http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  سلطة الواقع وجمالية التخييل
 

سلطة الواقع وجمالية التخييل

التجربة السردية لعبد الجبار السحيمي
د. محمد محبوب

يشكل الأستاذ عبد الجبار السحيمي علما بارزا من أعلام الكتابة السردية والصحفية بالمغرب الحديث. إنه رمز من الرموز الإبداعية الكبيرة التي خاضت تجربة التأسيس بوعي متوقد، وحاسة إبداعية مرهفة، وقدرة باهرة على ترسيخ نمط إبداعي جديد منذور لتشخيص اليومي، وبناء العوالم التخييلية، وإعادة صياغة العالم وتأسيسه رمزيا بحمولته وأبعاده الثقافية والاجتماعية والفنية. ومن ثم، تحولت القصة بفضل إسهاماته وعطاءات جيله عامة، إلى نص ثقافي زاخر بالغ التميز والدلالة الفنية والجمالية، يحتضن الوجود بشساعته وعمقه، ويسعى إلى التوسط بين كثافة التجربة الإنسانية وحركية الواقع وديناميته. ولعل هذه القدرة على صياغة المتخيل وتحبيكه تنبع من امتلاك الرجل لمهارة الكتابة وأفق التخييل، وطاقة خلاقة للرؤيا، وارتياد مساحة التساؤل والاستكشاف. لذلك تحول الفعل الإبداعي والسردي لديه إلى نوع من التمثلات للذات والتاريخ والهوية والفن. وامتزج في تجربته السؤال السياسي بالسؤال الثقافي والإبداعي ـ على حد تعبير الأستاذ نجيب العوفي ـ (1)، حيث نشأت الكتابة الإبداعية لعبد الجبار السحيمي في ظرفية مشبعة بالصدام الإيديولوجي والصراع السياسي، مما جعل هذه الكتابة تصطبغ بخصوصية المرحلة، وتنطبع بملامحها وتجلياتها. فجاءت مرآة لحركية الواقع، واستجابة لأسئلة المجتمع وهمومه. بيد أن هذه الكتابة، وإن ارتهنت بواقع المجتمع وأسئلته، وجاءت تعبيرا عن تمثلاته ورصدا لطبيعة ورؤيته وتصوراته، فإنها بالمقابل، كتابة متمردة فنيا ساعية لإيجاد المسافة الضرورية مع الواقع، وباحثة عن خرق نمطية الكتابة، ومقوماتها الفنية، وحمولتها الايديولوجية. فرغم أن الكاتب انزاح عن التجريب، فإنه اجترح لنفسه أسلوبا فنيا متميزا أو »ما يمكن أن ندعوه »حساسية« جديدة في الكتابة، متخففة ومتحررة من دالة الكتابة التقليدية وآثارها« (2) ومن هنا نستطيع الحديث عن واقعية مختلفة لدى عبد الجبار السحيمي، فهي واقعية فنية ونقدية تتجاوز المرآوي والسطحي، وتنزاح عن المنظور الاستنساخي للواقع بحثا عن آليات جديدة لاستيعاب هذا الواقع وتمثله، حيث نجد هيمنة التعبير عن معاناة وهموم الطبقات العريضة من المجتمع، ورصدا للقضايا الاجتماعية المتفاقمة دون الإخلاص في رسم الواقع وإعادة انتاجه. بل إن الكاتب ينزع الى إعادة تشكيل الموجودات والأحداث في أنماط وقوالب فنية تنفتح على السخرية، وتمزج عوالم الحلم بالواقع كما نجد ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ في قصة »السجن الكبير« (3) التي تروم تصوير معاناة مسجون محكوم بالمؤبد يعيش حالة انتظار دائم للموت. غير أن هذا العذاب المتواتر لايلبث أن يلتحم بالخيال، فنكتشف مع السجين تخيلات يسترجع من خلالها معالم سجنه القديم. ومن سمات الكتابة القصصية لدى عبد الجبار أنها تجنح الى لغة الاحتجاج والتمرد على وضع صادم مشبع بالبؤس والحرمان، مليء بالاختلالات والنواقص، بيد أن الشخوص رغم نزوعها إلى الاستكانة والخضوع، فهي ترفض السقوط في حمأة الفساد، وهكذا نجد »حمدان« الموظف الصغير بالمحكمة يرفض الرضوخ لسلطة الإغراء وجاذبيته رغم وضعه الاجتماعي البئيس، ذلك أن بوشعيب يفشل في إغرائه بمائة ألف ريال مقابل إحراق ملف خصمه