نورها في الأغوار
(على سبيل التقدمة)
محمد الشركي
1 ــ خريطة مقطعية للأغوار
عبر المنحدرات الاختبارية والمؤرقة لجبال الزمن، وعلى امتداد أخاديد الواقع وأحراشه ذات المجازفات عالية الوعود والمخاطر، وبين الأروقة المتاهية للأنساق المنومة والأجهزة المترصدة والقاتلة، وفي الدهاليز المتراكبة للنفس والجسد معا، وعند الحافات الخطرة التي يتصاعد منها عنف التاريخ وصخب المجتمع، وفي الآبار العميقة للذاكرة ذات الفرشة الجيولوجية الموصولة بليل العصور، وعلى طول الأنهار القديمة المنهمرة حتى الآن بين تضاريس الروح، وبين المجازر والأوحال والزهور والآلام العابرة للقارات في طرفة عين، وعلى امتداد البرية الوجودية التي تطبق عليها سطوة الاتصالات وتتصاعد من أعماقها أفدح عزلة باطنية وكونية، تبدو الكتابة (وبقية الفنون الأخرى) بمثابة شعلة طالعة من خندق الدفاع الأخير، ونور مكابر وسط الانطفاء المتفاقم للجغرافيات الجماعية والفردية، والانقراض المتسارع للذخيرة العناصرية والحيوانية والنباتية والروحانية للعالم. غير أن نور الكلمات - كما الصور والألحان والألوان والمواد - بالغ الهشاشة، لأن ضمانته الوحيدة هي جرحه نفسه وغذاءه الأوحد هو زيت القلب. القلب الذي هو "عضو من نار" على حد تعبير الروائي مايكل أونداتجي في عمله الباذخ "المريض الإنجليزي".
علمني ليل العزلة، ولقنتني شساعة الآخر، وأفهمتني سهرة الحب، وأكدت لي عظمة الموت أن الكتابة خريطة أغوار، جيوبويطيقا سفلية تخترق بداهة السطح الواقعي لكي تلتقط صورا مقطعية لما تمور به أعماقه من قوى طليقة، وشبكات ذهنية واستيهامية دائمة الحركة والاهتزاز، وهواجس وخيالات قديمة ترسبت في قعره منذ تأسيس العالم. الكتابة، كما الحياة، سهرة أغوار.
غالبا ما اجتذبتني الأغوار وعملها غير المسموع حتى قبل دخولي أقاليم الكتابة. فبفضل القراءات المبكرة لألف ليلة وليلة، والسير الملحمية، ومتون الشعر الجاهلي، وفرائد الأدب العالمي، وما أوقدته في أعماقي من رغائب وأشواق غامضة، وما رسخته في دخيلتي من افتتان فطري بالعوالم اللامرئية ومناطق الظلال والتجاويف، إضافة إلى ميلي الطفولي إلى العزلة الفرحانة بمناسك حلمها، أحسست أن وراء كل واقعة أو مشهد أو حادث رسالة أو رسائل معطاة وغير قابلة للاستلام إلا بالتسلل ما وراء الأسيجة والأسوار العالية التي أحاطوا بها المجال الواقعي من كل جانب، وأقاموها حول جغرافية الروح من كل صوب. وهذا التسلل غير المضمون، الذي يتم جيئة وذهابا بين المشهد الماثل للعين ونسيج علائقه الخفية، يستنفر التاريخ الشخصي والرمزي ويمتحنه في زمن وجيز. إنه أشبه ما يكون بتلك اللقطات الفخمة والحدودية التي افتتح بها جان كوكتو (الكاتب والشاعر والرسام والسينمائي) فيلمه "دم شاعر"، حيث نرى يد ساعي البريد تمتد بالرسالة إلى صندوق الرسائل ثم تنقطع اللقطة ليظهر أورفيوس نازلا إلى مملكة الموتى وعائدا منها بحبيبته أوريديس، ليعود بنا كوكتو فورا إلى استكمال اللقطة الأولى بوضع ساعي البريد للرسالة في الصندوق.
