http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  في بوح المحزون
 


في بوح المحـزون :

شجـن أم غيظ ؟
 



أحمد لمسيّـح
 
قبل البدء :
       1 –لا أدعي أن ما سأقوم به يدخل في حقل النقد ، بل هو مجرد همسٍ في أذن المتلقي ، كأني أشير إليه بفضاءٍ بطريقة بانورامية مستعجلة ، لا وجود للتفاصيل فيها، من أجل إيصال معلومة مرتدية بعض الانطباعات التي لا تخلو من ذاتية . إنها ترحيب بالقارئ وليست دليلا تحليليا بجهاز " السكانير النقدي " لوصف حالة المتن ، ولذلك سأعفي نفسي من استدعاء المرجعيات والأدوات الإجرائية ، كما سأتجنب كثرة الاستشهادات والإحالات .
       2 – وصلني من الصديق العزيز صالح رابح أضمومـة شعرية – على دفعتين – معبرا عن رغبته في أن أضع لها مقدمة ، وبقدر ما شعرت بغبطة واعتزاز مصدرها تشريفي بالتقديم ، بقدر ما أربكني الأمر ، فكيف لي أن أتجاسر وأخوض في حقل معرفتي غير عميقة ، فإذا كان الباحث أحمد قنشوبة يستعمل مصطلح : الشعر الغض : فإني أستأذنه في استعارته لأقول عن نفسي " إني قارئ غض " بالنسبة للشعر الشعبي في الجزائر والتي فتحت لي الرابطة الوطنية للأدب الشعبي جسور الاقتراب منه منذ ملتقى تيبازا .
        3 – الأضمومة الشعرية التي أتحدث عنها هـي " بوح المحزون تحت ظلال الملحون " وتضم 43 نصا من بينها 35 نصا مقرونة بإهداءات تارة لشخص أو أشخاص محددين أحياء أو أموات ، وتارة لفرد أو أفراد غير محددين ، وتارة لإنسان مفترض ، وأحيانا للأمة بأسرها، كما أن هذه الإهداءات تشمل المواطن البسيط والزعيم والقائد والحاكم ...إلخ .   ولن أتوقف عند هذه الإهداءات فوحدها تحتاج إلى قراءة متأنية ، ولكن العدد ملفت للانتباه ، وربما تسعف هذه الإهداءات في القبض على بعض مفاتيح الولوج إلى عوالم " بوح المحزون " .      
       4 – كل نصوص المتن تنتمي إلى الشعر الملحون – كما ينعت هذا التعبير الشعري الذي يقال أو يكتب باللغة الدارجة في الشقيقة الجزائر – والذي تتوارثه الأجيال بصيانة ووفاء .
     ولمقاربة هذه النصوص مجتمعة تتار قبل الشروع في قراءتها- مثنا وخطابا – أسئلة تشرع أبوابا ونوافذ ولا تغلقها ، وكلها يجمع بينها خيط ناظم هو: كيف يتم التعاطي مع هذه النصوص ؟
    - باعتبارها نصوصا لا يجمع بينها غير الذات المتلفظة – الشاعر – أم نصا معددا ؟
   - باعتبارها نصوصا ، من غير التفات لمسألة التنسيب والتجنيس، أم نصوصا تعلن انتماءها إلى الشعر الملحون ؟   
   - باعتبارها نصوصا تخضع للمختبر العام للشعر ، أم لها خصوصية في الإبداع تتطلب خصوصية في القراءة ؟    
أما مسألة التكوين والرسائل الطافية والثاوية في النصوص فمسلك منشود ، لكن تفاصيله ومنعرجاته وعلاماته " التعقيدات " التي تغني القراءة ولا تعرقلها .
