http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  أزمة «المثيقف»..
 
الفيلسوف الألماني كانط
أزمة «المثيقف».. ظاهرة زئبقية تستعصي على التصنيف
 
 


يحيى بوافي*


 
 
"المثقف عندي هو من يكون وفيا لمجموعة سياسية واجتماعية، لكن من دون أن يكف عن مناهضتها"؛ ج.ب.سارتر

1- تفليس "المثيقف" الإبليس
بدءا ننحني اعتذارا لروح الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي عن استعارة شطر من عنوان لواحد من كتبه الغزيرة،لأجل تعيين ظاهرة تقع على الطرف النقيض من قيم التصوف والزهد وكل المعاني الألقة للإشراق الصوفي؛ إنها ظاهرة "المثيقف" و"المثيقف" صيغة تصغير من المثقف، ومعلوم أن التصغير يحتمل معنى التحقير والازدراء، كما يحتمل معنى التظريف، ونحن في مقامنا هذا بالمعنى الأول أحوج وأولى، في تعبيرنا عن ظاهرة طفقت، منذ مدة ليست باليسيرة، تستشري في واقعنا الثقافي وشرعت فيروساتها تدنس دماء الحقيقة والطهر الذي يسم الدروب الواجب ارتيادها لبلوغها، وكل المعاني الجميلة الرائقة التي يحيل عليها وصف "الثقافي".

وغني عن البيان القول، بأننا لسنا هنا، بصدد وضع تصنيف جديد لمفهوم المثقف، فتصنيفات هذا الوصف قد فاقت عدد الرؤوس التي تستحقه في مجتمعاتنا المرصعة بأقتم أوصاف الجهل والأمية، مبررنا في ذلك أن ظاهرتنا "المثيقف"، ظاهرة زئبقية تستعصي على التصنيف، بل إنها أصغر من أن تقحم في خانة المثقفين حتى تنطبق عليها بعد ذلك تصنيفاتهم، وظاهرتنا هذه ليست ثمرة من ثمار الخيال الجامح، ولا هي أقنوم تجريدي منفصل عن الواقع، بل على العكس من ذلك، نصادفها في كل زوايا لوحتنا الثقافية، خاصة تلك الزاوية التي يغلب عليها لون المحلية.

وهي الظاهرة التي تجد تعينها في ثلة من الأشخاص المتحرشين بالثقافة، وهم في تحرشهم بها يركبون صهوات مصالحهم الذاتية الضيقة، ويبدلون جلودهم على الدوام كالأفاعي، ويدثرون عري جهلهم وانعدام هويتهم برداء الألوان المتعددة تعدد مواقفهم كالحرابي، يتخذون من النفاق خير ملة وأبهى نحلة وأجدى اعتناق، يلوكون بألسنتهم أغرب ما جادت به عليهم صفحات المجلات من مصطلحات و هم في لوكهم لها يظلون غرباء، فيضلون ويضلون وبئس المصير.

وهنا يحضرني قول زعيم اليسار الإسلامي المفكر المصري حسن حنفي، و إن كان هذا القول أرقى من وصف حالهم المتردي: "كثر الوكلاء الحضاريون في مجتمعنا، وتنافسوا فيما بينهم في المعروض والمنقول ...السيميوطيقا، الاستطيقا، الأسلوبية، البنيوية، الفينومينولوجيا، الانتروبولوجيا، الترنسندالية.....إلخ، أصبح المثقف هو الذي يلوك بلسانه معظم أسماء الأعلام المعاصرين في علوم اللسانيات والاجتماع ويطبق هذا المنهج أو ذاك متأثرا بهذه الدراسة أو تلك" "كتاب علم الاستغراب ص 55".

وفي حضن المقاهي التي تطول جلساتهم فيها، تجيد ألسنتهم في العزف على مقام الغيبة، ولا توقع إلا ترانيم النميمة وسقط المتاع من الكلام، أما عقولهم فلا تبرع إلا في رسم المخططات بمختلف تنويعاتها الدنيئة، مهدفينها في كل مرة صوب إقصاء بعضهم البعض.