مع دخولي أرض الكتابة، والبدايات المكتنفة بالغموض والفتنة، تعمق الصدع الزلزالي بين الواقع والرؤيا، بين المجال العام المحتكم للتوافقات الاجتماعية والحراسة السياسية، والمجال الباطني الموصول بالاندفاعات والمخاوف والاشتهاءات السحيقة. فبالرغم من القوة الاستحضارية للكلمات، وما تؤتيه من تملك رمزي لما تشير إليه وتلتقطه، أحسست تدريجيا بأن الكتابة تدبير لغياب فادح، وأن اللغة، كما الوجه، حركة ذهاب وإياب مستمرين بين الحياة والموت، بين الحب والفقدان، وبين النور والظلمة. وهي سهرة أضداد لا تروم حل التناقضات بقدر ما تبتغي الاضطلاع بها ورفعها إلى مستوى مجازفة عالية تلتغي فيها وبها الحدود والموانع. لذلك كان التوزع المبكر بين القصة والشعر والنص النثري المفتوح تأشيرا عفويا على مخاصمة الفوارق الاعتباطية بين أجناس الكتابة، وتطلعا إلى استحقاق هذه الأخيرة بتشعبات تضاريسها المتداخلة.
لكن يحدث أحيانا في بعض المسارات الشخصية أن يخضع الهاجس الحميم لامتحان عظيم.
ففيما يشبه اختبارا رمزيا من طرف أعجوبة فاتنة لم تكشف عن وجهها، تزامنت بداياتي في جغرافيات الكتابة مع سفري إلى تازة، مدينة المغائر والأخاديد والأجراف، لقضاء فترة الخدمة المدنية بمندوبية وزارة التعليم هناك. وقبل ارتحالي إليها من فاس في شتاء 1983، كنت قد نشرت عددا من النصوص القصصية والشعرية أذكر منها بالأخص قصة "حكاية ببداية وبلا نهاية" (بمجلة "أقلام" المغربية) التي استدعيت فيها سقراط من أعماق ضريحه الإغريقي إلى المغرب، لكي ينخرط في بحث شاق عن ابنته صوفيا غداة التصفية المعلنة والقاسية التي باشرتها الدولة آنئذ ضد الفلسفة، وقصيدة "عيون الجزيرة" (أسبوعية "البلاغ المغربي") التي أحسست فيها، على نحو روحاني، بدنوي من مشارف صوتي الخاص، وبصعود بعض الصور - المفاتيح التي ستستبين امتداداتها لاحقا، من قبيل : "كنت ترقصين، كيف أنساك؟ / الغابة. العشاءات الطوطمية / ترقصين وأنا قبالتك أموت / أرى الموسيقى ترتعش فوق جسدك، أراك / تموتين والحليب الأزرق / ينساب من ثدييك / كنا نموت، نبحث عن الكهوف / وألسنة النيران تجري / ونحن ذاهلان / (...) سأحتفظ بجرحك يا نبتة لن ألمسها / يا نبتة مفرحة، يا نبتة قاتلة / يا نبتة تنحفر في ليل الجليد الوحشي / دمي الأخضر يسيل، أنا أسيل / أتدفق لا نهائيا / على فضائك البنفسجي / على أخدود / ليس سوى عمق ليلتك الأسطورية".
معنى هذا الاستشهاد المطول أنني حين دخلت تازة ذات مساء شتائي من سنة 1983، كانت بعض الإشارات الأساسية، ذات الرجع التلقيني والشعائري، تلوح مثل شعل مكابرة في تجاويف أرضي الباطنية. فالعشاءات، والكهوف، والنبتة الجارحة والمفرحة والقاتلة، والأخدود، وعمق الليلة الأسطورية، كلها علامات ارتكازية ستستند إليها وتهتدي بها إقامتي الطقوسية في المدينة المحروسة برأفة الجبال وسهاد المهاوي. ففي المجمل، كانت سنتا الخدمة المدنية، بكل ما قدر لي خلالهما من أفراح منهكة وانخطافات مع وجوه ومواقع منيرة، بمثابة سهرة مديدة في رحاب زمن تتجمهر فيه أزمنة العالم قاطبة، وفي كنف مكان تضج جغرافياه وجيولوجياه بقوى الأرض وتعليمات الأغوار.
