http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  حميد سعيد في أعماله الكاملة
 
كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الثلاثاء، 23 نوفمبر، 2010
 
حميد سعيد في أعماله الكاملة
الخراب الذي فاجأ النص




 
 الشاعر: حميد سعيد
صدرت للشاعر العراقي حميد سعيد في بيروت أعماله الشعرية الكاملة، في مجلدين انيقين تتخلل قصائدهما رسوم مناسبة لكل قصيدة للفنان سومر الهنداوي. في البدء لا بد من القول ان عبارة "الأعمال الشعرية الكاملة" ليست مطابقة للواقع، فالشاعر ما زال شاباً مليئاً بالحياة والطموح ويعد بالكثير من الشعر والابداعات الأخرى، عدا ان الرجل قد أسس في بغدد "دار بيت الحكمة" وترأسها برتبة وزير والتي بدت انتاجات هذا البيت ومؤتمراته الثقافية أهم بكثير من وزارة الثقافة التي هي الأخرى موجودة في العراق. لكن المهم هنا أن إسناد "بيت الحكمة" لهذا الشاعر الكبير نوعاً من التكريم الرسمي، حيث بعد وظائف عديدة، الى جانب ترؤس اتحاد كتاب العراق، والاتحاد العام للكتاب العرب، الى رئاسة تحرير صحيفة الثورة ومن ثم الجمهورية، والمستشار في رئاسة الجمهورية، ومدير التأليف والترجمة في وزارة الثقافة الى ما هنالك من وظائف كبيرة قام بها الشاعر بنجاح. جاء "بيت الحكمة" تكريساً لدوره في الحركة الأدبية في العراق. وهذا يجعلنا نقول ان الشاعر لم يبلغ بعد الستين، فأمامه عمر آخر للكتابه والإبداع، ومن بينهما الشعر.. فالأحرى أن نقول أن المجلدين المذكورين جمعت فيهما ما نشر الشاعر من مجموعات منذ الستينات حتى اليوم، أي الأعمال الكاملة لمرحلة معينة تليها مرحلة جديدة.
عرفت الشاعر منذ السبعينات، ملتقياً به في بغداد ودمشق وبيروت ولندن وأمكنة أخرى. وظل في ذاكرتي هذا الشاعر المتواضع القريب الى القلب دون إدعاء
وقبل أيام دعته الدار الناشرة للأعمال الى بيروت ووقع على الأعمال في الميرديان الكومدور بحضور جمهور كبير جاء لتكريم الشاعر وفي الوقت نفسه للتعاطف مع مأساة العراق واستهدافه من أميركا منذ نحو اثني عشر عاماً وأكثر. ورتب للشاعر ورفاق له من بينهم الناقد ورئيس تحرير مجلة "الاقلام" ماجد السامرائي، زيارة للجنوب المحرر من الاحتلال الاسرائيلي.. وبالطبع انتبه الشاعر وبسعادة كبيرة، ان الناس ومحبي الشعر لم ينسوه وظل في الذاكرة الشاعر الذي رفض مغادرة العراق وهو في أزمته، وظل هناك يبدع ويعمل بنشاط وحب لوطنه ولأمته العربية
ضم المجلد الأول من الأعمال "شواطئ لم تعرف الدفء، لغة الأبراج الطينية، قراءة ثامنة، الأغاني الفجرية، حرائق الحضور". فيما ضم المجلد الثاني: طفولة الماء، مملكة عبد الله: (عبد الله المقاتل) (عبد الله المتأمل). ثم: باتجاه أفق واسع. فوضى في غير أوانها
وهذه المجموعات تعتبر بالنسبة لعمر الشاعر قليلة، مما يدل على أنه يتأنى كثيراً في كتابة القصيدة، وبقراءة عجلى، ينتبه القارئ الى هذا التطور الصاعد في تجربة الشاعر. ففي المجموعات الأولى نلمح تلك الرومانسية التي شغلت الشعراء في الستينات. ولكنها عند حميد سعيد تحصيل تجربة عميقة جداً. في الواقع لم ينسَق الشاعر الى البهرجة اللغوية التي سادت شعر تلك المرحلة. فهو اذ يسعى لكتابة قصيدة، يركّب فيها الشعر قبل اللغة، أي بصورة أوضح لا يستخدم اللغة تغطية للقصيدة بل على العكس تماماً يستخدم الشعر تغطية للغة، أي بمعنى ان الشاعر يكتب الشعر لا يكتب اللغة، وإنما اللغة وسيلة الى غاية الشعر
لم ينتبه النقاد الى هذه التجربة الفذة، وكل ما كتب عن حميد سعيد جاء بشكل أكاديمي دون الغوص في عمق المسألة الشعرية عنده، وهذا الكلام ينسحب أيضاً على المقدمة (الفذلكة) التي كتبتها الدكتورة بشرى موسى صالح، وهي محاولة مشكورة وإن لم تدخل الى أعماق القصيدة عند هذا الشاعر
يتفرد حميد سعيد عن رفاقه في العراق باستلهام نماذج من الحياة، ومن الناس، ومن الهمّ القومي للانسان العربي، بما يشبه الرؤية والنظر الى المستقبل بعين متفائلة مع إدانته القاسية للواقع العربي الرديء والمريب في آن
في القصائد الأولى ثمة خطابية لا ينجو منها أي شاعر في مطلع شبابه لكن خطابية حميد سعيد تجيء بنت لحظتها، في نفس الموقع الذي يعاني منه أي انسان عادي، فكيف بالشاعر: "دونكم وجهي المتأرجح شدوا عليه
بنواجذكم
أطفئوالسؤل في مقلتيه
لوثوا سمته البدوي رماداً وقاراً