وفي كتاباتهم كل مرة يتخندقون في الخندق الملائم لحرب مواقعهم السافلة؛ فمرة يعزفون على وتر اليسار، وطورا يرصفون خطابهم بلبنات "الاسلاموية"، وتارة يطلون واجهته بطلاء "الليبرالوية"، فما أظنهم، في رحلة تحرشهم بالثقافة، ناعمين يوما بحسنها، ملتذين بكشف الحجاب عن كنوزها، فهي منهم بريئة براءة الذئب من دم يوسف. ومنها لن يلقوا غير دوام الجفاء بدوام حالهم، كما لاقى سفسطائيو أثينا دوام البين من الحقيقة بدوام سفسطتهم.. فهل نحن، في عصر الاستنساخ، أمام نسخ مشوهة ومزيفة لــ"جورجياس وبروتاجوراس وهيبياس... وغيرهم من السفسطائيين؟ هو كذلك بكل تأكيد،لأن أصحابنا عملة سفسطائية فقدت ختمها، إنهم، بكلمة واحدة، سيمولاكرات سفسطائية، لماذا؟

لأن السفسطائيين على الأقل كانوا على بينة مما يريدون، وكانوا يرومون تلقين فن القول والسجال وفنون الصناعة والتجارة، هادفين من وراء ذلك إلى جعل مدينتهم أكثر رقيا وازدهارا من الازدهار الذي كانت عليه في عهدهم، أما نسخهم الرديئة، أي "المثيقفون"، موضوع حديثنا، فهم لا يتكاثرون إلا في الدنس المحايث لأزمتنا كالطفيليات، ولا يترعرعون إلا في الظلمة كالفطريات، فإذا كان السفسطائيون قد جعلوا الإنسان مقياسا لكل الأشياء، فإن نسخهم الحالية، التي لحقها التحريف، لا تدرك الأشياء إلا بمنظار أنانيتها وذاتيتها التي تخطت كل الحدود. وإذا كان بروتاجوراس هو القائل "إن الإنسان مقياس كل الأشياء، سواء بالنسبة لتلك التي توجد بأنها توجد، أو بالنسبة لتلك التي لا توجد بأنها لا توجد"، هذه العبارة، ذات النفحة الديكارتية حسب هايدغر، لم يجد سقراط بدا من مواجهتها بالقول التالي: "يجب الاعتقاد بأن بروتاجوراس العالم الحصيف لا ينطق عن الهوى".

إن كان ذلك هو حال "بروتاجوراس"، فإن لسان حال سيمولاكره يجعل مصالحه الضيقة مقياس كل المدركات، وقاعدة بناء أحلامه وترصيصها، ومن أقوال بروتاجوراس كذلك قوله: "أما بخصوص الآلهة فإني لست في وضع يسمح لي بأن أتصور شيئا عنهم، سواء أكانوا موجودين أم لا، ولا الصفة التي قد يكونون عليها في حالة وجودهم، لأن الأسباب التي تمنع من الإصغاء للموجود كما هو كثيرة ومتنوعة، منها ما يتعلق بتحجب الموجود ذاته واختفائه ومنها ما يرجع إلى قصور الإنسان وضعفه.. "أما أصحابنا فيعتبرون ذواتهم مؤهلين بالسليقة للكلام في كل شيء والإدلاء بدلوهم حتى في ما خفي وستره حجاب الغيب، في اللاهوت والناسوت...، وفي كل الحقول المعرفية التي لا تخطر لك على بال، ولن يجود بها عليك خيال، مرجعهم في ذلك وثوقيتهم ودوغمائيتهم الطائشة المنفلتة من كل الضوابط .

يبقى من نافل القول، التذكير بأن السفسطائيين جاؤوا كظاهرة واكبت ازدهار أثينا في ظل حكم "بركلس" حوالي القرن الخامس قبل الميلاد، إذ كانت المدرسة السفسطائية إحدى صيغ الأخذ بأسباب الحضارة، في حين نجد "سيمولاكرتهم "و نحن في مطلع الألفية الثالثة، ظواهر معتصرة من شحوب مدننا، ناسجة لشعها في عتمة الفوضى التي تعمها كالعناكب.

بهذا يكون "المثيقف" ظاهرة مفارقة للسفسطائي، فما بالك بالمثقف، مفارقة "عالم المثل" لعالم المحسوسات بلغة أفلاطون، وهو أبعد ما يكون عن بروتاجوراس، أقرب وأدنى إلى شخص "بروطابوراس".