هذه السهرة محفورة أبدا في فكري، ومحفوظة كالوصية في صدري. ففي عمق برزخها الممتد كسراديب القرون الوسطى أسفل الليل والنهار معا، وبفضل حوار وجوار بعض الصفايا والأصفياء في ذلك الصقع الفخم، والترف العناصري الذي رفع تلك الرقعة الجغرافية إلى مستوى محفل كوني، والقراءات الجديدة الحاسمة (منها أساسا لا حصرا : "أناشيد الليل" لنوفاليس، ديوان المتنبي، الأعمال الكاملة لكل من جبران خليل جبران وهولدرلين ومالارمي ولوتريامون، رواية "جنة" للكاتب الكوبي خوسي ليثاما ليما، أعمال الروائية الإيطالية إلزا مورانطي، أعمال كواباطا وميشيما وتانيزاكي، "المعرفة عبر المهاوي" لهنري ميشو، و "أمور مخفية منذ تأسيس العالم" لرونيه جيرار...)، بفضل كل هؤلاء وكل ذلك ازداد افتتاني وتوغلي في تلك العلاقة الاستغوارية بالكتابة، وتفاقم إحساسي بجسامة رهانها، وتعمق ارتباطي باللغة العربية كحبيبة رمزية كبرى، وترسخ يقيني بأن الأغنية ليست وهما.
لم تكن الأغنية وهما. أبدا.
أخبرني بذلك الفرح غير البشري الذي أرقني على امتداد الليالي البيضاء التي قضيتها أستدعي الكلمات والاستعارات والمعاني والرموز من حافات الأجراف وأعماق الصحارى، مفاوضا الأحياء والموتى معا، لاعبا بما يلعب بي، وملتمسا النصح والمشورة من وجه قديم، عال وسفلي في الوقت نفسه. ضمن هذا الأرق المجاور للينابيع وخطوط التماس، كتبت نص "سهرة العسل البري"، والمقاطع الستة والثلاثين لـ "الليلة المحروسة"، وقصص "ملكة الكبريت"، و"كتاب الحروف"، و"السهم والصحراء"، وقصائد "نمر البراري" (مجلة "مواقف" اللبنانية) و"اللوح الصحراوي" (مجلة "المقدمة" التونسية التي كانت تصدر بباريس) و"عشاء الوجه الوثني" (الملحق الثقافي لجريدة "الاتحاد الاشتراكي" المغربية، الذي نشرت به أيضا القصص والنصوص المشار إليها قبل قليل). وبعيدا عن أن يكون هذا التوزع بين الأجناس والسجلات الكتابية -فضلا عن الترجمة- شتاتا بابليا للصوت الشخصي وتفريقا أوزيريسيا لأعضاء الجسد الرمزي، فإنه كان، بالأحرى، سعيا مهتاجا إلى سبر والتقاط التفرعات والامتدادات السحيقة لهوية سردابية كانت في طور التشكل المفتون بتشابك النثر والشعر معا، وتعالق الوشائج الوثقى للوقائع والأسطورة والحلم.
