http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  كائنات من غبار تجتاز الأسوار العالية
 

كائنات من غبار تجتاز الأسوار العالية
 نجاح إبراهيم*

حلمُ الأدب أن ينعتق ويُحلق، فقد قيّض له أن يخضعَ لمواجهاتٍ تحدّ من رغبته في التحليق، سواء كانت ترتدي لبوس الدين، أو القانون، أو المجتمع الذي هو أحد دوافع الانعتاق والتحليق .فغرزت الأسوار العالية في وجه طموحه كي لا يصل إلى قمّة القلعة مُلتمساً مكاناً مرتفعاً .لهذا ارتأى بعض الأدباء أن تستحيل الكتابة لديهم طائراً يُشار إليه بالبنان، فيحلق بجناحين قويين ليقارب تلك الأسوار وذلك باختراقهم المحظور، وإعلان الاختلاف والمغايرة والخروج عن الأعراف الذي يعدّ تطاولاً وانتهاكاً لما يخلف من خلخلة للسّائد
وقد غنّى الكثير من الرّوائيين هذا الموّال إمعاناً في تحقيق هذا الحلم، تمّ ذلك بالتمرّد على المقدّسات واختراق للمحظورات، وثمّة روايات عنونت بالمحظورات لتشير إلى هويتها كثلاثية المحرّمات لسعود المظفر، والتي تبدأ منذ السّطر الأول بما هو محرّم، حتى صفحاتها التي تتجاوز الستمائة، لا شيء فيها غير الجنس بأشكاله العادية والشاذة، وتمجيدُ تلك الخروق وعدّها إنجازاً يفاخر به، حيث يتحللُ الكاتب من أيّ رقيب داخليّ كان أم خارجيّ، ويعدّ ذلك مغامرة، وما كتابة المحظور سوى مغامرة، لكن أن تكون المغامرة من أجل المغامرة شيءٌ، وأن يحصد المغامر من وراء مغامرته إبداعاً، فتثار أسئلة وتهزّ وعي القارئ الجمالي وتنمّي ذوقه، وتشير إلى هموم المجتمع وتفتح دروباً لمعالجتها شيءٌ آخر حلم الرّغبة في مقاربة الأسوار نادت به الكتابات العربية، وقدّمت كما قال الرّوائي صنع الله إبراهيم في شهادة له، عدداً غيرَ قليل من الإبداعات المتميّزة، لكن من الإنصاف أن نعترف أنّ دروباً كثيرة لم تطرق بعد، وأنّ طائر الخيال مازال عاجزاً عن التحليق عالياً في مواجهة الأسوار التي تحصّنت خلفها السلطة الدينية والسياسية، ومازالت التجربة الجنسية أكثر التجارب حميمية وتفرّداً وتعقيداً بمنأى عن التناول ولكن الرّوائي المغربي هشام بن الشاوي في روايته "كائنات من غبار"، أراد أن يفتح الدّرب ويسجّل جرأة غير معهودة في اختراق المحظور، وتحديداً في تناوله المحظور الذي يعدّ أحد الهموم الكبيرة في المجتمع كما قال نزار قباني، بل وأكد على أنها أكبر همومنا على الإطلاق وهذا ما تؤيده الرواية إذ تتوجه إلى المجتمع المغربي، إلى ريفه وإلى قاعه بالذات، والذي كما أوضح الروائي لا يشغله سوى الجنس، فمنذ الصفحة الأولى نشمّ رائحة تورّم الكاتب من المحظور، يبدو ذلك نتيجة كبت ملموس، وفقر عاطفيّ : " كما يجدر برجلٍ وحيد وبائس تغفو إرهاقاً، والحافلة تمخرُ عباب الإسفلت تنتبه إلى تلك الفتاة المحجبة تشبه امرأة سكنتك ذات شقاء، على الأقل، هذه تتطلع إليها بحرية وأنت تدرك تمام الإدراك أنك رجل غير ناضج عاطفياً، تطارد سراب استقرار عاطفي" "ص3 ". ويمتلك الكاتب رغبة قوية في نكأ هذا الورم، ليحقق لذاته الخروج من بوتقة الكبت، والرقص الحثيث قرب المسكوت عنه، محققاً قول أرفينغ بوخن: " ليس للرواية موضوع أقدس أو أدنس عن أن تعالجه.