http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  رواية "أرخبيل الأرق
 
   رواية "أرخبيل الأرق






لأنطونيو لوبو انتونيس في نسختها القشتالية
منافس ساراماغو الى نوبل
طاردُ أرواح يذكّر مواطنيه الحديثي الأورَبة بماضيهم المخزي
وفد البرتغالي أنطونيو لوبو انتونيس الى جوار الرواية من الطبّ، لكأن في الإنعطاف تجلّياً او دعوة او حثّا قدريّاً حتى. نعثر على أكثر من ايماءة الى ذلك، أفصحها ربما ما يحكيه بنفسه عن مرحلة انضوائه في الطاقم الطبي لمشفى متخصّص في علاج الأطفال المصابين بالسرطان في لشبونة في أعقاب الحرب، وهي تجربة جعلته ينصرف الى غضب ميتافيزيقي، يستفهم الله كيف يوقّع صكّ معاناة لا ترحم. راودته أقذع تلك التساؤلات وهو يجاور طفلاً في الخامسة مصاباً باللوكيميا يستغيث عبثاً لنيل مورفين يلجم ثوران ألمه. لم يلبث الموت ان التهم الصبي المثخن بالمرض فاستسلم له، ليصل بعدذاك عجوزان مع حمّالة يقرران، ازاء حال الجسد الضامر والمخرّب، انه غير مستأهل ليتدرّب على ما يشبه الراحة الأبدية فيتمدد في فراش. حزما الفتى في ملاءة فانزلقت القدم الصغيرة من الكفن المرتجل لتروح تتأرجح في الخواء. ازاء المشهد المزعزع، صمّم أنطونيو لوبو انتونيس ان يكتب "لأجل هذه القدم"، على ما يذكر. ربما لاقتناعه ان الروائي إذا لاقى رذاذاً من الحظ، جعل حيوات جديدة تبرعم، فيما أجبر في الموازاة على توجيه تحيّة الى جميع الحيوات الأخرى التي قصّر عن عتقها من الموت.
أصدر أنطونيو لوبو انتونيس باكورته في أواخر السبعينات من القرن المنصرم ليحصد مذاك كمّا من الجوائز الأوروبية الرفيعة. بيد انه لطالما بقي على المستوى الدولي في ظلّ مواطنه الأكبر سنّا جوزيه ساراماغو الفائز بنوبل الآداب في العام 1998. في البرتغال، ظلّ الكاتبان أشبه بخصمين سياسيين او رياضيين متنافسين الى حين وفاة ساراماغو. جمع كل واحد مناصرين أشداء أحدثوا جلبة حيثما حلّوا، وذهب مؤيدو لوبو انتونيس الى الإدعاء بأن جائزة نوبل رُكنت الى الكاتب الخاطئ. على ما يتراءى، أيّد الروائي الرأي عينه، ذلك انه عندما تلقّى اتصالاً من صحيفة "تايمس" الانكليزية للحصول على تعليقه في شأن اختيار مواطنه ساراماغو للجائزة الأهم في فلك الآداب، تمتم حفنة كلمات مفهومة بالكاد، محاججاً ان الهاتف معطل قبل ان يقفل السماعة بفظاظة صريحة.
ربما تكون البرتغال، تلك البلاد المنكمشة، اصغر من احتواء الرجلين، غير ان العداء المميت يتراءى مهماً بالكاد من مسافة. الروائيون الجيدون فريدون، وهذا ما يجعل المقارنة بينهما صعبة. ساراماغو ساحر ومنجّم رقيق يعلّق تخييله الصلات بالواقع، فيما يشبه لوبو انتونيس طارد أرواح يصارع لإقصاء الشرّ وشفاء الوطن. تأتي أمثولات ساراماغو الى بلاد متصوّرة من دون اسماء، فيتيسر تالياً انتشارها عالميا، في حين يواظب لوبو انتونيس على زرع قصصه في محليّة تصل الى العظم، يحرّكه القلق في خصوص امراض التاريخ البرتغالي ووهن بلاده على المستوى الثقافي. يريد لوبو انتونيس ان يصير ضميراً وطنيا، فيذكّر مواطنيه الحديثي الأوربة (نسبة الى أوروبا) بماضيهم المخزي، بذاك الإرث من ذنب تركته ديكتاتورية سالازار بين عامي 1932 و1968، ناهيك بفظاعة نظام البرتغال الاستعماري في افريقيا. 