هذه هي الوصية الذهبية التي أغدقها علي مقامي العابر - والمستأنف باستمرار - لذلك الصقع المترف بالجغرافيات القديمة : على الكتابة أن تكون كهاتيك الأجراف والمغائر مرهفة وصارمة، مخطوبة لليل السر ومندلعة من عطش الأعماق. عليها أن تكون - على غرار الأزهار الفهيمة والحيوانات العليمة - بدائية الاستشعار، شهوانية المقترب، وحاسمة التورط في العالم بشقيه : الغابر والظاهر، المعتم والمنير، الميت والحي، والسحيق والمستقبلي. عليها أن تخوض أوحال الواقع، وتعبر مفازات الأنساق الإجرامية، وتطلب من القتلى تسمية قتلتهم، وتمد ضوءها نحو الزهرة المكابرة في أعماق البركان، وأن تكون بمثابة سفينة نوح عملاقة تلتقط وتخزن العينات النادرة للجمال العالي، والروح الشامخة، والنبل التلقائي، والإباء القديم، ومن ثمار البلد وأزهاره وحيواناته وروائحه ومعماره وشهدائه، وتهريب كل ذلك إلى زمن آخر قد ينبثق من رحم الدمار الحالي. عليها أيضا أن تستكشف الخرائط التي تتجمهر في كل لحظة، وأن تمنح امتدادا للاحتمالات الواردة في كل حين، وألا تتهيب من عبور الأنفاق الطويلة والرهيبة لمساءلة ربات القدر الإغريقيات الثلاث المنهمكات في نسج الخيوط الهشة للأعمار والمصائر. وعليها أخيرا - هي ابنة الفراق الأكبر - أن تكون وكيلة للقاء من طراز آخر لا تنفصم عراه.
من أجل هذا اللقاء الجليل والباذخ والحاسم، الواقعة مجرياته دوما عند خطوط التماس بين الهوية المعطاة والهويات الموعودة، وفي أعقاب امتحان أضاء تضاريس الجسد وأخصَبَ أوكار الروح، شرعت عند عودتي إلى فاس في خريف 1985، في كتابة رواية "العشاء السفلي" لالتقاط وتركيز مجمل الهواجس والرؤى والنداءات السحيقة التي جاش بها مقامي في مدينة التجاويف اللامطروقة. كان وجه السيدة الجريحة - التي ستحمل في "العشاء" اسم ميزار، وفي النصوص اللاحقة اسم سهوار - قد هب من مثواه البعيد، فمزق الحجب الزمنية، وهزم المسافات، ليوصل إلى ليل اللغة والروح معا برقية تقول : "حان وقت وصولي". وكانت المأدبة السفلية، التي ظفر خلالها الوجد القديم المتبادل بين مغران وميزار بليلته العالية والنهائية، إيذانا بهذا الوصول الذي لم يختمه موت السيدة الجليلة إلا لكي يستأنفه في مكان آخر، أي في متوالية النصوص الشعرية والنثرية التي أعقبت الرواية، والتي جمعتها في ديوانَيْ "كهف سهوار ودمها" و"السراديب" اللذين يمنحهما التعالق الباطني مع "العشاء" شرعية وضرورة ضمهما إليه في هذا الإصدار الجامع. ذلك أن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا المستوى، هو أنه سواء تعلق الأمر بميزار، أو بسهوار، أو بأية امرأة رمزية عميقة آتية، فإن الوعد الأهم، ما وراء كل اسم شخصي أنثوي، ماثل في ذلك النور المنادي خلف تخوم فكرها ومجاهل جسدها وأجراف نفسها. هو نور سليلة الليل الأكبر، والمخطوبة للفجر الذي هي زهرة صبحه. نور ابنة الرياح والخطوب والأعياد القديمة، والمنشغلة في كل لحظة من عمرها العابر بالإفلات من براثن واقع اقترفه الجهاز بكل أياديه الظاهرة والخفية. نورُ المنتسبة للعناصر وقوى الأرض، والمتورطة في خريطة الاحتمالات الباقية. وهو أخيرا وليس آخرا نور الغريبة التي تحرس الأغوار