ذا فهشام بن الشاوي قدّم المقدّس بعد أن ألبسه المدنس، فنقل صور الحياة من القاع، أخرج ما خبئ وراء الستار، وأبرز القيم البالية والعلاقات المشبوهة، وأشار إلى الضوابط المذبذبة، وبيّن أشكال الجهل والتخلف، والفساد المستشري بين الناس العاديين المنسيين، ومن بين السطور تقرأ سبباً لذلك.فالفقر والأمية والفراغ الذي يُملأ بالانشغال بتصفح الشبكة العنكبوتية، والدردشة الفارغة والكبت العاطفي الذي يفرغه الشباب في حظائر الحيوانات ومع النساء الشبقات، واللواطة ونكاح الأقارب، كلّ ذلك تدفع به الرّواية إلى الظهور لتفجّر التركيبة الاجتماعية الفاسدة التي توخز الضمير، وتربكُ القارئ أمام صور مقدّسة سواء للأم أو الأخوال والأعمام، والصديق الوفي والمعلم الذي يخرّج أجيالاً، والذي كاد أن يكون رسولا، يضطرك هشام بن الشاوي لأن تقف مذهولاً أمام صور هؤلاء وتغيّر مفهومك لهم، ويؤكد أنّ العالم يتصف بالغرائبية والتبعثر، وظواهره عصيّة على الفهم فهذه الصور تصدم القارئ وتحرّضه على التفكير بهذه الخلخلة، فالأم ينزعُ عنها أردية القدسية والحنان ويجعلها ذات جسد يسعى إلى الخطيئة، تلاحق صديق ابنها، والأخوال الثلاثة يجتمعون في حبّ امرأة واحدة، والشاب المكبوت يعوّض كبته بأتان عمه فتقبض عليه زوجة العم متلبساً، فيرجوها الكتمان ولكنها تقول بشرط، والشرط أن يستبدل الأتان بها، بينما تتزعزع صورة الصديق عماد الذي جاء ليرى عبد الرحيم بعد غياب فيُرى " وقد خلع قميصه وإلى جانبه عماد، وقد بدا يستسلم لإغفاءة لذيذة بعد أن داعبت رائحة الكيف خلايا رأسه وبددت توتره الداخلي، يسدل ستارة النافذة بعد أن أحكم إغلاقَ باب حجرته، يطفئ المصباح ، ويتصاعد أنين خافت، ويغرق المكان في إظلام تام .." "ص87"، وكذلك هي صورة المعلم الذي يتحرّش بالأطفال وينزع براءتهم بمداعباتٍ حثيثة وسافرة .ولا يخفى على قارئ الرّواية كيف يسعى هشام إلى تجريد المرأة من أية قداسة، ويقدّمها على أنها امرأة شبقة، تمتلكُ جسداً فائراً تمارسُ الفجور دون رادع أو وازع، تشغل أطفالها، تلهي خادمتها، تستعمل جسدها في الوصول إلى ما تريد الرّوائي إذ يخلخلُ تلك المشاهد في المجتمع، إنّما ليشير إلى تشتته وتبعثره، يؤكد ذلك في عمله بالانحرافات السّردية الخطيرة والتي ينتقل بها من حدثٍ إلى آخر، ومن مكانٍ إلى آخر، ومن شخصيّة إلى أخرى، فيؤكد تكسّر الزمن الذي فقدته الرّواية والشخصيات التي بانت كأطياف أو ألقاب أو رموز. هي مشاهد ليست مألوفة، أو متوقعة، لأنها لا تترابط ولا تنمو، بل هي مبعثرة، يشكل مجموعها مناخاً روائياً مكتظاً بالتوتر والاضطراب، والسبب في ذلك كله حدّة الأزمات المصيرية التي تواجه الشخصيات فتجعل مآلها التشتت والذوبان وهي برمتها تبحث عن شيء معين هو حرية الجسد، وإذا ما أعطيت لها لا يتبقى شيءٌ لديها، وإنما يتوالد نفورٌ منها والبحث من جديد عن عالم افتراضي بغية ظاهرة التمرّد فالبطل يحبّ امرأة، يتواعدان وبلا سبب يحلو له أن يقطع تلك العلاقة ويرغب في أن تكرهه، فيقول : "ولكي تحطم كلّ شيء، كتبتَ لها بأنك مع عاهرة" "ص6"، لم تمض ثوان حتى التقى بامرأة مجلببة في الحافلة، لم تكن جميلة بما يكفي لإثارته، كما يقول ولكنه استطاع أن يلامس مفاتنها وبطريقة آلية، بينما وقفت لا متوعدة ولا مستزيدة كما يجدر ببدوية محاصرة بالصبار