وفي الختام، تجدر الإشارة إلى أن كل حركة تطور تواكبها إفرازات جانبية، وبهذا المعنى قد لا تعدو ظاهرة "المثيقف" كونها مجرد إفراز جانبي للحركية التي يشهدها مشهدنا الثقافي، والتي استطاع من خلالها أن يجلب الأنظار، سواء منها نظرات الإعجاب أو النظرات الشزراء، فذاتنا الثقافية خطت خطوة كبيرة على درب المثول للشفاء من عقد التبعية للمشرق و أنجبت من صلبها مدرسة عقلانية تحظى بالمتابعة، وأسماء فكرية لامعة، لكن الموت أمعن مؤخرا في خطفهم منا الواحد تلو الآخر فقبل أن تجف دموع الحزن من المآقي على أحدهم حتى نفاجأ برحيل آخر، فهل في مثل هؤلاء الذين تحدثنا عنهم سيكون عزاؤنا، ما أظن ذلك أبدا، بل الخوف كل الخوف أن تتسع رقعتهم و أن تعم أرجاء الوطن، بعد أن أفلت نقط الضوء عنها.

2- "المثيقف" والإدعاء الواهم للدور الرسولي
إن كان هذا الدور ملتصقا بمفهوم المثقف ومخالطا له بشكل ماهوي عموما، فإنه لدى "المثيقف" تتضاعف مساحته، كعرض مرضي، أكثر من اللازم، فمن الخواص الإبليسية لـ"المثيقف" إلباس نفسه عباءة الطهر وتعلقه إدعاء بالوظيفة النبوية، فتجده يحسب نفسه لا كغيره من البشر، بل يعتقد في قرارة نفسه أنه من يحمل الخلاص لهم، وما عليهم إلا أداء فاتورة تكليف القدر له بأداء هذه المهمة من جيوبهم، تلك المهمة التي يحسب واهما أنها فوق العادة.

فكم من أمثال هؤلاء ما أدوا للبقال ما في ذمتهم حتى نضب ريقه وكادت روحه تغادر محراب جسده، أو لصاحب المنزل الذي يكترونه أو حتى لأصدقائهم الذين يعينونهم على الخروج من وضعيات لا يفعلون شيئا قبالتها، إلا صنع جروحها بأيديهم وترك الآخرين ينزفون بدلا عنهم........، وإلى هذا تضاف المفارقة التي تطبع العلاقة بين الشعارات التي يحملونها ولا يفتئون يتغنون بها، وبين خرقها ونسفها على مستوى أبسط سلوكياتهم اليومية، إذ نجد الاختلاف شعارا في مقابل إقصاء المخالف وتطويقه والإجهاز عليه سلوكا، التسامح كلاما وكتابة والتعصب وتوسل المديح والإطراء عملا، الترغيب في العفاف والقناعة والنزاهة خطابا والجشع والطمع والشبهة والزحف والوصولية سيرة وفعلا.

ولتأكيد التعلق الواهم لـ"المثيقف" بالطابع النبوي لوظيفته، لا بأس من أن نأخذ عينة خطابية ممثلة لذلك، حتى لا ننعت بإلباس الوقائع ما لا تنضح به، و باتهامنا الآخرين ظلما وعدوانا بتهم لا بينة لنا عليها، وبعد طول تقص، اقترحت في خاتمة المطاف، إشراك القارئ في قراءة ورقة نشرت من طرف أحد النقاد على صفحات الملحق الثقافي لجريدة الإتحاد الاشتراكي ع 27نونبر 1998، "وقد اخترت هذا التاريخ لأنه مفصلي بنظري.

إن بالنسبة للمغرب السياسي أو للمغرب الثقافي كما يفصح عن وجهه من خلال ما يقع في أبرز المؤسسات المعبرة عن صورة المثقف وتطلعاته"، وذلك بمناسبة الحدث الثقافي الذي ميز الساحة الثقافية المغربية آنذاك، والذي أسال الكثير من المداد وأفرز زخما من المواقف، وهذا الحدث كان هو انعقاد المؤتمر الرابع عشر لاتحاد كتاب المغرب "يوم كان اتحاد كتاب المغرب كذلك بالقوة والفعل، وقبل أن يأزف موعد بداية سقوطه الذي بلغ اليوم منتهاه من التردي، بعد الحروب الصغيرة لـ"الكتاب" أو بالأحرى "الكتبة" وتعلقهم بالظرفي وبعدهم عما ينفع الناس ويمكث في الأرض وجريهم وراء الزبد والزبد يذهب جفاء".