محاورة الغريبة التي تحرس الأغوار (مقاطع من نص طويل قيد الإنجاز) 2 ــ
- أأنتِ التي في الطرف الآخر من الخط الهاتفي؟ أهو صوتكِ الذي يتناهى إلى سمعي؟ أهو فم روحك ينهب الأرض نهبا ليصل إلي؟ أهو ليلك الفهيم يطوي فيافي الدمار ليلقي رداءه علي؟ أحس بك خلف برد الجغرافيات المتراكمة بيني وبينك. أشم رائحة حضورك ما وراء البحار المسيجة، والحدائق المختطفة، والمنائر الغرقى، والعمائر المرتهنة في قبضة الفضائيات، والمجالات المسطحة بالرداءة والمدججة بالعنف. أشم العطر المتضوع من أعطافك البعيدة كما لو كان رسالة مختومة بزهر الأودية ولبلاب الأجراف، ومنديلا ساميا ملوحا من عمق مغارتك، ويخيل إلي أن التضاريس يمكن أن ترفع حجبها الصخرية في أية لحظة لتكشف عنك، وأن الزمن يمكن أن يميط أستاره الخيالية ليسفر عن وجهك. أأنتِ التي في الجهة الأخرى لهذه الليلة؟
أجل. لكن كيف تسمعني وأنا بعيدة؟ كيف تلتقط خيط دمي المتعثر بين الأودية والشعاب؟ كيف عثرت على إحداثياتي وسط التباس الخرائط؟ كيف يبرعم الصوت في أرضٍ يبابْ؟ كيف ظللت ساهرا منذ القدم تحاول تركيب رقمي السري وتجميع الكلمات جنبا إلى جنب لإضرام الشعلة التي تنير وجهي في سواحل الغيابْ؟ كيف قرأت إشارات الموتى في سراديب الأزمنة، وخضت مياه الآخرة، وعبرت الصراط الجارح لنهارنا الصعب، وصمَمتَ آذانك عن نداء عرائس البحر وفاتنات البر، ودُستَ بنعلك جلاميد الصخر الواقعي ومناطق النيران، وبقيت حالما ويقظانا في المدن المنومة مغناطيسيا، وسرتَ وحيدا في الصحارى التي تصأى فيها الثعالب تحت الأقمار المرة، وجدلتَ من دمكَ حبلاً مَدَدْتَهُ باتجاهي، وتعثرتَ مراراً وسقطت مراراً ونهضت في كل مرة مستوصيا بيقينك من أننا - مهما شط المزار - مجتمعان لا محالة في سهرة المآب؟
- إذا كنت أسمعكِ حقا، إذا كان صوتك يتناهى إلى مسمعي في هذه الغمة الوجودية التي تحاصرني بجحفلها الجياش من الظلمات، وإذا أمكن لهذا الحوار المتواطئ أن ينعقد بيننا الليلة، ما وراء المفازات الشرسة والقوى الخصيمة، فلأننا تورطنا معا، منذ العصور القديمة، في نظام مزدوج، عال وسفلي في الوقت نفسه، تتحالف فيه قدرات السماء والأرض ويمنح المنخرطات والمنخرطين في شبكاته العابرة للزمن والجغرافيات خاصيتي الاستشعار الجسماني والالتقاط الروحاني لبعضهم البعض مهما باعد بينهم المنتأى. بدون تورط داخلي، والتحاق لا يقبل الإبطاء بديار الآخر ومواقعه الباطنية، ما من سبيل لوقف الحزن الذي ينشره الفراق في هذا العالم، وما من استعادة لأية جنة وجدانية أو شهوانية أو رمزية مفقودة. إذا كنت قد عثرت عليك - ولو أنه عثور عن بعد لا ينتهي التفاوض بشأنه مع الموتى الساهرين عليه - فلأنني استوصيت بصبر وحكمة مستكشف الينابيع بقضيب الزيتون المعقوف. إذا كان قضيب الزيتون ينجذب إلى النبع المدفون في جوف الأرض، فكيف لا ننجذب إلى بعضنا ونهتدي إلى الإحداثيات الخاصة بكل منا ونحن نبث على نفس الموجة الروحانية؟ كيف لا أبلغ مشارف موقعك ودمي موصول بدمك حتى لو كنت ميتة؟ هل أنت حية؟ هل كنت نائمة وأيقظتك؟ هل أرى في منامي أنني أخاطبك أم أنني أكلمك من داخل منامك أنت؟
