http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  الحفر في الذات والجسد والثقافة والتاريخ
 
استجاب المليح للكتابة للاشتغال على الذاكرة
مصطفى الحسناوي
 إن موت كاتب ومثقف ذي أهمية استثنائية مثل إدمون عمران المليح، لا تعني غيابه نهائيا، لأنه فقط يترجل عن صهوة الوجود/الكتابة،
ويذهب تاركا الباب مواربا خلفه لنحافظ على مجاورتنا له، وحوارنا معه، يعني هذا أن اشتغال الحداد le travail du deuil عليه سيظل مفتوحا وفعالا، خصوصا وأن حضوره الفعال في ذاكرة القراءة الخاصة أو العامة التي هي ذاكرتنا، ستظل مضاءة بنصوص غير مسبوقة وباذخة، مسكونة بحكي حميمي وجواني لا ينحصر في تاريخ الذات الفردية، بل ينفتح على تاريخ/تواريخ ذات جماعية تحضر من خلاله كذات موعى بها وكذات واعية أيضا.
مات إدمون عمران المليح يوم 15 نوفمبر 2010، التاريخ في حد ذاته غير ذي أهمية عدا تلك التي منحها إياه ارتباطه باسم ذي مكانة عميقة في التاريخ الاجتماعي والسياسي والثقافي الحديث للمغرب. سيصير موته حتما مجرد مؤشر زمني دال على غياب أحد المكونات الأساس في الثقافة والأدب المغربيين، وهو المكون اليهودي الذي ظل على مدى مئات السنين حاضرا، وفعالا ومؤثرا قبل أن يتم اقتلاعه قسرا عند منتصف القرن العشرين، حين عملت الوكالة اليهودية على تهجير يهود المغرب إلى فلسطين، وتم إفراغ البلاد من أقلية مغربية كانت مقيمة في مختلف المناطق ومتعددة الانتماءات الثقافية واللغوية والإثنية، إذ كان هناك يهود أمازيغ وآخرون عرب أوموريسكيون... إلخ. إن موت إدمون عمران المليح ينطرح هنا، انطلاقا من وجهة النظر كهذه، كموت رمزي، بعد الميتات الوجودية الفعلية التي طالت حضور المكون اليهودي في النسيج الثقافي والاجتماعي والسياسي للمغرب، أي موت الجسد الحي الفعال الذي أرخ بعمق أونطلوجي لا يضاهى لحميمية الحضور اليهودي في العادات واللغة والسلوكات الاجتماعية والسياسية، انطلاقا من وعي الروائي ضمن سرد مرهف الإنصات، حميمي اللغة ومتفرد العوالم ومنفتح على الكونية، انطلاقا من تميزه الثقافي واختلافه الأونطلوجي، إن موت المليح يدفعنا بالذات إلى التساؤل عن غنى هذا الحضور، عن فرادة كتاباته، وعن تلك الحميمية المعلنة والمفتوحة التي تطبع رواياته ونصوصه النقدية، المفتوحة علينا والمسكونة بنا حتما.
 لم يأت إدمون المليح للكتابة صدفة «مع الأمطار الأخيرة» كما يقول التعبير الفرنسي، بل بعد أن قضى ردحا من الزمن في مساراته الحياتية المتعددة، لم يختر الكتابة بل إنها هي التي اختارته ليلفي نفسه في لحظة ما ملزما بالاستجابة لإلحاحها لقول الذاكرة والاشتغال عليها، بالشكل الذي يصير معه التخييل الروائي مجرد ذريعة لإنجاز نوع من الحفر الأركيلوجي في الذات، والجسد والثقافة والتاريخ، أي في هذه الهوية المتعددة والمسكونة بنداءات أقاصيها واختلافها العنيد، الهوية/الهويات المسماة «مغرب». لم يكن المغرب بالنسبة له مجرد بلد مرتبط بمسقط الرأس وبمتعة الإقامة، بل كان سؤالا مدهشا دوما، أفقا للوجود ومحفزا دائما للكتابة استطاع إدمون، حتى بعد ما قارب القرن تقريبا، الحفاظ على الدهشة الطفولية البريئة لسؤاله ووجوده، وفق تصور للبراءة لا يعتبرها كماهية متعالية، بل يربطها دوما بالصيرورة ونداءاتها، وباللغة التي تروح قول إضاءاتها وكوارثها وانفتاحاتها المذهلة. لقد كان أدب المليح التعبير الأمثل عن «براءة الصيرورة» هذه التعبير الذي أثرت فيه حتما سياقات الوجود الخاصة والعامة، دون أن تفقده تميزه، بل إن هذا التعدد في السياقات كان هو الضمانة التي جعلت من أدبه إضافة نوعية للثقافة المغربية الحديثة. لقد كتب الراحل كمغربي وكيهودي انتمى عميقا لمدن الهامش الأطلسي«أسفي» مسقط رأسه سنة 1917 والصويرة حيث قضى زمنا أموميا كالحلم، الصويرة تلك المدينة التخومية بامتياز التي طالما آوى إليها عجوزا صحبة الراحلة الباذخة زوجته ماري ـ سيسيل دوفور وأصدقائه والتي احتضنت جسده بعد أن داهمه الموت هناك في المقبرة اليهودية المجاورة لشساعة المحيط المسكونة بصخبه الأوقيانوسي ولصخب اليومي في درب الحدادة وباب دكالة، الأرض وحدها كانت عنوان وجوده وكتابته، الأرض الرؤوم التي لم يستسغ يوما كيف اقتلع منها المغاربة اليهود ليذهبوا قسرا إلى أرض آهلة بشعب آخر ليستوطنوها عنوة، الأرض التي دام فيها الوجود اليهودي المغربي ألف عام وانمحى بغتة في خضم الأحداث السياسية العنيفة لقرن الكوارث الماضي في يوم واحد.