لقد جعل صاحب الورقة موضوعا لمساهمته وضع الكاتب في المغرب الراهن، المغرب "العالمثالثي" المقبل على الألفية الثالثة في زمن " يرتهن إلى صناعة الأفكار ..." على حد تعبيره، وهذا الوضع يستدعي من منظور صاحبنا "لفت الاهتمام إلى المكانة الاعتبارية للكاتب في المغرب، باعتباره هو منتج الفكر "معرفة وإبداعا""، هذا الكاتب الذي كان وضعه من منظور صاحبنا" وضع كائن شبه ملغى وموجود على الهامش، مادام فكره ورأيه وموقفه لم يخلق السؤال الذي من شأنه تفعيل الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية".

وهنا مربط الفرس يكشف عن نفسه في هيئة تساؤلية: ما سبب ذلك؟ هل عدم خلق السؤال الثقافي الكفيل بتفعيل الحياة المغربية في مختلف مناحيها راجع إلى الكاتب والمثقف نفسه أم إلى اختيارات سياسية سابقة؟

صاحب الورقة يرجح الاختيار الثاني في مقابل الأول، ونحن من جهتنا نرى بأن تاريخ "اتحاد كتاب المغرب" كفيل بتكذيب ذلك، فعندما كان تحت رئاسة كتاب ومثقفين لقنوا دروسا في نكران الذات وتنزهوا بتعال منقطع النظير عن كل هدف شخصي وضيع متحملين مهامهم كتكليف لا كتشريف، حاملين بذلك اتحاد كتاب المغرب على أكتافهم برمزيتهم وفعلهم الجاد بدلا من أن يحملهم هو كصهوة لجواد المصالح الذي لا يشق له غبار، وما جعلهم منخرطين في الفعل الثقافي الجاد هو إجادتهم الإنصات إلى نبض مجتمعهم والتزامهم بقضاياه ....

وهكذا تصبح تفاصيل المعادلة في غاية الجلاء؛ فكلما اعتلى مثقف محبط فاشل رئاسة اتحاد كتاب المغرب، سرعان ما يستشري الشلل في جسد هذه المؤسسة؛ فيصبح "منصب الرئيس" بالنسبة له، وسيلة لتقديم الولاءات، وزاوية تكسبه هيبة المخاطب الذي كان إلى وقت قريب مجردا منها، لأنه ما استطاع فرض ذلك من خلال ثقل ووزن إنتاجه، والعكس صحيح طبعا؛ إذ عندما ينتخب مثقف بالقوة والفعل، مثقف جدي مبدع وخلاّق، منزّه عن كل غرض شخصي الرئاسة، فإن هذه المؤسسة تستعيد إشراقها وإشعاعها وقوتها، هكذا نخلص إلى أن المثقف يتحمل قسطا كبيرا فيما يطرحه صاحب الورقة.

بعد هذا ينتقل صاحب الورقة إلى الحديث عن الوضع الاجتماعي للمثقف –وهنا بيت القصيد-هذا الوضع الذي يحلو لصاحب الورقة نعته بـ"الوضع الذي يعامل فيه كأيها كائن" ويتبع ذلك بعد نقطتين للحذف بما يلي: "فليس ثمة مسالك اجتماعية يفيد منها هنا وهنالك، سواء على مستوى وظيفته ذاتها- و الأغلب في قطاع التعليم- أو في جانب المرافق اليومية المتعامل معها بشكل يومي روتيني قاتل...".

فما الذي يود ناقدنا المبجل أن يوصل إلى الأذهان؟و كيف يريد أن يعامله كل فرد أو إنسان؟ هل يريد أن تؤدى له التحية والانحناءات على طول سبيله من قبل من كان؟ حتى من قبل الجمادات ومن قبل الحمقى والصبيان؟ وهل علينا محاكمة الناس لأن لهم ما يحفلون به من أمور الدنيا وما يشغلهم، بعيدا عن الأوهام التي تخص منتجي "مصفوفات الكلام" و"مقاطع البيان"؟ وهل يريد صاحبنا أن توضع تحت تصرفه فيالق الحراس والآلاف المؤلفة من الجواري الحسان؟ حتى يكتب ويبدع ويغذي الوجدان ويحشو الأذهان ويهدئ روع النفوس ويزرع في القلوب الإطمئنان والآمان.

