http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  سبت يا ثلاثاء
 

قراءة في رواية " سبت يا ثلاثاء* 
للروائي العراقي زيد الشهيد
نجم عبد الله الجابري

"سبت يا ثلاثاء" جرح لا يكتفي بفوضاه، يذكرنا بعهرنا الإنساني السرمدي. هي أفكار وحوارات كحشود الرمل مخضبة بهوامش السؤال وانشداد الدهشة تفضي لشساعات الرؤى المتجولة التي توقفها الحيطان المتمترسة خلف جادات الذهول باحثة عن خيط أو أكثر للأمل كي تنجو بما لديك من تصور أو صورة لأفكار مبتورة تسعى لإيقاف انشطار الاحتمال وتغلق أو تفجر فقاقيع تؤرخ الجنون الذي يتبع الصبر. "سبت يا ثلاثاء" حشد لغوي ككرة صلدة يرسم أوجاعاً تفتح كل التضاريس. تبحث بل تشرح حال أمة ليست من عاد أو ثمود، بل أمة يائسة لا تخفي هوساً مجانياً أوصد الكثير من أبواب الاستشراف رغم كل التحدي الذي تبديه تلك الأنفاس الساخنة على امتداد جسد الرواية الراسمة للتأوّه لتنال البقاء ولو بعالمٍ آخر قد يكون محض افتراء أو احتمال، وبلغة تخرق همود السائد عبر قرون من الجماد اللغوي والهذر الممل. وظنّي أن الباحثة كلاديس مطر التي قدّمت للرواية برؤية خارجة عن مألوف القراءة العادية كانت محقة في توصيف لغة الروائي بالمقعرة فهي تخلق حالة من الشعور بالعبث اللغوي والتجريد غير المعهود. لا أدري إن كانت حوارات صانع الخطاب الدائرية تجعل المتلقي يتفهم تلك الصرخات المنهكة في زحام الغموض واللغة الكاسرة أم أنها ستثير فيه قلقه السرمدي فتجعله كربوميثيوس وهو يدفع بصخرة الانتماء نحو السفح فترجعه مدحوراً إلى الهاوية؟ فإذا كانت نجاة بطلة هذه البانوراما الروائية قد وجدت أن عليها بعد كل المخاض المهول الذي مرّت به وتراكم الأشياء المحيطة الخروج نحو هوة العدم؛ فأي خروج هذا؟!! إنه اشتياق للتراكم بل النكوص أو الأمنيات المقلوبة، تلك التي عجزت في النهاية عن الإيتاء بها مكبلة بطقوس الفرح الذي غادر الديار إنْ لم يكن قد ولِد فيها أصلاً فصارت - نجاة - تبحث عن الحياة في الحياة الأخرى التي رسمتها في تلك الطفولة السابحة بأمواه السعادة والحبور مع أبٍ حنون كخيمة وارفة وأم تحتضنها وتضمها إلى جوانحها، فتقدمت تغفو بوسادة الشواطئ ومصاحبة مخلوقات الأعماق في النهر الذي عايشت وإياه الذكريات الطويلة، تاركةً للوليد - المسخ - الصراخ حتى تقوم قيامة الأشياء. ولقد قادتنا الرواية إلى أقصى مناحي الانسكاب فكانت انسياباً عابثاً بكل الانتماء إلى السؤال الذي بدأ يتكرر في ظلال الصدور، أو تحركاً دافقاً في طوايا القلوب معرجاً على الحقب البائدة ليطرح سؤالاً آخر عن عيشٍ آخر يركن هذا الحريق لتمضي رواية الشهيد مثيرةً في الخاتمة تلك الدفعات الوخيمة من الامتعاض الذي استوطن النفوس أكثر من ثلاثين عاماً من الانتظار دون اختصار للَّحظات الدامية. يدفعني عنوان الرواية إلى العودة إلى الأمثال والحكايات الشعبية التي تعطي لهذين اليومين بعداً ميثولوجياً. والدخول في دروب هذا العمل اعتقده سيصيب الكثير من المتلقين بنوبات من التقهقر حين يبدأ بسبر أغوار هذا العمل الروائي المثير؛ حيث سيخاطبهم شعور بنسيان التواريخ: يومه أو شهره أو سنته أو حتى ساعته لأنه وبصراحة ينقلك لأجواء البلاد وبشكل تفجري يغتال انسيابية الحدث طيلة التحرك على أرضية الخطاب. ويمكن القول أن أحداث