 أتى الراحل للكتابة متأخرا وناضجا جدا، لكنه انخرط قبلها في الطوبى le topie الكبرى للقرن العشرين، عبر الالتحاق سنة 1945 بالحزب الشيوعي المغربي للإسهام في مقاومة الاستعمار الفرنسي، الحزب الذي انسحب منه ليغادر المغرب إلى فرنسا سنة 1965 وليعود لتدريس الفلسفة بثانوية محمد الخامس بالدار البيضاء. أتى المليح للكتابة سنة 1980 بعد أن تجاوز الستين، لينثال بعد ذلك المعين الثر الذي ظل مقصيا لسنوات داخل سياقات للفعل هيمن عليها الهم التحرري السياسي. بدءا من 1980، صار الهم مرتبطا بما يمكن تسميته «السياسة الأنطلوجية للكتابة»، أي كيف يمكن لذاكرة الممارسة التحررية أن تضاء بأضواء التخييل الروائي وأن تشحد بقوة اللغة ومفرداتها وأن تغذى بألق الصداقات التي تمنح الحياة ملحها وحميميتها وقبيلتها الرمزية، الصداقات التي لم تكن جزءا من حياة المليح اليومية بل أيضا جزءا من الحيوات التي تخترق كتابته. كانت البداية مع (المجرى الثابت/1980)، لتلحق بها ( أيلان أوليل الحكي/1983) و(ألف عام بيوم واحد/1986) و(عودة أبو الحكي/ 1990) و(أبو النور /1995) و(المقهى الأزرق/زريرق/1998) و(كتاب الأم/2004) وكتب أخرى في النقد التشكيلي والنقد الأدبي مثل كتابه الباذخ الذي ألفه جان جوني Jean Genet وقرأ فيه «الأسير العاشق» لهذا الأخير. بالإمكان القول بأن كل ما كتبه إدمون عمران المليح، اليهودي المغربي ذو الأصول الأمازيغية والثقافية الفرنسية المتمكنة، يندرج ضمن عنوان «المجرى الثابت»، إذ زاوج بين الثبات في الهوية الإختلافية العنيدة والانسكاب في مجرى هيراقليطي لا يتوقف، مجرى السياسة والتاريخ والتخييل الأدبي، المسار الذي لا ينضب لأنه يسائل الإنسان في إنسانيته أصلا بعيدا عن الإقصاءات والتصنيفات، وبعيدا عن اختزاله في هويات قاتلة، الإنسان في «إيجوكاك» أو«الصويرة» أو «بيروت» أو غيرها، في قرية الأطلس الكبير أو في منطقة ما من مناطق عالم طاعن في العنف والصخب والتنويعات اللغوية والثقافية وفي الحيوات التي تعاش كل لحظة/مرحلة من لحظاتها/مراحلها كهبات لا توصف. لقد عاش المليح صخب القرن العشرين بكل زخمه وأحلامه التحررية وكتب هذا الصخب والعنف بأسلوبه الروائي الخلاق الذي يمت بصلات كثيرة لأساليب روائيين معاصرين كبار، على مستوى التعبير اللغوي والخصوصية السردية أمثال بلانشو، هرمان بروخ وخوسي ليثاماليما وغيرهم.