- أنا هذه الحالات جميعها : حية منذ بدء الخليقة. ميتة منذ تأسيس العالم. مستغرقة في نوم سحيق. ويقظانة منذ ليل البدايات. لا ينبغي إذن للقلق أن يساورك ولا للخوف أن يعتريك. فأنا معك في حياتك ومماتك، وفي يقظتك ومنامك. لكنني في كل هذه الحالات لست معطاةً لكَ إلا بقدر ما تزيح الحجب وترفع الأستار لتتسلمني. بقدر ما تنقشع غشاوات دخيلتك، وتصفو بصيرتك، وتستضيء طويتك، تراني، وبقدر ما تسلك تضاريس معناي وتتوغل في أودية نجواي تلقاني. لأنني شفيرٌ مزدوج ليس بالنسبة لك فحسب، بل حتى لنفسي. وكما أمسكتَ يدي عندما كنا في ذلك الصباح البعيد نهبط الأدراج الحجرية اللولبية لتلك المغارة الرؤوم جنوب تازة، وحوطتني بذراعك فيما كنت أنير بمصباحي اليدوي سبيلنا في دهاليزها السفلى، وأوقفتني في التجويف المسمى "حمام السيدة البيضاء" لتقول لي الكلمات التي صارت مهدي الثاني، ودثرتني بمعطفك الشتوي حين داهمنا تيار هوائي بارد من أحد السراديب الجانبية، كذلك أنا أحوج ما أكون إليك الليلة لتسندني في الحافات المجهولة لأعماقي والصدوع المزدوجة - المشعة والمظلمة - لشفيري القديم.
- لا بأس عليكِ. صدوعك ومهاويك تحنو - من حيث لا تدرين - عليك. ومنحدراتك المجهولة إنما تفضي بك في النهاية إليك. إنها مستقبلك المشتبك بماضيك. وكما أن فاس مزنرة بسبعة أبواب، وروما محاطة بسبعة تلال، والجسد مفتوح على العالم -حسب الميثولوجيا الصينية- بسبع فوهات، كذلك أنت مخطوبة لسبعة أزمنة تتحالف جميعها في دمك البهيم وتتجاوب بالألم والغناء في ليلك العظيم: زمن الأضحية المقدمة - منذ العصور السحيقة - لتهدئة القوى الغضبى، وإرواء عطش الأرواح الدموية، واستدرار عطف الأنهار، واسترضاء جبابرة كل وقت، ومهادنة زعماء القبائل. زمن الناجية في كل لحظة من الفخاخ والأشراك والكمائن، ومن كل ذي مخلب وناب وفتوى، ومن صقيع الأوفاق ورياء الخطب السياسوية وأحابيل شبكات الرقيق وقناصة الإعلانات والوصلات الإشهارية المستبيحة لجسدك المبارك. زمن الطفلة الطالعة إليك دوما من فجر العمر، واللاهية باستمرار في الباحات المشمسة لروحك، والمطلة أبدا بنظرتها المشاغبة من أعماق عينيك الحكيمتين. زمن اليتيمة المقرورة في نهايات الأرض. زمن المنتسبة في كل حين للأرومة الأسطورية العالية التي تحدرت منها شقيقاتك المتجمهرات فيك: بيرسيفونا، فيدرا، أرتميسا، سيبيلا، أنتيغونا، عشتار، إيزيس. زمن حاملة القنديل في غرنيكا بيكاسو وفي الأنفاق السفلى المظلمة العابرة للنهار والليل والحياة والموت. وزمن الملكة الممسكة بزمام المصائر والأنصبة ومدبرة الوليمة الإلهية على الأرض.