وأعين لا تنام. "ص8"، وجرى في الحافلة ما استطاع أن يقوم به من اختراقٍ لجسدٍ يتهجى أبجديات الاشتعال تحت ثياب محتشمة ولا يقتصر الأمر في حافلة مزدحمة وإنما يكون ذلك الاختراق في المقدسات بجوار ضريح للا عائشة البحرية، حيث نصبت خيام متهرئة على شكلِ مطاعم ومزارات دجالين وعرّافات، وعبر ممر ضئيل يتدفقُ جدول ماء عكر، وقدْر كبيرٍ مفحم مُلئ ماء، تغتسل به زائرات الضريح للتبرك، فيتساءل وهو يبحث عن امرأة: "أيّ عبث أحمق أن يبحثن عن ضالتهن عند رجل يحتاج إلى رجل، عند ذلك المجذوب المخنث، الذي يرى الطالع، وأشياء أخرى لا تعنيك، لكنها تعني الكثير لنساء يلهثن وراء رجل يدفئ فراشهن، فلا يرين أبعد مما تحتهن". "ص10" ولا يخفى على القارئ كيف تنتقل الرّواية بين عالمين: عالم مادي حيث الفقر والقهر، إذ البطل عامل بناء في ورش مع مجموعة من العمال، تعامله مع الاسمنت، يرمي بحامل الملاط البلاستيكي، يطوّح بالملاسة أرضاً متفوهاً بكلام ناب، يحفّ به الغبار بسبب أكوام الرمل والحجارة والرياح التي تهب فتتشكل الكائنات حسب هبوبها، كل شيء يداخله الغبار، حتى لقمة العيش تكون مغمسة به، وكلّ ذلك لا ينفي الشبق في الورشة، فالعمال يراقبون الحيوانات كالقطط التي تكثر من حولهم، فيتندرون حول تزاوجها، ويتلصصون عليها، وعلى الجارات بحثاً عن امرأة تعلن عن رغبة، فها هي أم لصغيرين تمسك بتلابيب رجل، تصرخ في وجهه وقد كانت كثيراً ما تسرق بطل الرواية من ذاته وهي في طريقها إلى رياض الأطفال، "كانت تشبه آخر حبيباته حدّ الوجع، ذلك الذي ما زال يتمطى في أعماقه" "ص45"، وما إن يستدير حتى يرى إحداهن تنظف حديقتها الخلفية مع خادمتها، كانت ترفع فستانها إلى ما فوق خصرها، و...هذا العالم المادي أكثر الكاتب من التحدث عنه وذلك إمعاناً منه في فضحه، وفضح مشاهده الرّديئة والشاذة، فيدعو القارئ إلى الاندهاش ثم الإرباك أمام هذا القبح الذي يوجد لا ريب نقيضه . ثمّ يتناول العالم الافتراضي كبديل عن الواقع المزري: وهو عالم الوهم والأحلام الجميلة والمتع الزائفة الزائلة، حيث عالم الشبكة العنكبوتية، عالم متخيل، ولاهث للتواصل بين القطبين : المرأة والرجل، إذ تصاغ علاقات وهمية فتسفح الانفعالات والرغبات والهياج الجنسي، ويعتقد بقطاف المتعة، إلا أنّ ثمة انكساراً يخلفه العالم الافتراضي هذا المزج بين ما هو واقعي ومتخيل يؤكدُ جرأة كاتب يقوّض مجتمعاً يحيا في أماكن عديدة مثل "مدينة الجديدة - سيدي بوزيد - سوق الحمراء - أزمور - عائشة البحرية"، يزعزع الكاتب هذه الأماكن دفعة واحدة حين يخلخل القيم ويدفع شخوصه نحو الهاوية جراء شبقهم وحرمانهم وفقرهم ويأسهم في آخر المطاف، مستخدماً لغتهم، لغة واقعهم المعيش حيث أقحم لغة سوقية تحاكي رغائبهم وبذاءة تصرفاتهم، بينما في المقابل ثمّة لغة شاعرية تسردُ عالماً حالماً وهمياً يتعشقه المحبّ: "أحسّ بحنين جارف، يهزّه إلى قريته وطفولته العذبة هناك، استغرب كيف أنها تبدو أجمل مكان في العالم، أحسّ أنه تحت سماء أخرى، ذلك أنّ الإحساس لا يمكن أن يغمره في أيّ مكان آخر، ولو كان الريف التشيكي الخلاب الذي لم يره إلا في الصور" "ص101"هذه الشخصية التي تتمزّق بين واقع أليم ملوث، وعالم افتراضي يوحي بالسّعادة، قد برع الكاتب في وصف تمزّقها بشكل ذكيّ وموارب، فذلك المكان الذي تألق في ذاته وحنّ إليه وإلى الطفولة قد انبثق الواقع الأليم أمامه فجأة، فخرجت إلينا الشخصية ممزقة، يائسة، ممتلئة بؤساً وعهراً ليقول : " أحياناً يخيل إليّ أني لم أعش ما يسمى بالطفولة، ولن أعرف شيئاً اسمه الفرح" "ص103".