http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  في الميتانقد الأدبي
 
في الميتانقد الأدبي القراءة بوصفها فعلا ً معرفياً
 
 
 
كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الأربعاء، 22 ديسمبر، 2010 |
 
في الميتانقد الأدبي القراءة بوصفها فعلا ً معرفياً
باقر جاسم محمد
الحقيقة العلمية الراهنة هي أن اللغة تتألف من مكونات أساسية هي الاسماء و الافعال و الحروف و الصفات و الظروف و أدوات الربط و أدوات التعريف و التنكير، ويعلو هذه المكونات و يتحكم بها النظام اللغوي الخاص باللغة
فلا معنى إذن للحديث عن الانزياح أو تجاوز العلاقة المعجمية بين الدال و المدلول و حصرها بالاسماء فقط، فلا مجاز و لا انزياح دون عمل مكونات اللغة و نظامها اللغوي على نحو متضافر معا ً. و لو عدنا لعبارة نص زاهر الجيزاني الأولى التي يوردها الناقد، و هي على النحو الآتي:
«قشور البطاطس الناعمة تمتص باسفنجتها عظام المغسلة
و المرآة الكبيرة تجعد الوجوه و يتقشر الجدار
كان علينا أن ننتظر طفلا ً يصرخ: الجدار يتقشر و هذا وهن الجص يطفو»
لرأينا أن الانزياح الدلالي قد تحقق عدة مرات من خلال تضافر عمل النظام اللغوي مع مكونات اللغة من أسماء و أفعال و غيرها. فالعبارة (قشور البطاطس الناعمة) تخبر عن الاسم المعرف بالإضافة باسم معرف بأل التعريف و هو أخبار على وجه اليقين المعجمي، و لا ينطوي على أي خرق دلالي. و نلاحظ هنا أن التعريف بالإضافة و أل التعريف يقعان في نطاق النظام النحوي. فالأول منهما يعطينا تركيبا ً اسميا ً معرفا ً مكونا ً من اسمين أحدهما نكرة و الآخر معرفة، أما كلمة (الناعمة) فهي صفة معرفة بأل التعريف. و إلى هنا لا تحتوي هذه العبارة على أي بعد مجازي. و يبدأ الانزياح و الخرق المجازي حين ينسب النص لقشور البطاطس الناعمة فعل الامتصاص بوساطة اسفنجتها. أما مفعول فعل الامتصاص هذا فإنه تركيب بالإضافة من نكرة و معرفة هو (عظام المغسلة) و يتضمن هذا التركيب الإضافة خرقا ً مهما ً لأنه يجعل للمغسلة عظاما ً من جهة، و لأنه ينسب لقشور البطاطس الناعمة فعل امتصاص عظام المغسلة. و يمكن القول أن الوقوف على شعرية العبارات اللاحقة يتطلب، من بين جملة أشياء، كشف التناص بين الطفل الذي يصرخ: الجدار يتقشر، و الطفل الذي يظهر في نهاية قصة (ملابس الإمبراطور) لكريستيان هانز أندرسن قصة و يصرخ: و لكن الإمبراطور عار ٍ. و أكرر القول هنا أن الحضور الراسخ و الكثيف للمدلولات المعجمية يسهم بشكل أساسي في إنتاج شعرية النص لأنه حد من حدود الفجوة بين المعرفة المألوفة بمدلولات الكلمات والتراكيب و ما تنتجه من دلالات نصية مبتكرة بفعل الخرق المجازي. و على أية حال إن استقصاء بقية ورقة مازن المعموري يظهر أن الغموض في التعبير والافتقار إلى الدقة والإفراط في التعميم تشيع في بقية الفقرات.