كاملا. فضمير هذا الموظف الصغير، وقيمه النبيلة ستصطدم بأحلامه وحاجاته الصغيرة (تلفزيون ـ حذاء جديد لابنته)، وينتهي الصراع بين جاذبية الإغراء وقوة الواجب بانتفاضة حمدان، ورفضه الخضوع لسلطة المال واغرائه. ومن ثم يغرق في بكاء لايفهمه أحد (4) وهو بكاء ذو طبيعة تطهيرية يسجل انتصار إرادة وقيم النقاء والطهر ضدا على واقع الدنس والرشوة والفساد. وهكذا، فإن الكتابة لدى السحيمي، وإن ظلت مخلصة لأبعادها الفنية، فإنها محكومة بالتزام فكري ورسالة ثقافية وحضارية تستمد مرجعيتها من ثقافة الكاتب وقناعاته التعادلية الثابتة، وهو الرجل الذي عايش رجالات الحركة الوطنية ورموز التنوير، وعاشر الزعيم علال الفاسي، ونشأت بينهما »قرابة روحية وفكرية وبيداغوجية« (5). لذلك انزاحت كتاباته عن لعبة التجريب خوفا من أن يتحول فعل الكتابة إلى ممارسة جمالية ذات طبيعة شكلانية، تلهث وراء الهواجس الفنية، وتغض الطرف عن البعد الإجتماعي، مما قد يجردها من النبض الإنساني، والحس الاجتماعي، ويفقدها أبعادها الثقافية والحضارية، وذلك من منطلق قناعة الكاتب بأن الابداع رسالة وممارسة جمالية خاضعة لمنطق التجدد والإبداع، لكنها موصولة بهموم المجتمع وانشغالاته العميقة. إنه اختيار فني قائم على رفض كل أشكال التجريب التي تسعى إلى الهروب من مواجهة واقع مأزوم بالانخراط في نزعة شكلانية جوفاء تستهدف خلق تباعد محتمل بين أسلوب الكتابة الواقعية والكتابة الجديدة بغاية تخييب انتظارات القراء بحثا عن ما يفترض أنه مسافة جمالية تضمن ـ في تقدير البعض ـ إبداعية النص السردي وتميزه وفرادته. وإذا كانت الكتابة لدى عبدالجبار السحيمي لم تركب موجة التجريب، فإنها احتفظت بهويتها الإبداعية، ونبذت الإتباع باحثة عن أفق جديد للممارسة السردية، مما مكن القصة المغربية ـ بفضل هذا المنجز السردي من تطوير أدواتها، والارتفاع بالمستوى الجمالي والفني، والانتماء إلى شروط العصر ومتغيراته الفنية. ومن ثم، فإن شعرية القصة وتميزها لدى الرجل تكمن في هذا النزوع إلى التساؤل والاستكشاف و الاحتجاج ورصد المفارقات، وتشكل المدينة فضاء لرصد هذه المفارقات والمتغيرات التي تجهز على إنسانية الإنسان، فهي تتحول في مجموعة »الممكن من المستحيل« من فضاء جغرافي ومكان طبيعي وعمراني ومجال لتواصل الذوات إلى فضاء للاغتراب، إنها تكبر وتمتد وتمتلئ بالناس، لكنها تسحق الشخوص بالإغتراب، فهي فضاء هلامي غير محدد المعالم، حيث »الأكتاف ترتطم بالأكتاف، والوجوه غير معروفة« (6) لذلك، فالشخوص تفقد أدميتها، بل تتحول إلى مجرد رقم من الأرقام، فيشعر الشخص بمرارة أن »اسمه ينفصل عنه، فهو داخل المعمل الذي يشتغل فيه مجرد رقم من الأرقام« (7) وبذلك، فإن المدينة تكبر باستمرار، غير أنها تزداد ضيقا »تكبر كل يوم، وتمتلئ، ويختنق هو بالدخان، بالصراع، بالحافلات الكثيرة (8). إن إدانة المدينة في المحكي القصصي لعبدالجبار السحيمي شهادة على مرحلة ومتابعة لتحولات المجتمع الستيني الذي كان ينذر بمتغيرات عميقة وتحولات أساسية، من مجتمع تقليدي تحكمه ضوابط وقواعد أخلاقية، واجتماعية خاضعة لمنظومة من القيم أفرزتها بنية اجتماعية محافظة إلى مجتمع عصري منفتح تتراجع فيه سلطة القيم التقليدية ومبدأ التضامن الأسري، إذ ينحو إلى الانغلاق في نطاق ما يعرف بالأسرة النووية. غيرأن هذا التحول الطافح بالمفارقات بين الانفتاح والانغلاق جاء محفوظا بكل مظاهر وضروب الخوف