- أحس أحيانا، بالنهار كما بالليل، وخصوصا بالليل، أن ثمة زمنا آخر، أشد فداحة ووطأة، يختطفني ويلقي بي في المضائق الصخرية التي تنقطع فيها حبال الصوت والدم معا. إنه زمن الولهى التي أطعمتني وتعهدت جسدي منذ الولادة، وظلت ولا تزال تهجج كل صرخة حب أو ألم أطلقها. أرى بعينيها الماورائيتين، وأسمع بأذنها السحيقة، وأحس من خلال شبكة أعصابها وأليافها المرتعشة. وهذا ما يعمقني وينفيني في آن واحد. إنها مترسبة في قرارتي كالملح الذي يفاقم عطش أعماقي. مستعرة كالنار في قامات شوقي وامتداد عويلي. أموت في كل لحظة لشدة ازدحام الحياة اللامحدودة في محدودية كياني. أفنى، كالقديسة تيريزا، لفرط تورطي في حب يفنيني. كيف أتدبر أمري والجسد الذي أعطي لي أضيق من أن يستوعب أنهاري؟ كيف ترتسم في أعماق الحريق الهائل خريطة دياري؟ لا أسألك أنت، بل أسال ما يسألنا معا، ذلك القانون القديم المقتدر الذي يجمعنا هذه الليلة رغم شراسة المنتأى، ذلك الرابط السحيق، منبع الضوء والفكر، الضارب في أغوارنا المتواطئة. أسأل ولا أنتظر الرد، لأننا، أنت وأنا، ينبغي أن نمضي أبعد من كل رد حين نسافر معاً. هل سنسافر معا؟ هل سنشرب سوية من المياه النقية المنبجسة من أجراف بيرسيفونا المظلمة؟ هل سندخل حفل الأعماق يداً في يد؟
3 ــ حفل الأغوار
نحن في قلب هذا الحفل منذ ليل الأزمنة. في قلب الكلمات، والرموز، والأغاني، والأساطير المعترشة في الأعماق، وآلاف الإشارات المؤكدة للتواطؤ اللانهائي، ومختلف أشكال التعاقد مع البؤر المضيئة في الذاكرة الألوفية وفي الواقع المشرع على كل الاحتمالات، وديمومات الفرح السحيق ضدا على الحداد المعمم، وتقاطعات الأزمنة الكونية في كل جزء من الثانية، ووصايا الموتى المورقة أبدا على جدران القلب، وملايين الأعراس النباتية والحيوانية المنعقدة الساعة في جنائن وغابات العالم، وصرخات وهمسات الحب في كل عناق مرفوع إلى أعتاب الأبدية، وتضرعات الكهنة في الأودية الفرعونية وبراري آشور وجبال التبت، وابتهالات الساحرات في كهوف الجنوب، وملايير القرابين والتضحيات المهداة إلى مدينة سماوية تأخر حلولها في الأرض، وتشابكات المصائر الفادحة والمشبوبة لشخوص وآلهة الأساطير الإغريقية، وأضواء الشموع الخضراء الموقدة في ليالي الأولياء والمتصوفة، وروائح البابونج والمسك والعنبر والعود القمري ومسك الليل والورد البري.
نحن في قلب حفل الأغوار المعطى في كل لحظة وغير المتسلم إلا في أعقاب سفر اختباري شاق في أقاصي الليل التاريخي والرمزي، ضمن شساعة ما يمتحننا ونمتحنه في كل حين، ومصداقا لإحساس سحيق بأن النداء لم يكن وَهماً، وأن نوركِ في الأغوار ليس حلما. إنهما نفس النداء والنور المتبادلين أبدا بين أنديميون اليقظان في أعماق مغارة "لاتموس" وسيلينا العظيمة الساهرة عليه على امتداد الزمن.
محمد الشرﯖــي
أنديميون
أكتوبر 2010