قد تضيع الحدود بين النقد الانطباعي والنقد الحديث فيتخفى النقد الأول في صور شتى. و هو قد يتخذ صورة النقد المسلح بالإحالات المعرفية و المصطلحات، و لكنه يظل في الجوهر مستندا ً إلى تسويغ الانطباعات الأولى و الاحتفاء بها بلغة فخمة أو حتى لغة مجازية. و هنا أود أن أبين أنني لست ممن ينظرون بشك إلى طراوة الأسلوب أو الانزياحات في لغة النقد، غير أن اللغة المجازية في النقد لا ينبغي أن تجور على الدقة، و إنما ينبغي أن تكون وسيلة ضرورية لا بديل لها للوصول إلى درجة أعلى من الدقة، و الدقة لا تتطابق بالضرورة مع الوضوح، لذلك قال بعضهم (أوصيك بالدقة لا بالوضوح). و لعل من أهم ملامح النقد الانطباعي أن ذات الناقد تكون حاضرة بمشاعرها و انحيازاتها على نحو واضح في نصه النقدي، و في هذا الصدد نجد أن الناقد مازن المعموري قد اختار التمويه على حضور الذات من خلال الاختفاء شبه الكلي لها من المادة الكلامية التي تضمنتها ورقته النقدية، و حين ظهرت هذه الذات على نحو صريح في جملتين فقط من الثلث الأخير من ورقته النقدية، انهار التصور الحداثي للنقد و اقترب النص من جوهر المفهوم الإجرائي للنقد الانطباعي. يتحدث الناقد في فقرة طويلة (و لنلاحظ هنا أن الفقرة لدى ناقدنا تتناسل على طريقة البناء الشعري الذي يرتبط بالانثيالات الحرة أكثر من ارتباطه بحدود التحليل العلمي و الترابط العقلي)* فيقول: «... إنها لعبة الكلمة التي لا تريد أن تنتهي أيضا ً، و هو ما يمضي مع آخر النص و لا أقول نهايته لأنني استطيع أن استطرد إلى ما لانهاية، ...» فيكون هذا الظهور للذات دلالة قاطعة على أن الخطاب ذاتي لأنه يرتبط بقدرة الذات القارئة على الاستمرار في القول إلى ما لا نهاية. و هذه القدرة أكثر تعبيرا ً عن القدرة الإنشائية الشعرية (أو الانطباعية) منها عن القدرة الإنشائية المنهجية في النقد الحديث. كما أن النقد الانطباعي يتجنب التحليل ما أمكنه ذلك، و إذا حلل الناقد الانطباعي نصا ً ما فإنه قد يكتب جملا ً موطئة لهذا التحليل أو معقبة عليه تتسم عادة في كونها تعبر عن انحياز للنص المنقود، و هي قد تنطوي على عدم الدقة في استعمال المصطلحات أو على عدم انطباقها على النص. ففي جملة نقدية مطولة تعقب مباشرة الجملة الذي ذكرناها سابقا ً، يقول ناقدنا: « و ربما كانت هذه الظاهرة (و ليس من الواضح هنا ما المقصود بكلمة الظاهرة فهي تصلح اسما ً لما سبقها من بضع حالات. باقر) أحد منجزات الشاعر التي سرعان ما يتدخل للولوج إلى النص (من الذي يتدخل؟ و لماذا تحول القول عن منجزات الشاعر المشار إليها بالاسم الموصول ’التي‘ إلى فاعل مذكر مجهول مشار إليه في صيغة الفعل المضارع ’يتدخل‘؟ باقر)، و التدخل كثيرا ً ما يجعلنا منهكين في مزاولة الأنا و نفيها .. البقاء و ضده، (لا نعرف حتى الآن ماهية هذا التدخل أو القائم به، لذلك لن نستطيع أن نفهم قوله أن التدخل كثيرا ً ما يجعلنا منهكين في مزاولة الأنا و نفيها. باقر) و هكذا الكلمات الصعبة، الكلمات التي توهمنا بأنها تشير إلى شيء لكنها ضده:
يا إلهي لماذا القصيدة خائفة
و لماذا نزور أيامها و أهلتها؟
تعب بين أن أنتقي اللفظة المعجمية
أو أن أناطح كالوعل سروة روحي (أغنية الإله مردوخ) انتهى.
و مع أن الكلام الذي سبق النص المأخوذ من (أغنية مردوخ) للجيزاني يمكن أن ينطبق على أي نص أخر للشاعر نفسه أو لغيره من الشعراء بشرط أن يكون النص مكتوبا ً بلغة مجازية في انزياح و توسع في الاستعارة. و لو عدنا لمناقشة هذه المسألة لرأينا أن كلمة القصيدة في نص الجيزاني تشير إلى معنى القصيدة بالتحديد، و لا تشير إلى شيء ضد القصيدة كما يزعم الناقد، لكن الانزياح يتحقق من خلال الإخبار عنها بأنها خائفة، و أن لها أياما ً و أهلة نزورها. و هذا ما يقع في نطاق النظام النحوي. و هنا ينبغي أن نشير إلى أنه ليس هناك استبعاد للانتماء للمداليل كما يزعم الناقد لأننا نؤكد مرة أخرى على أن الحضور الكثيف للمدلولات من جهة، و نشوء علاقة جديدة بين هذه المدلولات، و هي علاقة غير مألوفة في المعطى اللساني و الكلامي اليومي، هو الذي يخلق شعرية النص و يمنحه طاقة الفعل الجمالي عند التلقي. و لعلنا هنا لا نبتعد كثيرا ً عن نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني أو نظرية الانزياح عند جان كوهين.