والإرتياب. فالمدينة تبدو في المتن الحكائي للكاتب عاقة تمسخ الأفراد وتجردهم من هويتهم وانسانيتهم. إذ المعاناة مشتركة، والشخصية في قصة »حكاية حزينة« تكشف هذه الحقيقة، ف »كل الوجوه لا يعرفها، وإن كانت فيها جميعا صفات منه، فيها سمرته وعيونه المحدودية، وشفتاه الغليظتان« (9)، لكن فيها، كذلك، معاناته وهويته المسلوبة وانسانيته المستباحة. هذه المدينة التي تسحق الشخوص وتفقدهم آدميتهم، وتحولهم إلى كائنات دون ملامح هي تدهسهم تماما كما تدهس الحافلة رجلا مجهولا يحمل في يديه وردة بيضاء. 10 وعليه، تبدو الشخصيات داخل المدينة مهزومة ومحاصرة دون ملامح ولا هوية، تعيش حياة زائفة وكاذبة. لذلك تتطلع للخلاص من عقال المدينة/ الشبح بحثا عن لحظة أو لحظات حميمية. ونجد هذا النزوع يتبدى في قصة »الفرار«: »هما محاصران، هنا بالمدينة البعيدة، بالأعين، بالآخرين، بزوجته وأبنائه وانتماءاته ومركزه الاجتماعي« (11). ومادامت المدينة فضاء للاغتراب والزيف والتقنع والحصار، فإن الشخوص داخل المحكي القصصي ترفع عقيرتها احتجاجاً على هذا الوضع المليء بالزيف والخداع. إذ يرتفع صوتها بلسان شخصية في قصة »الفرار«، حيث يعلن بتحد مخاطبا خليلته: »إنني أحتقر المدينة.. - قالها بإصرار فاجأها - سوف أقول لهم إنني أحبك... وسوف أشهر سيفي في الشارع الرئيسي« (12). هذه النفحة الرومانسية الثائرة محاولة للانسلاخ من شرنقة واقع بئيس في مدينة قاتلة. بيد أن الشخوص في المحكي القصصي »الممكن من المستحيل« تبقى في أغلبها عاجزة وغير قادرة على التغيير والفعل، فهي »لا تملك القدرة على رفض ما هو موجود لأنه لا يلائمها ولا يلائم الآخرين« (13). ومن ثم يبدو الواقع في كتابات عبد الجبار السحيمي ثابتا ومستقراً محكوما بالرتابة والجهود تغيب فيه ملامح الصراع، لكنه وضع يعكس عمق المعاناة، إذ تتجرع فيه الشخوص مرارة الرتابة باستسلام وخضوع لافت، فهي شخوص ضعيفة ومغلوب على أمرها، تتجرع الهزيمة، وتعيش في دوامة المعاناة والرتابة، جاء في قصة »في منتصف الليل«: »سيلف صمت الليل دنيا البيت، وستنام بعمق.. وعلى السرير إلى جوارك يمتد الجسد الآخر مرت عشرون سنة، وهذا الجسد يمتد إلى جوارك كل ليلة، حتى ما عدت تحس به، تقتل النور، وتتمدد، تدفع الجسد قليلا ليفسح لك مكانا على السرير (...) الأنفاس الرتيبة إلى جوارك تقتل الصمت، إنها ليست في هذه الدنيا، لا تحس بك، لقد ماتت، وها هي أنفاسها الرتيبة العميقة تقتل الصمت، عشرون سنة يمتد إلى جوارك هذا الجسم، وأنت لا تتحرر منه أبداً« . وهكذا، فإن شخوص عبد الجبار السحيمي تفصح عن واقع يسوده الإحباط والخيبة والهزيمة. والمحكي القصصي يكشف ذلك بلغة طافحة بالسخرية اللاذعة، ففي قصة »الريال« نجد الشخصية تبتسم ابتسامة سافرة بعد »أن قرأت ذات يوم في الجريدة إعلاناً عن قطة صغيرة ضائعة « (15) وتتساءل بلغة ماكرة، ونبرة احتجاجية ساخطة: »إنني ضائع منذ شهور دون أن يبحث عني أحد، ويتمنى لو كان قطة صغيرة « (16)، بيد أنه يدرك أن الأحاسيس تكلست، والإنسان في هذا المجتمع تجرد من هويته وإنسانيته »إنهم لا يحسون به على الاطلاق، فلو كان كلبا لأخافهم على الأقل« (17). نخلص، إذن، إلى المحكي القصصي في »الممكن من المستحيل«، يفضح اختلالات المجتمع بجسارة خلاقة، وشجاعة نادرة، وإصغاء عميق لنبض الواقع، ويرصد معاناة شرائح كبيرة من المجتمع المغربي في الزمن الستيني، زمن المفارقات والتصادمات