في متناولنا اليوم، النسخة القشتالية من روايته "أرخبيل الأرق" الصادرة حديثاً لدى "دار "موندادوري" حيث يقترح انطونيو لوبو انتونيس (لشبونة 1941) رحلة جديدة الى "زنوجة الضمير"، في استكمال لما راح ينجزه على مرّ مسيرته الادبية، أي ان يضيء شموعاً في وسط عتمة خراب الروح الانسانية، ليسأل عمّا يخبو داخلها. "أرخبيل الأرق" نص يتركّب من خلال كلام فوضوي هائم يخصّ سارداً مأخوذا الى الحلم. يتصوّر هذا البرتغالي رواقاً من المجد والثراء في كنف أسرة ثائرة تنبثق من أرض البرتغال، مطبوعة بعلاقات عاصفة، بسفاح القربى والخيانة والعنف. انها المرة الأولى تنبت رواية لوبو انتونيس خارج حظيرة لشبونة، وتحديداً في الداخل البرتغالي. لا نتحدث عن الحكاية بمعناها الامتثالي، ذلك ان الكاتب يصرّ على ان عناوينه لا تسرد أي قصة، وانما تحاول إطلاق البحث عن الداخل وتشكيل قلق الانسان في مواجهة الزمن. ولأن الكاتب يذهب الى اعتبار الروايات المؤتمنة على حكاية من الصنف الرديء، يمكن الادعاء بأن "ارخبيل الأرق" رؤية متعددة لأسرة برتغالية ريفية على مر السنين، خلال حقبات تعكس مرارة بصمة الوقت.
ليست الرواية محض حكاية بسيطة لأجيال ثلاثة، كما هي الحال على غلاف الطبعة الإسبانية، انها قصة جيل واحد ورجل واحد يتخيّل ماضياً باهراً. من طريق لغة شاعرية ذات جمال بالغ، يسافر لوبو انتونيس الى دواخل المرء في عمل، حيث يتكلّم رجل نافذ. انه صوت خاص يترجّح بين الماضي والحاضر، هو في المحصلة الصوت عينه ينوب عن أجيال ثلاثة، كهذيان امرئ يتصوّر نفسه صاحب ثراء فاحش وسطوة. هؤلاء الشخوص أصوات عدة، هم الصوت نفسه الذاهب والوافد والمتلوّن في آن واحد. لا يقارب انطونيو لوبو انتونيس الأسرة اذاً بوصفها مجموعة يسمع أصداءها فحسب، ولا يهتم بأن يتخيّلها جسديّاً، وهذا مبرر غياب اي أوصاف حسيّة تخصّها. تنجدل الأصوات بغية رصد عائلة تتكوّن من نماذج تشعر بالراحة ازاء أفعال عنيفة، أكثر مما ترتاح الى مقابلة إيماءات الحنان، وفي هذا المنظور تستريح شيئيات العادة. 
لمرور الوقت والتهلكة والحسرة وغياب الحب والصمت، حضور بارز في هذا الكتاب، بمنطق مؤلفات أخرى للوبو انتونيس، ذلك انه يشبه الرواية التقليدية في الحد الأدنى، ويكاد يحيد عن الحبكة كذلك. بنية الرواية التقليدية، والحبكة، قالبان قلما يهتم بهما هذا البرتغالي، صاحب الأجوبة المتأنيّة. تعدّ الرواية تالياً قطعة في عقد أعمال سابقة او ربما تكون عتبة الى حلقة الصمت، ذلك ان جميع الفنون تنجح صوب الموسيقى فيما تصبّ الموسيقى في السكون.
يريد لوبو انتونيس ان يستحيل كاتباً فاعلاً غير متراخٍ او متخاذل، فنراه لا يستسلم الى تجربة الاستعارة الجميلة لاقتناعه ان في وسع صورة لمّاعة او التفافات لغويّة مذهلة ان تؤذي الرواية. كتبت "أرخبيل الأرق" بتناسق حلمي اعتباطي، واللافت ان الامر ينجح إذا انساق المرء الى القراءة مغامراً بالإستيقاظ مشوّشاً بسبب جمل تضجّ في الرأس ولا يدرك مصدر إنبثاقها، أمن الحلم نفسه ام من قصة الكاتب البرتغالي.
أنجز لوبو انتونيس الرواية وسط الخشية من عدم تمكنه من اكمالها، ذلك انه ادرك إصابته بسرطان القولون وهو ملقى في خضمها. أغرقته المعرفة تلك في حال شلل، فنفى نفسه طوعاً من الرواية شهوراً عدة، مشكّكا في احتمال ان تبلغ نهايتها. غير انه أعاد إحياء ما أوتي من قوة ليضع لها نقطة الخاتمة. خيّل إليه ان الرواية أكثر أهمية من فكرة دهس الموت، في تلك الأيام العصيبة. بدّل المرض على ما يبدو نظرته الى الأدب، فكان له أن يقامر، فيما أوراق اللعب مفتوحة للعيان، متخليا عن الحاجة الى الاحتماء بالغشّ. 
إذا كان ثمة امرؤ في وسعه اعطاء شهادة في شأن لوبو انتونيس، فهو انطونيو نفسه. يعبّر الكاتب عن هذه الحال في سلسلة من المقابلات منحها للفيلسوفة ماريا لويزا بلانكو بين نيسان 2000 وشباط 2001 قائلا "أنا انطونيو، أصير لوبو انتونيس في الكتب فحسب". لا يهادن انطونيو لوبو انتونيس في تعريفه. في رأيه ليس ثمة وجود لكُتّاب بالجمع وانما كاتب بالمفرد، وينبغي له أن يكون أصليّاً ونقيّاً، والأهم جيّداً. يجب عليه ان ينتمي الى قماشة المغامرين والحساسين والمراقبين والوحيدين. يجب عليه اقصاء المنطق العميق إبان الفعل النصّي، ذلك ان الكتابة حاجة.