مؤكداً أن العالم الافتراضي وهمٌ، وهذه الاتصالات وما تحدثه في الشخصية عبارة عن مورفين مؤقت يسوّغ الحياة، ثم فجأة تصحو على هوّة تكاد تبتلعه، هذا الانغماس في الانترنيت مرّوع، وقاتل، ينخرُ في المجتمع العربي، خاصة في الأجيال الشابة والأطفال الذين يهدرون أوقاتهم في اللاشيء، " فالبنتان الطفلتان تتصفّحتان موقعاً، شيء ما يجعلك تحسّ بالمسؤولية تجاه بنات أخوالك، تقترب من الشاشة، أزياءُ عرائس، وبستانُ ألوان وحواء متأرجحة بين طفولة غاربة وأنوثة مشرقة، فتقول في نفسك : حتى الصّغيرات يا عرب، يا أبناء العاهرات تلوثونهن" "ص22" لواضح من رواية "كائنات من غبار" أنها تختار المحظور الاجتماعي، مسوّغة تحريض القارئ لتعرية المجتمع من فساده، وكشف ستر أخلاقياته بفضح تفكيره في الجنس ولا شيء غير ذلك، إذ يعتمد الكاتب على أدوات الكتابة الجديدة وذلك عبر سرد مكثف وتكسير زمن الرواية ومشاهدها المبعثرة، وشخصياتها القلقة، فهذا يؤكد أن النصّ الروائي يتمرّد على الواقع ويشظي قيمه رغم أنّ الكاتب يسعى إلى إيهام القارئ بأن ما يحصل واقعياً، وأن المجتمع عبارة عن علاقات شاذة يحاول الأفراد إخفاءها، وهذا الأسلوب غير سائد في الكتابة، يجعل القارئ مشدوداً حيث تثار حواسه ويتلاعب بأعصابهوهنا لا يمكن أن تكون للرواية نهاية، فأنى اتجهت الشخصيات فثمة انفتاح على المحظور، فلا حكاية يمكن أن تروى، ولا حكاية يمكن للقارئ أن يصوغ نهاياتها، واللافت أن الشخصية الرئيسة هي السّارد الحزين المتألم الذي يجرّ خيباته وأحلامه من موقع إلى موقع. بينما شخصيات الرّواية تموت بعد دقائق من ولادتها، فهي ما إن تنطق بهاجسها الأوحد حتى تخلي الساحة لشخصية أخرى متورّمة بالجنس، ناضحة بما هو محظور، فهي شخصيات بلا أبعاد ولا ملامح، وقد لمحناها متجزئة ومتوترة، وهذا يدل على قدرة الكاتب في إظهار اهتزاز القيم في المجتمع، وإبراز الخلل الذي يواكب الشخصية ويوضح تهميشها وغموض مصيرها، فهي حائرة غير مثقفة ثقافة واعيةوقد فتح لها الكاتب كوة لمحاولة ترميم ذاتها عبر إفصاحها عن رغائبها، ولكن حتى الشخصية الرئيسة عامل البناء، الذي يكتب القصة آناء فراغه ويدخل عالم النت يدور في حلقة مفرغة لا يعرف أية أنثى يريد، فتبقى كما غيرها من الشخصيات مخلوقة من غبار، وإن قرّرَ الابتعاد عن الحاسوب والنت تحديداً، فأسبوع واحد لن يتوقف العالم كما يقول، وسيحاول تجاهل رسائل تلك المرأة الشامية ليتركها تصلى بنارين، نار البعاد ونار زواج بغيض أشبه بجحيم "ص118"، وسيذهب إلى موعد أبرمته امرأة هتفت له في حبور صبياني: "سأجعلك تنسى كلّ نساء العالم " " ص118"، ومثلما هي بداية الرواية ترك امرأة ليلحق بأخرى، جاءت النهاية دون حكاية لتثبت أنّ الشخصيات عبارة عن كائناتٍ من غبار تثيرها المحظورات
___________
* قاصة وروائية سورية
 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free