 مؤكد أن موت إدمون عمران المليح، يأتي بعد موت الشرايبي والخطيبي ليؤشر على غيابات وازنة ومتعذر تعويضها في فضاء الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية. واعتبر الجزائري كاتب ياسين صاحب رواية: «نجمة»بأن اللغة الفرنسية « غنيمة حرب» كما سماها، un butin de guerre وأن من حقه استعمالها والكتابة بها ما دامت كذلك. لكن علاقة كتاب مغاربيين كثيرين مع اللغة الفرنسية ظلت محكومة، بنوع من «الوعي الشقي» الناجم عن التباسات العلاقة مع الآخر وجوديا وتاريخيا وثقافيا. أما الكتاب والمثقفون العروبيون فقد حسموا المسألة حين أطلقوا لفظ «الفرنكفونية» بمعناها القدحي على هذا النمط من الكتابة، وأقصوه كلية من مجالات اهتمامهم. إن أهمية الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية الآن أصبح محسوما فيها، ولم تعد موضع تساؤل، إلا في المجال التحليلي والنقدي، بل إن الكثير من سمات الحداثة الإبداعية والنقدية التي ظهرت معالمها في الأدب المغربي الحديث خصوصا في شقه اللغوي العربي أتت من هذا الأدب بالذات سواء على مستوى الشكل أو المحتوى. كان المليح جزءا أساسا من هذا الأدب الاستثنائي الذي لا يتأمل المغرب من خارجه، لأنه «لا يحمل المغرب داخله أينما ذهب» كما قال عن نفسه. لقد منح التمكن من اللغة الفرنسية هؤلاء الأدباء والمبدعين فرصة الإطلاع على ثقافات الآخر في بعدها الكوني، وخصوصا إدمون عمران المليح الذي كان متبحرا في المعرفة والثقافة الكونية، مدمنا على قراءات أمهات النصوص في الآداب العالمية في الشعر والرواية والفلسفة والنقد الأدبي والفني/الجمالي والتاريخ والسياسة. كان من طينة «المتبحرين في المعرفة» الذين يسمون les erudits. يكفي في هذا السياق، الوقوف عند استشهاداته واستهلالاته exergue التي يضمنها ثنايا رواياته ونصوصه النقدية لمعرفة سعة إطلاعه ونوعيته، كانت النزاهة القرائية لدى الراحل جزءا لا يتجزأ من نزاهته الشخصية في الوجود والحياة، نزاهة باذخة وفادحة في آن شبيهة بتلك التي ميزت مبدعين استثنائيين حد العطالة الحياتية والوجودية، أمثال بول تسيلان، هرمان بروخ، ريلكة، والتر بنيامين، موريس بلانشو ورني شار ونيتشه وغيرهم ممن سكنوا كتابه كأطياف دائمة العودة تماما كأطياف ماركس وديريدا.
يرى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز deleuze بأن الكتاب الكبار يكتبون في ضرب من اللغة الأجنبية، وهو يصدق بقوة على أسلوب إدمون عمران المليح الذي يقول «أكتب باللغة الفرنسية، لكنني أعلم بأنني لا أكتب بها. هناك الجانب المتميز من لغة ما والمزروع في لغة أخرى لغتي الأم العربية، تلك النار الجوانية». إن أسلوب الكتابة عند المليح مسكون بحضور كلمات من اللغة الأصلية لليهود المغاربة، بحيث تفقد اللغة الفرنسية نقاءها وصفاء انتمائها لذاتها، وتصير «ملوثة» بلغة الهامش المتوحش، التي كثيرا ما اعتبرها الغرب انطلاقا من مركزيته الإثنية الأوربية، لغة لا شرعية، آثمة وغير متحضرة. إن استعمال المليح لمفردات عربية وتوظيفه لها يهدف بالذات إلى إعادة الاعتبار للذات المهمشة المقصية وتحريرها من أسر الذاكرة الكولونيالية التي أبقت عليها حبيسة كليشيهات وصيغ جاهزة باعتبارها لغة «الأندجين». تلزم الإشارة هنا إلى أن اللغة الفرنسية التي كتبها المليح تعتبر من ضمن أكثر الأساليب اللغوية متانة وصرامة، لذا يبدو توظيف مفردات من اللغة الأم مقصودا في ذاته، لإضفاء نوع من التبعيد على الفرنسية وإدخالها حيز الاختلاف المعجمي، ودفعها إلى استضافة الآخر المختلف عن الذات الأوربية. إنه أيضا نوع من التوظيف القاصر mineure للغة الأصلية