       5 – وقد توقفت عند نص الشاعر :
الشاعـر شوفتـو ذ المغبـونــة وبالشاعـر هـاك مـن طبعــو
حساس يتحسس فالباينـة و المكنونة ومـر الدنيا ذايقـو مليـان الكاس
هموم الناس الكل عندو مخزونــة حايـر بهـا دايمن عنهـا هوداس
الخاطر شايش و الجوارح مشطونة        سحابو رعـد دايمن برقـو بقاص
ايْعدَّل فالمايلــة والمشيونـــة         يحط السيف ينتف الشيب من الراس
سيفو كلمة ظاهرة  كني ميزونـة         ومعدل على  سـرج الشعـر لباس
.....
الشاعـر بقصايـدو المحزونـة          يداوي الخاطــر اللي ماهو لاباس
قلب ارهيف والدواخل مشحونـة          صدرو لاهب داخلـو حامي لمواس
.....
الفضايـل غايتـو والمحسونـة          وزين الحاجة دايمـا عنها عسـاس
الشاعر موحال يرضى المغفونة           من بكري معروف قدروعنـد الناس
       هذا النص أعتبره مفتاحا ويتضمن تعاقد الشاعر مع المتلقي من خلال بسطه لتصوره لكينونة الشاعر من خلال رؤيته ورسالته ووجدانه وانشغالاته، وقيمته الاعتبارية عند الناس ، ومن خلاله دوره ووظيفته، والتحامه بقضايا الناس والتفاعل مع الأحداث واختيار نمط التعبير عنها، إن النص المشار إليه يضمر تصور صالح رابح للشاعر ، وهذا التصور بالطبع سيحاول ترجمته من خلال باقي النصوص .
       6 – وقد أثارتني ملاحظات صاحبتني بعد إعادة قراءة النصوص ، أحاول إجمالها في الآتي :
        - إقامة علاقة مباشرة مع المتلقي.
       - النفس الحكائي.  
       - النفس الحِكمي.
       - الوفاء.
       هذه المكونات حاضرة بقوة لافتة ومنغرسة في كل تفاصيل النصوص رغم تعدد المواضيع وتنوعها،وتتقاطع تجلياتها في مفاصل الأضمومة " بوح المحزون..." ولكنها تتوحد في بنية الانتصار للذاكرة والانحياز للتقاليد الأصيلة ، ومقاومة المحو والإقصاء، وسيتوضح الأمر من خلال متابعتنا – معا – لتجليات المكونات الأربع لهذه البنية :
     أولا : إقامة علاقة مباشرة مع المتلقي :
       حينما نتأمل عتبة العنوان العام وعناوين النصوص بداخله – باعتبارها العنوان عتبة – فإننا نجدها تسهل أفق انتظار المتلقي بطريقة عارية وشفافة ، من غير لبس، أو غموض،والعنوان المؤطر:" بوح المحزون تحت ظلال الملحون " ، ماذا يمنحنا وماذا يحجب عنا ؟      
       بـوح : تعني إخراج المكنون أو السر أو المعاناة ، وكل ما هو مخزون في داخل الذات ، بمعنى أنه سيخرج للعلن ويظهر بجلاء ووضوح ، وربما سيُكْشف ويُفْضَح ، ليعلم المتلقي ما كان مخبوءا أو مستترا عليه ، وربما تعني الإفصاح بإزالة اللبس أو الغموض . لكن ، لماذا " المحزون " وليس " الحزين " ؟ هل من أجل أن يكون السجع كاملا في العنوان  مثل العناوين في الكتب العتيقة ؟      
       وعليه ، فهل سيكون الشاعر قناة للرسالة ( المحزون ) أم سيكون مزيل غطاء عن مستور ؟ أم سيكون صوت ذات غير ذاته ؟
       في كل الأحوال إن الشاعر يتعاقد مع المتلقي على البوح بالكشف والفضح والجهر ، وبالاعتراف والإفصاح، وبالإماطة والإظهار. وبقدر ما يعني " البوح " من أنه رسالة، فإنه يعني الانتقال من حالة إلى حالة، ومن ذات إلى ذات أو ذوات، ومن مكان نفسي إلى أمكنة محتملة ( ذوات أخرى، أوراق، كتب، مطبعة، جرائد، مكتبات، حقائب، قاعات، مذياع، تلفزيون...إلخ، إذن ، سيتحرر من الانغلاق والانحباس لينطلق إلى فضاءات أخرى . وهذه إحدى تجليات " رحلة الكلام " .
