوب بدا تعيسا، لم يستطع مشاهدة التسجيل، تذّكر أين أخفت زهية الريموكنترول، ضغط على زر التلفاز بأصبعه، أرجع التسجيل إلى الخلف من خلال جهاز التحكم، أضاف في مستوى الصوت و بدأت المشاهدة: "... عمارات تتساقط، الناس يرمون بأنفسهم من الأعلى، تفجيرات و بعض أشلاء الجنود القتلى، صور نساء مكبلات فوق رؤوسهم رجال بجبب يطلقون الرصاص على رؤوسهم، بعض الأطفال حاملين السلاح و هاتفين بشعارات عنف، ثم يتخلل التسجيل فراغ..." تسجيل قاس مؤلم فظيع يعيده في اليوم عشرات المرات.
صمت رهيب خيّم على الوجوه الناظرة للشاشة، و في لحظة الصمت الرهيب سمع ضحكات متقطعة لزوجته زهية تنبعث من المطبخ، لما أحسّت بشيء ما قد حصل و سمعت صوت التسجيل خرجت من المطبخ يتبعها ظل رجل، نظرت في يعقوب و همّ الجميع بالانصراف مودّعين شاكرين، حملت هاتفها الخلوي:
- ألو ... لقد عاودته حالة الهلوسة، أرجوكم تعرفون العنوان.
-
لم يكن ليأبه لانزعاجها و انتقامها، و لا إلى هذه الدموع الكاذبة المنسابة و ما أكثر اليأس الذي بقى أثره في تلك الإشارة من التسجيل التي قيدها مصور بارع في حياته المبتورة وفي ذاك الفراغ من التسجيل.