http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  'اللاهوت' و 'الناسوت'
 
'اللاهوت' و 'الناسوت': تقارب الدنيوي والمُقدَّس في رواية 'يحيى' لسميحة خريس
معاذ بني عامر
2010-11-25

 
تقاطع رؤية سميحة خريس في روايتها 'يحيى' مع مقولة هيراقليطس: 'كُل شقاء الناس يأتي مِنْ أنهم لا يعيشون في العالَم، بل في عالمهم'، وبالتحديد في مقولتها 'وحدهُ لم يكن ينظر للمُحيطينَ به على أنَّهم مجانين، وبدورهم تمكنوا من كشفِ سريرته، وشاهدوا في عينيه كرامتهم'، لناحية خروجه من شرنقة عالمه الخاص الذي يرى العالَم من الداخل، إلى مجال فسيح يرى العالَم كما هو.
فيحيى عاشَ في العالَم، وليسَ في عالمه بما يتعلق بـِ 'ناسوته'، لذا أحبه الجميع وأحبَّ الجميع حتى وإن كانوا أعداءه، وأكثر ما تجلَّت إنسيته إذ تعي ذاتها من خلال العالَم الذي تعيش فيه في البيمارستان القميري فحتى المجانين فهموا عليه وفهم عليهم، لأنه خرج من قوقعة ذاته واندمج في العالَم.
وفي توليفة روائية تُقارب سميحة خريس بين 'ناسوت' يحيى إذ يعي العالَم كما هو، وبينَ 'لاهوته' إذ يغرق في بحرٍ إلهي ويعبُّ من مائه فيظمأ أبداً لذلك الشغف الإلهي.
فهو إذ يعي العالَم كما هو (تأكيد إنسيته) فإنهُ يدخل فيما يُشبه النشوة الصوفية وهو يضع في لحظاته الأخيرة على ما دفع حياته ثمناً له؛ معرفتهُ اللُدنيّة بأنهُ خالدٌ رغم موته وفنائه. وفيما يُشبه مشهداً درامياً حلاّجياً يلمح يحيى 'على الأرض التماعات أسقطها الضوء من شفرة السيف الذي يتلاعب به السيّاف، فتراقصت أمامه. تبسَّمَ مُتذكراً ولعه بلعبة الضوء والظل في طفولته، ثم فكَّرَ راضياً أنهُ في لحظاته الأخيرة، وأنَّ الروح سيف الله، والبدن المُكثف غمده، فكأنَّ اللعبة انكشفت له تماماً وغمرته بهجة المعرفة؛ فألْهتهُ عن وجلِ الموت'.
وإذ به يتبسَّم لجلاديه ولسان حاله يصرخ ضمناً في وجه قتلته :
أقتلوني يا ثقاتي *** إنَّ في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي *** وحياتي في مماتــي
وهو إذ يقف على حدِّ الحياة بانتظار موته الكبير فإنهُ يتأكد ناسوتياً ولاهوتياً، وعبر توليفة روائية تعمل سميحة خريس على (أسْطَرة) شخص منسي تاريخياً وشعبياً، فمن شذرات بسيطة في الكتب حول هذه الشخصية المنسية تُقيم عالَماً روائياً مُتكاملاً تُطلق عليه اسم (يحيى).
ولأنَّ اسمه يحيى فهي تبدأ وتنتهي بالنبي يحيى ضمناً، فالولد يحيى كان قد ولد لعيسى أبو بكر الطحان بعد أن هدَّهُ الزمن وأكل على ظهره وشرب، فكل أولاده الذكور يموتون وبقيت له بنت وحيدة اسمها مريم. ورغم ولادة أولاده الذكور في ظروف طبيعية إلا أنهم يموتون، أما يحيى المولود في ظروف غير طبيعية في العام 1575؛ عام الطاعون الذي ضرب الكرك، فإنهُ يعيش رغم الظروف الصعبة والقاسية، وفي المشهد الميلودرامي الأخير تستندُ أيضاً في رؤيتها الروائية على قصة ذبح نبي الله يحيى.
وهي بذلكَ تنحو منحى يُقارب الأدب الأسطوري، فالبطل يُولد في ظروف استثنائية ويبدأ رحلة وجوده استثنائياً؛ يبزّ أقرانه برؤى علوية يعجز عنها مكانه وزمانه. وفي طفولته يقولُ كلاماً كبيراً أو بحسب تعبيرات سميحة خريس ذاتها: 'يقول كلمات ينوء بها عمره ولا يفهمها من حوله'. فهي إذ تنحو منحى أسطورياً في تجسيد شخصية يحيى الكركي، يصيرُ كل شيء جائزاً، وما يحيى ذاكَ إلا كحلقةٍ في سلسلة طويلة من الأبطال الأسطوريين كـَ 'جلجامش' و' رامايانا' و 'عوليس'. وهنا يتأتى البُعد (الأرضي / السماوي) للروائي، لناحية أنهُ قادرٌ على تشكيل العالَم كيفما يُريد، وبالصيغة التي يراها مناسبة، بصرف النظر عن مدى انسجام هذه الرؤية مع مقتضيات العقل من عدمه. وفي رواية 'يحيى' أرى سميحة خريس وقد صارت مُهَيْكلة للعالَم كيفما تُريد، إذ هي تُقيم هذا وتُقعد ذاك، وبطريقة ذكية وجميلة تبني عالَم يحيى الكركي المنسي.