       أما " تحت ظلال " فتعني من بين ما توحي به أن ما سيحدث سيكون خلال النهار ( البوح في واضحة النهار وليس تحت ستر الظلام ) ، لاحظوا الوضوح مرة أخرى . لكن هناك إيحاء آخر وهو أن هناك حرا ، والبوح ستقيه الظلال ، لكن أي حر ؟ ، حر الدفين في الوجدان  أم حر الفضاء الذي سيتم فيه البوح ؟ هل الحر صاعدا من الذات المتلفظة والحاضنة للحزن أم الحر المرتبص بالبوح ؟      
       لكن العزاء أن مصدر الظلال التي ستقي البـوح من الحر هو الشعر الملحون ، والذي يوفر الطمأنينة ( ربما ) للشاعر صالح .ولا يفوتني أن أشير إلى العنوان كان  من المتوقع  أن يكون كما يلي : بوح المخزون تحت ظلال الملحون
       وإذا انتقلنا إلى عناوين النصوص ( 43 ) فإننانجدها كالتالي : أطولها يتكون من خمس كلمات ( واحد فقط ) أما الذي يتكون من ثلاث كلمات بما فيها الضمائر(12) وأقصرها كلمة واحدة ( 09 ) والباقي كلمتان ، مما يدل على قصر العناوين .
 أما نوعية العناوين فتتوزع كالتالي : جملة إسمية (19 ) – إسم واحد فقط (09 ) – جملة فعلية ( 09 ، تتضمن 05 منها فعل أمر / طلب ) –النداء (05 ) – شبه جملة (01 ) ، مما يدل على هيمنة الأسلوب الخبري في العناوين، وكأن الشاعر يريد أن يعلن أنه سيقوم بسرد الأخبار والأحداث والمشاهدات. أو ليس البوح حكيا ؟ ألا يريد أن يقول لنا إنه شاهد متفاعل ؟ إلا أن العناوين توهمنا بالحيادية وعدم الانحياز، ولكن بطرح السؤال لماذا يعبر عن مواضيع هذه العناوين ؟ يتجلى الجواب بوجود موقف واختيار ووجدان ، فلنتأمل بعضها : كسر عودك- حبي مات - اللبسة زرقة – عثرة ليس إلاّ – دبنونة معيارها راه معاها – ماتت جدايا – يا صديـق – يا نصر الله – وصلت رسالة – خير الصحبة – فالرياشة – في أرجوحة الشقاء – فرج يا كريم – يا ويحك ...إلخ ...إلخ .
 أما إذا أحصينا القضايا التي تقترن بالعناوين فإننا سنجد التالي : الذاتي بما فيه رثاء أفراد العائلة (10 ) – التأملي الإنساني (10 ) – القومي (08 ) – الوطني (07 ) – المحلي (05 ) – الطبيعة في الوطن ( 02 ) – العالم الثالث (01 ) .
       وإذا قمنا بعملية حسابية تضم المحلي والوطني والقومي والعالم الثالث والحديث عن الوطن من خلال الطبيعة ، فإننا نجد المجموع هو ( 23 ) أي أكثر من النصف ، والباقي يتقاسمه مناصفة الذاتي والتأملي وهذا يعكس انشغال الشاعر صالح بالقضايا المشار إليها ليتأكد لدينا أن ضمير المتكلم الحاضر في النصوص هو لشاهد يريد أن ينقل وجدانه المتأثر فرحا أو ألما أو حماسا أو يأسا أو غضبا أمام ما رآه وسمعه وعاشه .