الرواية أقرب إلى حوارات مرعبة وكلمات ثقيلة ستدور في رأس القارئ وهو مأسور بالاحتفاظ بجلده ورغبته في الوصول إلى غاية الفضول؛ فزيد الشهيد يحملك عناء التشنج الذي يولده التأمل. وهذا بحد ذاته سكوناً محفوفاً بالانفجار. ولا أدري كيف استطاع الشهيد دفع كل هذه المفردات الشرسة وأسكنها هواجس في ضمير القارئ حتى تنجلي الغبرة ويعرف هذا القارئ لماذا جاءت "سبت يا ثلاثاء". إنني أتخيل ذاتي وأنا أنبش في هياكل عظمية تنبعث منها رائحة العظام النخرة تارة، وتارة لا أعرف حتى قياس الزمن أو حتى أن أمسك ورقةً وقلماً وأدوّن رأياً متواضعاً في مضمار مغلق تحسب أن المؤلف أقحمك في شطحات جدلية بحكم فرضية طبيعة الحوار المفتوح؛ لكنك سرعان ما تدرك أن الروائي يلطخ يدك بدماء المفجوعين بكل بقاع المعمورة. بلاغة النص تدفعك لحالة يقين مريب واضطرار لاستخدام قاموس يفسر لك طلسم النص لكنك حين تكمل العبارات المتدافعة تعلم أن ما أتاك به الشهيد مفهوماً، لكنك كالأخرس لا تستطيع أن تقول ماهيته. ثم لا تدري كيف المآل بعد سطر واحد أو مشهد إن جاز الوصف. صحيح أن الروائي وثَّقَ تداعيات الحصار والحرب التي ظنَّ الناس أن التاريخ قد غفل عنها لكنه أيضاَ وثَّقَ جانباً إنسانياً كبيراً من معاناة أمة لم تكن مسترخية؛ فهو لم يكن بعيداً عن هموم أمته ووطنه، أو أنه كتبها وهو مهاجر من هذا الرعب بل لأن ما حدث كان أكثر هولاً بحيث لا يمكن لكاتب مثل زيد الشهيد المأسور بحب وطنه إلا أن يأتي بكل ما أتى به في هذا العمل الروائي المثير. إن "سبت يا ثلاثاء" كخطاب روائي تمتلك توجهاً قوياً في مخاطبة المتلقي منذ الوهلة الأولى للقراءة حتى يفتضح أمر الكلمات بنهاية المطاف. والمتلقي سيضطر وهو يقرأ هذا الخطاب إلى قراءته مرة أخرى وأخرى؛ لأنّه ليس خطاباً تقليدياً يكفي للقارئ أن يقرأ الصفحات الأولى ثم ينتقل إلى الصفحات الأخيرة ليكون على بينة من فهمه كما يفعل الكثير من القراء في مطالعتهم السريعة للرواية التقليدية. في انتقالاتك على صفحات الرواية تكتشف أنك تسبح في غمار مقطوعات شعرية تخلد معاناة ميئوس من انفراجها لفتاة وجدت نفسها وحيدة في ظل ظروف حصار طال فجعل الناس تنشغل بحياتها اليومية التفصيلية غير مبالية بما يحدث للغير إذ ضعفت العلاقات الاجتماعية وبات الفرد يفكر بنفسه؛ أي أن الأنانية هي التي تسيدت المشهد الحياتي اليومي. وهذه إحدى محن نجاة التي عاشتها وسط غياب والديها ونكران أخيها وانشغاله بحياته الزوجية في العاصمة بعيداً عنها، وأنانية أختها التي راحت تبحث عن زوج للتخلص من واقعها الوحيد المقفر ثم سقوطها في حبائل عريان الذي انتهك حرمتها. إن تجربة الروائي الطويلة في الكتابة السردية جعلته يتأنى في كتابة عمل كبير كرواية "سبت يا ثلاثاء" من أجل أن يدفع إلى المتلقي خطاباً يميزه عن الخطابات الروائية السائدة في الساحة الأدبية العراقية والعربية. إنها تجربة متميزة أراد الكاتب أن يعيش التاريخ في حالة استنفار دائمة رغم اليقين القاطع بأن التاريخ لا تكتبه الشعوب دائماً. (*) سبت يا ثلاثاء، زيد الشهيد، إصدار دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمان – الأردن 2006 نجم عبد الله الجابري / شاعر وصحفي عراقي

 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free