و يميل النقد الانطباعي إلى الاكتفاء بانتقاء نص معين من تجربة الشاعر أو حتى مقطعا ً بعينه من ذلك النص لينطلق منه إلى صوغ جمل (نقدية) تنطوي على حكم ما، و هي ذات طابع إنشائي يفتقر إلى البعد النظري الواضح فضلا ً عن افتقاره إلى الخطوات المنهجية في الوصف و التحليل و الاستنتاج. و هذا الحكم لا يحسم مسألة العلاقة بين مضمونه، الذي قد يكون صائبا ً لكنه مبني على تحليل جزء محدود من النص أو نص واحد من جملة نصوص، و بقية نص الشاعر أو نصوصه الأخرى، و يترك الأمر مبهما ً في هذه الصدد، و هو بذلك يحول الحالة العينية إلى ظاهرة عامة، و هذه مغالطة منطقية تقع فيما يعرف بالإفراط في التعميم. و نجد أن القراءة المدققة لورقة مازن المعموري تثبت بأدلة كثيرة أن كلامه كان عن نصوص منتقاة تلائم غرض الناقد، لكن كلامه عن لغة زاهر الجيزاني تتسم بالتعميم و الشمول.
و بالارتباط مع الفقرة السابقة ، لو قمنا بتحليل لغة النصوص النقدية الانطباعية لرأينا أن لغة الإنشاء الاحتفالي فيها تتفوق على لغة التحليل. فالناقد الانطباعي يريد أن ينشئ نصا ً مجاورا ً للنص المنقود يفصح عن قدراته في التذوق و الإنشاء الأدبيين، و عن حصافته الانفعالية، و هو يبغي من ذلك أن يجعل قارئ نقده يزداد إعجابا ً بالنص المنقود. و الحقيقة أن الناقد الحديث يريد ايضا ً أن ينشئ نصا ً مجاورا ً للنص المنقود و أن يكون هذا النص معبرا ً عن قدراته في الإنشاء الأدبي و لكنه يريد من نصه النقدي أن يكون معبرا ً عن حصافته العقلية و منهجه في المقاربة الكاشفة عن جمالية النص المنقود، و هو يريد من قارئه أن يزداد فهما ً للنص المنقود. و هو حين يفعل ذلك لا يستغني عن الجانب الموضوعي من القراءة المتمثل في جملة من المبادئ الحاكمة لعملية النقد الأدبي. فهو يضع في ثنايا نصه النقدي، على نحو صريح أو ضمني، الأسس المنهجية للقراءة النقدية، و من ثم يسترشد بها في كل ما يفعل أو يقول. و قد لاحظنا أن الناقد ينهي كلامه بتحريف مقصود لجملة زاهر الجيزاني (لا توجد سوى معجزة واحدة .. الإنسان يتكلم) فتكون على النحو الآتي: (هناك معجزة واحدة الكلام يتكلم.) فيدخل الناقد في لعبة جعل الإنسان كلاما ً يتكلم. و بذلك يتحرر النص من شروط النقد الموضوعية ليتحول إلى توالد الكلام من نفسه. و هو توالد ذاتي غير محكوم بأية حدود سوى حدود الرغبة في الاستمرار إلى ما لا نهاية.
و أخيرا ً، نسأل: هل يستجيب ما فعله الزميل مازن المعموري لاشتراطات النقد الحديث أم أنه يتوافق مع النقد الانطباعي؟
* في الحقيقة أن ورقة مازن المعموري النقدية بوصفها مدونة كتابية تخرق النظام المألوف في الكتابة. فهي تتكون من فقرات paragraphsمكونة من عبارات تفصل بينها فوارز صغيرة من النوع المستعمل مع الكتابة باللغة الإنجليزية، و لذلك فإن هذه الفوارز تبدو مثل حرف الواو صغير الحجم. و تنتهي الفقرات جميعا ً بنقطة.
و قد قمت بتحويل هذه الفوارز إلى الفوارز العربية عند الاقتباس من الورقة.
و لم أهتد إلى الحكمة من هذه النزوع الكتابي في نص نقدي، و هو أمر قد يكون مقبولا ً في نص شعري. و أجد هنا ضرورة في الإشارة إلى الأمر المعلوم من أن النظام الكتابي نظام توصيل و أي خرق له يشوش دلالة المدونة.
 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free