أُعاينُ عالَماً روائياً ثرَّاً وغزيراً يمتحُ من بئر ثقافية عميقة. وإذا كانَ الروائي أكثر وعياً واحتواءً لما أطلق عليه (رايت ميلز) بـِ 'الخيال السوسيولوجي'، فإنَّ سميحة خريس تُمارس فِتنتها الروائية كروائية تعي روح العصر فَتُسقط عليها كامل ثقافتها. فَمِنْ وصف جلجلول في الكرك إلى معاينة ما كانت عليه المحروسة مصر حتى بتفصيلاتها الصغيرة، ومن ثم الانتقال إلى الفيحاء دمشق ونقل صورة أمينة لما كانت عليه آنذاك، يحدثُ أن تتشابك الخيوط الملونة لرواية يحيى، وبيدين حانيتين وواعيتين تُعمل حبكاً فيها، فتصفُ الأفكار والأشياء والأشخاص، وتُقارب بين الأرض والسماء؛ الطين والروح. وتندغم السرديات الروائية لتُحاكي نماذج بعينها، فَمِنْ نموذج هوميروس في 'رحلة عوليس' في الأوديسة ساعة يتنقل يحيى بين الكرك ومصر ودمشق، إلى نموذج فالميكي في ملحمة 'الرامايانا' ساعة يتغلب الجمال على العقل. ومن نموذج دوستويفسكي في 'الأبله' إذ يُحبِّه الكُل حتى جلادوه وقتلته، إلى نموذج باتريك زوسكيند في 'العِطر' ساعة تتحدث عن مصنع شراب الورد في دمشق. ومن نموذج الحِجاج الفقهي الديني مع شيوخ الجامع الأموي إلى نموذج الشطح الصوفي ساعة تأخذه النشوة ويغتبط وهو داخل بستان الورود في دمشق. ونموذج البدء والقفلة، أعني ولادة (يحيى الكركي) وذبحه في نهاية المطاف تُحاكي ولادة وذبح النبي يحيى. وعلى طول طفولته يبقى نموذجه قريباً من نموذج النبي يحيى إذ يشي بما هو جليل، ومن بين شفتيه يدفق كلام عظيم.
هذا الثراء العظيم يصيرُ مطواعاً بين يدي سميحة خريس وهي تنسج خيوط كنزتها بيدين مرتجفتين كعادة من يكتبون أدباً ينحو منحى الأسطورة والملحمة، ففي نهاية المطاف نرى رواية مُحكمة البناء ؛ ثرية وثرَّة تُقارب بين (ناسوت) يحيى الكركي و (لاهوته) عبر بُنىً سردية مُتنامية، لتخلِقَ في نهاية المطاف أسطورته الشخصية وتدفع باتجاه تأكيدها وترسيخا في الوعي الجمعي.
وأنا هُنا بصدد أن أؤكد نقطة غاية في الأهمية، تفترضُ سؤالاً مبدئياً لسان حاله يقول: هل نقبل عقلياً ما ذهبت إليه سميحة خريس في روايتها الموسومة بـ (يحيى) لناحية (أسطرة) شخصية يحيى الكركي، وإخراجها من طي النسيان إلى حيز الوجود الملحمي؟.
بذاتِ الحُجَج التي قُبلَت بها ملحمة (الرامايانا) نقبل بـملحمة (يحيى الكركي)، وإنْ كُنتُ بالأساس أُفضِّلُ قراءتها قراءة جمالية وليست قراءة عقلية، للخروج من شرنقة الحِجاج المنطقي الذي يقبل هذا ويرفض هذا بناءً على أحكام عقلية مُسبقة، مع العلم بأنَّ العقل يتنامى بناءً للبُعدين الناسوتي واللاهوتي لدى يحيى الكركي. ولكني أعني بنية النص ككل، فقراءته قراءة جمالية تُضفي عليه بُعداً إشراقياً، وتؤسس لهُ مبدئياً في اللاوعي الجمعي، ليصيرَ أكثـر حياة في الضمائر، ليدرج بعد سنين عديدة على ألسن الناس وكأنهُ أساسٌ من بطل أسطوري جاوزَ الواقع واجترحَ المعجزات.
ففي حسابات العقل سيبقى كل شيء في إطار الوعي والمُعلن، أما في حسابات الجمال فالموضوع بالأساس يؤسس له على مستوى اللاوعي ليصيرَ أكثر فاعلية في المخيال الجمعي بعد فترة من الزمن. ورواية سميحة خريس تندرج في هذا الإطار لناحية توليفها لشخصية منسية، ودخولها معترك الحِجاج العقلي يعني ضمناً رفض طروحاتها أو جزء كبير منها، أما بقاؤها في إطار اللاوعي ؛ الإطار الجمالي، فيعني التأسيس الأسطوري على مستوى اللاوعي لشخصية سَيُتغنى بانجازاتها وأفعالها بعد حين.
وهي إذ تختار فإنها تُؤسس على مستوى اللاوعي لحالة مُستقبلية تفترض وجوداً أسطورياً لشخص منسي اسمه (يحيى الكركي)، بيدَ أنها تُقيم حوله هالة دنيوية ومقدسة، ناسوتية و لاهوتية على طول العمل الروائي ؛ لتغدو رؤاها حول يحيى الكركي أكثر إقناعاً وأكثر قابلية للعيش المُستقبلي في المخيال الجمعي.
كاتب من الأردن

 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free