وإذا ما تجاوزنا عتبة العنوان / العناوين – والتي تهيئنا وتحفزنا على اقتحام النصوص، وربما تمارس علينا الغواية للقراءة  – فإننا نجد أن النصوص منشغلة في بنائها وتكوينها بالإلحاح على المباشرة والمخاطبة واستعمال الحديث اليومي ، والانخراط في الانشغالات اليومية للجماعة، وتناول المشترك، بحيث تريد الذات أن تقدم نفسها على أنها مرآة عاكسة لصورة المجتمع وكاشفة له في نفس الآن ، وتصبح عندئذ صدى للذات الجماعية ، أي تغييب اللبس مقرونا باغتيال الغموض ، من أجل إقامة علاقة مباشرة مع المتلقي ، وهذا الإصرار على هذه العلاقة مشدود إلى النفس الحكائي .
ثانيا : النفَس الحكائي :
       نجد هذا النفس منذ العنوان العام المؤطر للمجموعة الشعرية ، إلى عناوين النصوص ، فعنوان الأضمومة يعلن أن ما سيقال يطابق سرد ما هو مخزون. وأن النصوص سيروي لنا الشاعر فيها ( يبوح ) ما بداخله ، وحتى اختيار الظلال ، فكأنه سيقف أو يجلس جانب نخلة أو شجرة أو جدار أو .... ويتخذ في هذا الوضع شكل الراوي ( يحكي ، يبلغ، يخاطب، يعترف ...إلخ ) . بالإضافة إلى ما تتضمنه النصوص من حكي ومشاهدات ، وحضور أفعال الحكي بكثافة، وبشكل لافت عناصر السرد : الحكاية والأحداث – الشخصيات – المساعد والمعاكس – الحوار وخاصة الداخلي ( المونولوج ) – الزمان – المكان ... إلخ ، مع الإلحاح والتنبيه إلى أن السرد فن نثري ، وقد تتسلل عناصره - بعضها أو كلها – إلى القول الشعري ( بل هناك شعراء كتبوا سيرتهم أو البعض منها في شعرهم ) . فهل ما زال البعض منا أوفياء للشاعر القديم  الذي يحكي للمتلقي (الجماعة) ما حدث له وما شاهده وما سمعه وما أحزنه وما أعجبه ؟ أم أن الأجناس الإبداعية " تستضيف " بعضها ، و" تتهجَّن " بها ؟
       والشاعر صالح رابح يلقي ( يبوح ) على المتلقي كل ما عاناه وعاشه ضمن الجماعة أو ما تعيشه الجماعة من إيجابيات وسلبيات ، بحكي ( يصف الحالة ويشخصها ) يقوده إلى الخروج من هذه التجربة ( التي يبوح بها ) – وعلى غرار شعراء الأصالة – إلى الحكمة ( لا يكتفي بالتواصل والإخبار بل يتطلع إلى الإقناع والدعوة ) .
     ثالثا : النفَس الحكمي .
   مثل كل الشعراء الشعبيين السابقين فإن الشاعر صالح يقدم نفسه على أساس أنه
صوت للضمير ( الذي حركه ليبوح بالمخزون )، يناهض السلبي ويبشِّر للإيجابي ، إنه يرفض – يحاكم الفساد والظلم والطغيان والتخلف ، ويقاوم الجهل والخرافة واليأس والحـﭭرة . لكن هذا لا يتم إلا بخزان الذاكرة وتراكم التجارب وصولا إلى إشراقات تتحوّل إلى علامات في الطريق .      
       هكذا هو صالح رابح يتقدم نحو المتلقي بالنداء والجهر بمكابداته ومشاهداته ومعاناته، فيسرد عليه ، ثم يصل به إلى قناعة ( النصح – الحكمة ) ، وهذا دور بدأ يتخلى عنه الشعر ، وهو أن يقوم الشاعر بدور المرشد المصلح للتحريض على التغيير بالهتاف والمباشرة ، والتبشير بالفجر القادم بالحماس والتفاؤل، واليأس مما في " الآن " و "هنا " .