ما تنفس ظلكم المر الا احتضاراً
فاغرسوا في سباخ أقاصيه
.. شوكاً.. صبارا"
لكن الشاعر يوماً بعد يوم يخفت عنده الضجيج الخارجي لينشأ في قصيدته ضجيجاً داخلياً، يمور في النفس، كما يمور الموج في البحر، أو العاصفة عندما تداهم الكون.
نجا حميد سعيد من الغموض غير المؤهل للمعرفة، واستطاع بلغته السهلة البسيطة، والعميقة في آن، ان يعبر أصدق تعبير عن الحالة الراهنة للانسان العربي، وبالتالي عن أعماق الشاعر الذي يرى ما لا يحبه يسود، فيما الأشياء الجميلة الحقيقية تمتهن وتلاك وتقتل في الليل والنهار.
إن أسلوب حميد سعيد في كتابة القصيدة لا يشبه أي أسلوب آخر لشاعر من جيله. وهنا تكمن أهميته. فهو يعزف عزفاً منفرداً، دون الانسياق في الجوقة المألوفة، وخصوصاُ في شعره الأخير، حيث ابتنى لنفسه عمارة شعرية خاصة به، تختلف عن المشهد الذي ساد مسرح الشعر في العراق والعالم العربي في أواخر السبعينات، وهو القائل: "كلهم شهدوا المشهد الأخير
إلاك
أنت الذي يتراءى له
غير ما يتراءى لصاحبه
والذي سيحاول ثانية ويحاول ثالثة.
ويحاول
أن الخراب الذي فاجأ النص.. ماكان في النص
ها أنت تبحث في ما تبقى من الوقت
عن مفردات تعيد بناء البداية
(...)
إن بين الفصول.. فواصل ساقطة
غير ان المياه الطليقة ترفع أغصان روحي اليها
وترسو على حلم
يتكرر"
فمن الحياة اليومية المزدحمة بالأحداث والهموم والمشاغل، يحاول الشاعر أن ينفرد في مكان ناء كي يعزف حزنه بطقوسه الصوفية الهادئة، كأن الشاعر في نهاية المطاف عرف أين هو المكان الذي يرسو فيه حاملاً معه أعلامه المنكسة، بعد خيبة طويلة وكبيرة ليس في الانسان وحسب، بل في الدول والأنظمة التي خانت وطنه، وطنه الذي بات يقاوم صليبه الا ان الشاعر يقف جنباً الى جنب هذا الجدار العالي الذي صار من الصعب اختراقه... وفي هذا السياق يبحث الشاعر عن حفله الخاص الذي لم يتح له ان يراه في الماضي. يريد، فيما تبقى له من الوقت، ان يعطي لنفسه شيئاً لم يحصل عليه: "قبل ان يسبقني صوتي الى الحفل
"وأدعو امرأة لم أرها يوماً
الى أن نبدأ النسيان.. نستدرجه
حتى إذا كنا معاً
تسألني من أنت
أو أسألها من أنت
فنختار لنا رسمين جديدين".
إن حميد سعيد، إسوة بكل شاعر له أحلامه. له ما يتمناه، ولكن كل ما يتمناه يصبح أضغاث أحلام فـ
"في الطريق
فارقته أصابعه وجفاه الصديق"
فإذا كانت الدكتورة صالح هي القائلة: "إن الشاعر استطاع تحويل تيمات الذات والموضوع، أو الذات والمحيط الى معاملات شعرية اذ لم تصبح التجارب خارج "مربع" القصيدة الا بمثابة خط توتر بدئي يدق إشارة البدء. واستطاعت قصيدة حميد سعيد ان ترسم حدود ثنائية ناضجة. في هذا الاطار بدت فيها غير عازمة على تمثيل ثوابت نصية تشي بالتزام الشاعر برواسمها وتقاليدها، بل على النقيض كانت قصيدته تمثل ردة فعل قوية ضد مظاهر الالتزام بعقد التعبير وقيوده وسجونه اللسانية، لتقع على جنح التضاد مع التزامه الواقعي والفكري، انها ثنائية ذات حدين متعارضين متجاوبين، في آن، إنبجست منهما رؤية الشاعر لقصيدته ثبات الموقف، وتحول التعبير. وظهرت فاعلية التحول الشعرية، وهي تتجلى بحرية واعية، تمتلك وعي الثبات حيث ينبغي الثبات. ووعي التجاوز حيث ينبغي فراغ القطع للنظام المألوف ضمن أبعاد جوهرانية تصلح لتغطية نتاجه الشعري كله". فإنني أقول ان حميد سعيد برع فعلاً في خلق تشكيل موسيقى خاص لقصيدته. وهو يكتب القصيدة الطويلة، التي لا تقع في أي تكرار، إنما يبنيها بناء سيمفونياً تلعب الأوتار والألحان دورها في كل جملة شعرية، كما في كل جملة موسيقية.
حميد سعيد شاعر ليس سهلاً، بالعكس تماماً، ان بساطته التي تتبدى على سطح القصيدة يدفنها عمق داخلي هو الصدى الأكبر للحن الموسيقي الذي تستدرجه قصيدته على نحو خلاق وبديع وآسر
هذه الاشكالية الجميلة، لم ينتبه اليها الشاعر، لأنها جاءت من سليقته الشعرية، الكامنة في عمق موهبته منذ طفولته، فمن لا يعرف حميد سعيد، وشاءت المصادفه ان يلتقي به سيقول في نفسه منذ الوهلة الأولى: هذا الرجل شاعر
ان للشعراء شكلهم الخارجي المميز، وهو هبة من الله لهؤلاء الذين يتبعهم الغاوون وفي كل واد يهيمون
المستقبل - الثلاثاء 23 تشرين الثاني 2010 - العدد S2212 - ثقافة و فنون - صفحة 12
 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free