شارك الروائي البرتغالي المتخصّص بالطب النفساني بين عامي 1970 و1973 بخواتم فصول الحرب البرتغالية ضد أنغولا، ليغدو هذا الصراع ثيمة تتكرر في أكثر من عمل كتابي. في اعقاب مرض زوجته الأولى زي، انتقل الى لشبونة حيث جعل الصحافة والأدب معقلاً لما ستمثله كينونته كإنسان، هو الذي يجد في كل امرأة المرأة الاولى. كان هناك "معرفة الجحيم" (1980)، كتاب معتم ومتمرد يرتقي ليصير رواية طريق، فيما السياق الوحيد لأي فكرة هو منظور نفساني. في الرواية مصادفات أكثر من موضوعية. هناك رجل بإسم انطونيو انتونيس يتقاسم والكاتب مشابهات ذاتية، بدءا بامتهانه الطب النفساني الى وجهة رحلته، اي المستشفى حيث يعمل في لشبونة، ناهيك بكونه من قدامى المحاربين البرتغاليين ابان الصراع في انغولا. تلك الشخصية ذاتية وليست كذلك، كما هو وضع كل شخص.
تؤمّن استعادة روتين المشافي وبهتان الجدران فيها واليوميات الأكاديمية، المقتربات الفضلى لشخصية كاتب لا يسعنا ان نتغافل عن ان مساره تحدّد من خلال دور ادان اليه في هذا المضمار، في ممارسة مهنة يصفها بتعابير ذات قدرة تعبيرية هائلة. يكتب: "يجيء الاطباء النفسانيون مسلحين بديانة مركّبة حيث تنوب الأريكة عن المذبح، ينتظم دينهم على نحو هيكلي يضم كرادله وأساقفه وقوانينه ومقابره المبكرة وطلاب لاهوته... ليس ثمة وجود لأي شيء آخر بالنسبة إليهم في هذا الكون باستثناء الأمهات والآباء الآسرين والأثيرين تقريباً، فضلاً عن طفل اختزل الى فم يرتبط بهذين الكائنين اللذين لا يُحتملان. تلك علاقة فريدة حيث استثنيت العفوية والفرح". يظهر التصوير الديني في هذا المكان مُغرقا في التعبير، لأن في عرف الكاتب أنطونيو لوبو انتونيس، كما الشخصيّة أنطونيو لوبو انتونيس، يكمن إثم الأطباء النفسانيين الأعظم في إيمانهم بألوهية ممارساتهم المهنية. أما السعادة فمسألة أخرى. خلال رحلته بالسيارة، يتذكّر لوبو انتونيس في احد إرجاعات الذاكرة، فترة جنّوية حيث هام إبان اقامته وأسرته في لاغوس: "على رغم الخشية من العتمة ووحدتي الوحشية وافتقاري الى المال، كنت سعيدا. كنا، كما يسع بوب كرايمر الذي ابتكره جون ابدايك ان يقول: عشنا تحت رعاية عين الله". يوثّق لوبو انتونيس لإلهه بحرف طباعي كبير دوماً، ذلك انه غير معلوم ونافذ الى ابعد حدّ، لتتراءى كل محاولة لاغتصاب هذه السلطة شكلاً من الاستغلال. تدلّل كلمة "جحيم" الواردة في العنوان تالياً، الى سوء استخدام السلطة، ويبدو الطبيب والجندي السابق في الموقع الأفضل لإدراك كواليس استغلال مماثل.
يستوي هذا الروائي البرتغالي في القوائم الافتراضية للفائزين بجائزة نوبل المتناسلة سنويا قبيل الاعلان الرسمي. لا يعود ذلك الى ما يمثّله ككاتب فقط وانما الى مساره الذاتي ورهافة مقاربته لظروف الحياة. يؤكّد في لفتة غير مألوفة ان الكتاب ينتهي عندما يفقد رغبته في كاتبه. ليس في ذلك جرأة فحسب وانما اناقة في التعاطي مع الشيء المكتوب. ربما تكون الاناقة شكل الجرأة الأسمى، فيما الجرأة شكل الأناقة الأسمى. انطونيو لوبو انتونيس كاتب غير مصبوب في هيئة واحدة. إنه رجل يترجم الشغف الانساني ويأتي الى الوظيفة الكتابية بمعناها المبدئي. تلك بعض صفات البرتغالي الإستبقائية، تلتئم وغزارة تفاصيل تمتعنا في الفوضى وألاعيب كلمات تتملّق عدمية اللغة. 
رلى راشد     
( roula.rached@annahar.com.lb )     


 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free