       وهنا يمتزج في ذات الشاعر السلف – المرجع المنتسب إلى الماضي بالواقع المعيش بسطحيته والمتحرك بسرعة وفي نفس الآن يضمر ميكانيزماته وأجِنَّة التاريخ فيه ، كما يمتزج تكوين الشاعر الثقافي والروحي بمخزونه المعرفي والنفسي والاجتماعي، ويمتزج الموضوع ( الخارجي ) بما ترسَّب في داخله وذاكرته من تجارب الحياة، وكل هذا يتقاطع مع الحضور الآسر بامتياز – بل والموجِّه أحيانا – للمتلقي . كل هذه العناصر تصبح شركاً يشل الشاعر إذا لم يتعامل معها باستقلالية وتحرر، والتعاطي معها باحتراس وحذر. فيصبح القول الشعري الذي يقدم نفسه متمردا ومناهضا كالفجل " أحمر من الخارج أبيض من الداخل " مثلما توجد في مجتمعاتنا ذات الخصاص الديمقراطي ظاهرة " الثوريين بعقلية محافظة " .   
       ولنعد إلى الصديق صالح في بوحه ، فيبدو لي أنه يحمل عبء هموم الأمة كاملة ، ويريد أن يصرخ بدون ترميز أو تلبيس ، بلغة شفافة لا غموض فيها، وبخطاب مباشر ، وبمقصديـة معلنة ، وذلك وفـاء لتعاقـده مع المتلقي في نـص " الشاعر "، ووفاء للأصول .
       رابعا : الوفــاء .
هناك انشداد في النصوص إلى العتاقة والوفاء لتمَظهراتها ، هناك صدى للأحداث والتفاعل معها بحماس، والتقاط المناسبات للتعبير عن موقف يلتزم به الشاعر، وتنتصب زاوية نظره منشغلة بالتخوف من ضياع قيم أصيلة – في نظره – أمام جبروت وغطرسة " الآخر " - الغامض والواضح معا - بالاعتداء والدوس على الكرامة ، وخيانـة الأمانة ، وإشاعة " قيـم غازيـة " مما يدفع الشاعر صالح إلى " التمسك النوسطالجي " بالتقاليد والدعوة إلى حمايتها وترسيخها ، وبالتبني ، وجعلها مرجعا يضيء الرؤية ...وتتطابق هذه " الرؤية للعالم " مع النسيج التعبيري والتشكيل الفني للكتابة في النصوص، من خلال الوفاء للذاكرة واستحضارها، بل والاحتماء بها – دفاعا عن الذات – ويبدو أن الشاعر " يمر بمحاذاة الحداثة " غير آبه أو منشغل بها ، بقدر خوفه من ضياع الجذور ، وامتلائه بحرارة اللحظة وحماسه ، ليقول كلمته في شأنها .ولنتأمل السجع الموجود في العنوان ، بالإضافة إلى التصريح بلفظة " الملحون " قصدا لتحديد النسب الفني لنصوصه و " تجنيسها " بالإضافة إلى هذا الافتتاح في نص " خير الصحبة " :
نبـدا بسـم الله خالقنـا فيها       يا مبـدع لكوان وفـق للصواب
اشرح لي صدري كلمة نلقيها       ويسّر لي أمري ذ المرة تطراب
جايب مني ذ الوجوه انوصيها      خيرا وجوه اليوم نسمع ذ الخطاب
   إنه على غرار طريقة الشيوخ السابقين، الذين يعلون من شأن القول الملحوني وتبيان صعوبة صنعته، واللجوء إلى الدعاء من أجل تيسير مهمتهم في القول بالإضافة إلى الإشارة إلى الجانب الخطابي المباشر ( الشفوي غالبا ) ، فهو يعوّل على أن يوفق ليرضي المتلقي ، ويكون عند حسن ظنه،وما أخطر هذه المراهنة فقد تعصف بإحدى طرفي المعادلة الفنية : غواية الفن وغواية المتلقي ، والشاعر يتأرجح بينهما، هل ينجذب كليا إلى ذائقة المتلقي وانتظاراته فيسقط أسيرا له ، وهذا يقصي أو على الأقل يهمل الفني لصالح الرسالة ؟ أم ينجذب كليا إلى الصنعة الفنية بتغييب كلي لاعتبار المتلقي العام ، وهذا الاختيار يُفْرط في تحويل النص إلى حقل تجارب في مختبر مغلق و " سري " للإبداع ؟ مع استحضار أن المتلقي ليس نمطا واحدا موحدا، والرؤية الفنية ليست واحدة ومطلقة، فكل شيء نسبي ومتحول، وهناك دائما امتدادات وإبدالات . ولنتأمل :