إن مثل هذه الأقوال والدعاوى، إن كان لها مثل هذه المعاني، وأتضرع لله أن أكون مؤولا سيئا للأقوال، إن كان ذاك هو المراد فإني أنحاز كلية إلى الرأي الذي يجعل من "المثقف" منبعا لأزمته الأبدية نتيجة اعتناقه لتراجيديا تفوقه المؤسطر التي يؤلفها ويتقمص بطولتها بنرجسية منقطعة النظير....

إن كان صاحبنا يريد ألا يعامل "كأيها كائن" وأن يعرفه الجميع في زمن دقة التخصصات وتناسلها، وأن يبجله الكل، فما عليه إلا أن يضع صدرية مرصعة باسمه وبعناوين كتبه التي لا يبلغ عددها أصابع اليد الواحدة وأن يتفرغ للمشي في الأسواق حتى يطلع عليها القاصي والداني ممن يعرفون فك شفرة الكتابة.

وفي آخر ورقته يحلو لصاحبنا إطلاق العنان للبعد المستقبلي في تفكيره، واضعا جملة اقتراحات للمؤتمر بصيغة الوجوب، إذ يقول في اقتراحه الثالث: "من حق الكاتب أن يعيش حياته لا أن يلبث في الظل".

في هذا الزمن زمن التواصل الذي لا يعرف حدودا وزمن المعرفة للكل، زمن التغيرات الجذرية الكاسحة والانقلابات الوجودية التي لا تزداد إلا تعمقا، لا زال "المثقف" أو بالأحرى "المثيقف" يريد أن يتبوأ درجة النبوة، أو على الأقل النيابة على الآخرين في التفكير، لقد فطن الفيلسوف الوجودي سارتر إلى ذلك منذ زمن بعيد مثله في ذلك مثل مشيل فوكو الذي يرى أن الزمن الذي كان فيه المثقف يقول الحقيقة للناس قد ولى، لأنه لم يعد يعرفها أكثر منهم.

ذاك هو رأي إثنين من "المعلمين الكبار في الزمن المعاصر " كانا بفعلهما النضالي يلهبان الآخرين ويقدمان القدوة والمثال في الالتزام، في حين نجد "مثقفينا"، خاصة أولئك الذين لا تكاد تسمع لهم أثرا في الالتزام بالمبادئ القيمية الكونية ولا في مضمار النضال من أجل استنباتها وتبئيتها وتأصيلها، نجدهم رافلين في أحلام اليقظة المشوبة بسحابة فصامية، في حلكة ظلماتها ينعمون باسترجاع فتات رأسمالهم الرمزي على ندرته التي تداني العدم، رافضين فتح أعينهم المغمضة وتقوية بصرهم الحسير، وجلا من أن يعميهم النور الساطع من حقائق الراهن.

أما أن يحيى "المثقف" حياته فما أظن أن للـ"المثقف" حياة خاصة، تتعالى على معنى الخصوصية التي تسم حياة كل فرد وتفارقها، اللهم على سبيل المجاز والمبالغة المفرطة. أما الخروج من الظل، إلى وهج النور الكفيل بإزاحة الظلمة فيصنع بالفعل الثقافي الجاد والإبداع الخلاق لا بترديد مقولة الفرادة والتميز الوهمية والركون إليها...، مع الكف عن ركوب الشخصي الضيق والتعلق بالمصلحي المبتذل وما تتعالى عليه نفوس النزهاء والعقلاء، والإمعان في تأسيس الإطارات الخاوية التي لا يأتي ميلادها عاكسا لضرورة نابعة من إشكالات يعيشها المشهد الثقافي أو صيغة لتعيين وتحديد مفاصل هذه الإشكالات والعمل على حلحلتها، بقدر ما يأتي تعبيرا عن "الإخوانيات" وعن التقاء المصالح الظرفية لذلك تجدها لا تعمر طويلا، وغالبا ما لا يسمع عنها إلا ضجيج التأسيس؛ لأن ما أوجدها هو نفس العلة التي تسرع بتقويضها وانتفائها.