داخل بنية لغة راشدة majeure هي الفرنسية. لا يمكن داخل التجربة الأدبية عند عمران المليح، الفصل بين متانة الأسلوب وجدته الإختلافية، واستغواره العميق لكواهن الذاكرة الفردية والجماعة وصموتاتها ينتمي المليح إذن للأدب القاصر داخل أدب راشد، هو الأدب المكتوب باللغة الفرنسية أولا، وثانيا داخل الأدب المغرب الذي تغلب عليه الكتابة باللغة العربية، وثالثا فإن المليح ينتمي إلى فرادة المكون اليهود داخل الثقافة المغربية. لا يتعلق هذا الأمر بأي حكم قيمة أخلاقي، بل بسياسة الكتابة التي تظل في المقام الأخير محكومة بإبداعية الكاتب وإمكانياته وقدراته والذاتية على الخلق والابتكار. لقد أختبر الكثير ومن الكتاب هذا الوضع الاعتباري المركب، ومن ضمنهم كافكا الذي انتمى لأقلية اليهود في براغ، وتكلم التشيكية والألمانية في حياته اليومية وداخل أسرته لكنه كتب بألمانية خاصة به متسمة بالتقشف والحياد. يكفي للوقوف عند الجدة الأسلوبية لدى إدمون عمران المليح قراءة روايته «عودة أبو الحكي»، تلك الرواية المكتوبة بأسلوب باروكي متعدد الثنايا، ينتقل بقارئه من الغموض إلى الوضوح والعكس، والتي تذكرنا بأسلوب ليثاماليما lezama lima في رائعته «فردوس»، وبروخ في «المسرنمون» و«موت فيرجيل»، وبالأسلوب الأليغوري عند والتربنيامين وآخرين. الشيء نفسه يمكن ملاحظته في «ألف عام بيوم واحد» حيث التوظيف القوي والدال لمفردات العربية، في ارتباطها بحكي متاهي وجذموري ينتقل من أعالي الأطلس الكبير إلى لبنان ومناطق أخرى. هناك أيضا الممارسة النقدية عند المليح والتي لم تنشغل يوما بهوس المناهج الصارمة، بنيوية كانت أوسيميلوجية. مارس المليح النقد بمعناه البارتي. (نسبة إلى بارت) أي ككتابة ثانية، كتابة إبداعية عاشقة للنص، تنشغل أساسا بالتعليق والتأويل الحميمي على النصوص وبالكتابة في بياضاتها واستنطاقها بشكل جواني عميق لا يهمه إصدار أحكام فنية أو جمالية عليها، بل مصاحبتها ومجاورتها. يكفي هنا مثلا قراءة كتابه النقدي عن الأسير العاشق لجان جوني، أو كتابه حول التجارب التشكيلية لكل من الحسين الميلودي في الصويرة أو غريب في أصيلا أو حسان بورقية في بني ملال وغيرهم من الفنانين للوقوف على سمات هذه الممارسة النقدية المتميزة التي تبتعد بسنوات عن صرامة النقد الأدبي الأكاديمي ومدرسيته العقيم. ينتمي نقد المليح للتقليد الذي سنه شعراء وكتاب الرومانسية الألمانية في بداية القرن التاسع عشر عبر مجلتهم «الأثيناووم» والذي تبناه في القرن العشرين نقاد مثل بنيامين ومن بعده بلا نشو، أي النقد الذي لا ينكتب على هامش الإبداع بل يكون جزءا أساسا منه، ومن قدرته على الاضطلاع بالحرية مطلقا. ينضاف إلى هذا الثقافة الموسوعية التي يتصف بها المليح، وتعددية مرجعياته باعتباره قارئا مدمنا للقراءة، التي لا يفصل بينها وبين الكتابة، باعتبار كل منهما ضرورة شارطة للأولى. تنتج الكتابة الأدبية عند المليح وعيها بذاتها، وتعلن سلطتها المطلقة، السلطة الوحيدة التي يعترف بها الكاتب. الآن بعدما انسكنت هذه التجربة الإبداعية الاستثنائية بغياب صاحبها، ينطرح الاشتغال على ذاكرتها الخلاقة كإلزام فعال تجاه الجوانب المشرقة منها، وفاء للمليح ولنزاهته الإبداعية، هو الهيرقليطي المتأخر الذي لم يكف عن العبور بنعال من ريح بيننا.
 
مؤلفاته
−«المجرى الثابت» (رواية، 0891)
− «أيلان أو ليل الحكي» (3891).
− «ألف عام بيوم واحد» (6891).
−«جان جينيه، الأسير العاشق» (8891).
−«عودة أبو الحكي» (0991).
− «العين واليد» (3991).
- «المقهى الأزرق» (8991).
 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free