1 – افتتاحات النصوص مثل ما سأورد البعض منها فبالإضافة إلى المقطع السابق :
- في نص " في أرجوحة الشقاء "
بسمك يا إلاه يا صاحب الفضل           وفضلك ديما  العميم مـن زين أفعالك
رزاق الجامع السايـح والهامل            ومشـرد فقيــرطامع في أفضالـك
- في نص " هاذ الدنيا الفانية "
باسمك يا إلـه جاعل لكواكب            يا إله الشمس زينـة مبهاهـا     
يا جميل الصنع محكم أمركب             يا خالق لنفاس وأنت مبداهـا
       2 – خواتم النصوص ، مثل :           
هذا واش اكتب رابح صاحبهـا           طامع فالرحمن مجـري السحاب
يغفـر لـو ذنوبُو يَدُّو يرفعهـا           آصاحب لفضال والنجـم الثقاب
يا ربي يا كريـم منــي تقبلها          ووفق الجميــع إلى حسن ماب  
وصلي عالرسول ونسلم بهــا           محمد رسولنا ذكـرو طيــاب
- في نص " في أرجوحة الشقاء " :
ونذكر فالأخير طـه المبجـل            صـل يا سامع عنـو يرضاك
 - في نص " هاذ الدنيا الفاهنية "
قانع وشاكــر للـرب الواهـب         اللـه الرزاق هـو سواهــا
وذي صفة رابح زاهد ما يصخب         طامع فالإله فطين اخذاهــا
-       في نص " الربيع "
رابح طامع فيك يا حامي لطيار        الرحمة يا صاحب لفضل اكمالو
وشربة ياربي من يـد المختار        لا عطش لا حـر منها يصرولو
-       في نصص " فالرياشة "
أنا صالح يا الله بيـا تعلــم         اغفر لي يا خالق الأرض أوماها  
  
   عندما نتلقى هذه الافتتاحات والخواتم لكثير من نصوص " بوح المحزون " فإنها تحيلنا على طريقة تتبع أسلوب شيوخ الشعر الملحون كما حافظوا عليه وكرسوه، سواء في الاستجداء والتوسل في الافتتاح أو إعلان الختم وذكر إسم الناظم للقول .
   هذا يقودنا إلى الاقتناع بوفاء الشاعر صالح رابح في بوحه  حيث يتمسك بالوفاء للأصول والتقاليد وللشيوخ والشعراء السابقين والمعاصرين له ( يذكر أسماء بعضهم ) ، كما يخلص للوطن والمواطن ولقضايا الأمة والذاكرة والموروث من خلال اختيار فني راسخ في الوجدان الشعبي ( يطغى عليه التداول الشفوي وينقل من جيل إلى جيل )  . وباعتبار أن المتلقي هم عموم الناس، فقد كان الوفاء من صالح للماضي شكلا ومضمونا ، بناء ورؤية .
 
كالخاتمـة :
  
       أذكر بأني لم أقم بقراءة نقدية لنصوص " بوح المحزون تحت ظلال الشعر الملحون " للصديق صالح رابح ، بل هو تحية محبة مـن صديق لصديق، فمـا " اقترفته " هو دعوة لقراءة هذه النصوص التي ينخرط صاحبها في رهان الانتساب إلى أعلام الشعر الملحون الجـدد. فهـل انتزع الاعتراف و" أجازه " شيوخ الملحون وأهل الحرفة الراسخون في النظم، قبل وبعد القراء والجمهور ؟
   ستجدون الجواب في قراءة النصوص، وستكتشفون شاعرا شعبيا ينحت اسمه بإصرار وصبر وتواضع في نفس الآن .
 
  أحمد لمسيّح
الرباط في 23 شتنبر 2008                     
 
   
      
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free