إن المتتبع وهو يفتح عينيه على هول الفداحة الثقافية التي نعيشها والتي يتركز محتوى تنويعاتها بأفضل ما يكون التركيز فيما ينتجه "المثقف" حول نفسه من خطابات، هي أقرب إلى الخطاب الاستهامي منها إلى الخطاب الواقعي، لا يملك إلى أن يعود بذاكرته إلى الماضي حيث كان المعلمون الموسوعيون الكبار قمة في التعطش إلى الاختفاء و العطاء الأصيل بعيدا عن وهج الشهرة الزائف و قد أصاب أحدهم كبد الصواب.

وهو الفيلسوف المفتتح للحداثة ديكارت، حين نطق بحكمته الخالدة: "عاش سعيدا من أحسن الاختفاء" يضاف إليه سبينوزا الذي رفض حتى المنصب الذي أسند إليه للتدريس في جامعة هايدلبرغ ، زاهدا في كل شيء ضامنا قوته من صقل البلورات، دون أن يحيد قيد أنملة عن الهدف الأسمى أي صقل العقل والتأمل الإنسانيين من خلال كل كتبه ككتاب الأخلاق ورسالة في إصلاح العقل ورسالة في اللاهوت والسياسة، مؤثرا بذلك الخلود البعدي لا السير خيلاء في مسارات اللحظي السريعة الزوال، ثم كانط فيما بعد، هذا الفيلسوف الطهري الذي ترك معينا فلسفيا لا ينضب نظريا وأخلاقيا على وجه الخصوص، وهو المعين الذي لا زالت عقول الإنسانية تنهل منه وقودا لتأملاتها فيما يستجد من إشكالات إتيقية في راهنها، وقد صدق حين قال بعمق حكمة ونافذ تبصر: "أن يتعاطى الملوك الفلسفة، أو أن يصبح الفلاسفة ملوكا، هذا أمر غير متوقع، لكنه أيضا غير مرغوب فيه: لأن امتلاك السلطة يفسد لا محالة حكم العقل الحر"، قبل أن يصبح امتهان الثقافة مجرد مطية ليس لامتلاك السلطة، بل فقط لاستجداء رضاها في هذا الزمن المغربي الرديء.

وإذا كانت قبيلة "المثيقفين" لا تحسن إلا الاستعلاء عن من يتحددون في عرفها كغوغاء ودهماء وتتفنن في تسويد الخطابات حول تفوقها عن عموم الشعب أو ما كان يسمى منذ القديم في ألفاظ لغتنا البارعة في شرعنة التراتبية بـ"السوقة والرعاع"، فإن كانط في شق فلسفته الأخلاقي الذي لا زالت قيمته دائمة التجدد، قد انطلق من أخلاق الرجل البسيط "أخلاق الاسكافي"؛ وهو ما يؤكده في كتابه "نقد العقل العملي" في الصفحة 52 "من الترجمة العربية التي أنجزها غانم هنا عن الأصل الألماني والصادرة عن المنظمة العربية للترجمة سنة 2008"بقوله: "لا يقلقني بشيء ".."الاعتراض القائل بأنني أريد إدخال لغة جديدة.

ذاك أن نوعية المعرفة هنا تقترب هي ذاتها من الشعبية.........إن اختلاق كلمات جديدة حيث لا تفتقر اللغة إلى هذا الحد من التعابير لمفاهيم معطاة هو سعي سخيف وراء التميز عن الجمهور، إن لم يكن بأفكار جديدة و صحيحة، فعلى الأقل بخرقة جديدة تلصق على ثوب عتيق.".

إن هؤلاء العظام الذين ذكرناهم لا زالت الألسن تردد أسماءهم في كل جامعات العالم وخارجها، وما انفكت التأويلات تتناسل قبالة ما أنتجوه، يوم كان الإنتاج الفكري إنتاجا فعلا وقوة في ظروف قاسية على أكثر من صعيد.

ومع ذلك حين ينعم عليك القدر بتصفح كتبهم فإنك تتذوق بالفعل ملح العناء في الإنتاج الفكري، مما يدفعك كقارئ إلى بذل الجهد ويرغمك على التحمل والصبر كي تكون جديرا بعناء القراءة، فكتبهم هي فعلا كتب لهم من ألفها إلى يائها، إذ لا يشوب صفاءها اقتطاعات لأقوال الغير، و ما يكون من هوامش، إنما يأتي لمزيد توضيح، أو إظهارا وتصريحا بما ورد في المتن رمزا وما كان في نسيجه مضمرا، قبل أن ينقلب التأليف في هذا الزمن الرديء إلى مجرد "قص" و"إلصاق" إلى الدرجة التي غاب فيها البعد التركيبي ووحدة الرؤية عمن يحسبون أنفسهم مؤلفين وهم في ذلك واهمون، فقد تجد في المؤلف الواحد.

بل حتى في الصفحة الواحدة منه، أكثر من استشهادين متناقضين كليا، لأن "القاص" و"اللاصق" وليس المؤلف ينفر من العناء ويستلذ اليسر، ويستعذب اقتراب ظهور "مؤلفه الأرخبيل" حتى ينعم بالظهور ويوزع الابتسامات ويحبر، في كامل الاعتداد بالنفس، التوقيعات على مادة أكثر من ثلثيها ليس له، بل حتى في هذين الثلثين، لم يأخذ وقته الكافي في تمثل وفهم مضمون محتواهما قبل أن "يقصه" و"يلصقه"، ومن استبد ت به الأشواق للمفارقات المستعصية على الحل، وسكنت جنبات رأسه الصبابة لتجديد الوصال مع الصداع النصفي، فما عليه إلا اقتناء ما يسميه كتاب"ـه" تجاوزا، دون أن يرف له جفن أو يغمره قليل حياء.

والأنكى من كل هذا أن تحمل سفينة "عملية القص واللصق" نفرا من غير المسكونين بهم السؤال وهوى البحث عن الحقيقة ولا بالرغبة في إفادة الآخرين كي تحط بهم أخيرا، وقد ألصقت بأسمائهم صفة "دكتور"، في ميناء الجامعات المغربية، ليتفرغوا بعدها ليس للبحث عن الجديد وتعميق مسارات الإضافة الكمية والكيفية في ميدانهم العلمي وحقلهم المعرفي بما يعود بالنفع على طلبتهم ومجتمعهم، بل لأشياء أخرى، ليستحيل بذلك منصب الأستاذ الجامعي إلى عصا موسى، بها يوجد أصحابنا في موقع حملة الخطاب العلمي ومنتجيه عرضا وشكلا لا جوهرا ومضمونا، ولهم فيها مآرب أخرى منها التفتيش عن اللذة بالنسبة لمن في قلوب مرض منهم.

إن الحديث في هذا الموضوع وعنه لهو حديث ذو شجون، مما يظهر أن الإفادة الوحيدة التي يقدمها أغلب "المثيقفين" في هذا البلد العزيز، ليست هي الإفصاح عما يلم بذاتنا الجمعية من الآلام وما يحركها من آمال وأحلام، عاملين على التشخيص الواقعي للأولى، وإضفاء القابلية للعقلنة والسترجة ومن ثم الأجرأة في الأفق المنظور بالنسبة للثانية، بقدرما هي تلك الإفادة المتعلقة بالتقديم التكثيفي والتركيزي الراشح الفاضح لكل الأدواء والأعطاب التي يعانيها "النحن المغربي" والعمل على عرضها في مساحة مكتنزة بالمرض.

مع هؤلاء وأمثالهم أصبحنا في وضع لا تحسن التعبير عنه إلا عبارات للفيلسوف السياسي ليو ستروس حين قال: نصبح "حكماء فيما يتعلق بكل الشؤون ذات الأهمية الثانوية" "لكننا يجب أن نسلم أنفسنا للجهل الكامل فيما يتعلق بكل الشؤون الأكثر أهمية" مما يفضي إلى نتيجة متناقضة بذاتها وهي أننا"أصبحنا في موقع العقلاء والحكماء حين ننشغل بأمور تافهة، لكننا نقامر كالمجانين إذا واجهتنا قضايا جادة :الحكمة بالتقسيط و الجنون بالجملة..........".

____________
* كاتب من المغرب
 
 
 
 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free