الايديولوجية، وهو الزمن الذي شهد فيه المجتمع المغربي بداية التململ للخروج من دائرة التهميش والفقر والمعاناة التي يرسم صورها الكاتب بريشة الفنان المبدع، والتزام الأديب الصادق وبذلك، فإن الواقع في هذه المجموعة القصصية يبدو صادما ومأساويا وعنيفا. »هذا اليوم سوف يأكلون الخبز، ولكنهم لم يأكلوا الخبز بعد، وقد ملوا جميعا من نبات البقولة مخلوطا بالماء فقط.. كما لو أن الله خلق الماء من أجلهم حتى يخلطونه بالبقولة« (18) بيد أن توصيف أوضاع البؤس والجوع ليس إلا علامة كاشفة عن مفارقات المجتمع واختلالاته، ذلك أن المجتمع فريقان إن لم نقل طبقتان »ناس عندهم الخبز وليست عندهم الشهية، وناس عندهم الشهية وليس عندهم الخبز« حكاية الفول لمن لا أسنان له« (19) بهذا الانصات المثابر لنبض الإنسان والواقع يرسم عبد الجبار عالمه القصصي مشخصا سيرورة التحول الاجتماعي والثقافي موصولا بالجماليات والرؤى الفنية المتجددة في عوالم الحكي ومدارات القص. فالمعطى الجمالي لا ينفصل عند الرجل عن مرجعية الواقع الاجتماعي والسياسي والإيديولوجي. ومن تم يغدو المتخيل القصصي جزءا من حركية الواقع وديناميته مرتبطا بالعوالم المتحركة والأفكار والأساطير والإيديولوجيات، وغير ذلك من الأنساق والمنظومات التي تعيد تشكيل المتخيل باعتباره منجزاً فنيا وفعلا إبداعيا نابضاً بالحياة والجمال. (20) وعليه، فإن الكتابة السردية، لهذا المبدع تفصح عن خصوبة وثراء الممارسة الجمالية لهذا الرجل الذي أصر على رد الاعتبار للطبقات السفلى والمهمشين والمسحوقين، وإدانة واقع البؤس والفقر والزيف، وهو الذي لا مس باكرا سقوط الأحلام، وعاش صدمات وخيبات جيله، وسقطت بين يديه الكثير من الأنصاب والتماثيل، وتهاوت قيم، ولحق المسخ بكثير من المبادئ التي تغنى بها جيله، فقد ضيع هذا الجيل الممكن، وفقد القدرة على مطاولة المستحيل. (21) غير أن هذه الخيبات كانت حافزا لمغامرة الإبداع والكشف والتجديد بوعي جمالي، وحسن فني، واستراتيجية نضالية تعيد الاعتبار للوظيفة الاجتماعية للإبداع. فتحية تقدير للإبداع المنكتب بالروح والجسد والكلمات. تحية للرجل الرمز عبد الجبار السحيمي. هوامش: ٭ قدمت هذه الورقة في ندوة »عبد الجبار السحيمي: الصحفي، الأديب والإنسان « بمناسبة الملتقى للقصة القصيرة المنظم من طرف جمعية النجم الأحمر للتربية والثقافة والتنمية الاجتماعية أيام 07 ـ 08 ـ 09 ماي 2010 (1) نجيب العوفي: »عبد الجبار السحيمي بهجة الكتابة« ضمن كتاب: »فاس تكرم الأستاد عبد الجبار السحيمي« مطبعة الرسالة، الرباط يوليوز 2004 ص 19 (2) نفسه ص 21 (3) عبد الجبار السحيمي: »الممكن من المستحيل« مجموعة قصصية مطبعة الرسالة ـ الرباط ـ دون تاريخ الطبع. ص 45 (4) عبد الجبار السحيمي: »الممكن من المستحيل« ص 25 (5) عبد الحميد عقار: »السحيمي مثقف لم يغره التجريب« ضمن كتاب »فاس تكرم الأستاذ عبد الجبار السحيمي« ص 29 (6) عبد الجبار السحيمي: »الممكن من المستحيل« ص 122 (7) نفسه ص 122 (8) نفسه ص 123 (9) نفسه ص 124 (10) نفسه ص 128 (11) نفسه ص 78 (12) نفسه ص 82 (13) »فاس تكرم الأستاذ عبد الجبار السحيمي« ص 07 (14) عبد الجبار السحيمي: »الممكن من المستحيل« ص 106 ـ 107 (15) نفسه ص 146 (16) نفسه ص 146 (17) نفسه ص 147 (18) نفسه ص88 (19) نفسه ص 91 (20) محمد محبوب: النقد ورهان تحديث القصة القصيرة العلم الثقافي ـ الخميس 14 يونيو 2007 ص 10 (21) عبد الجبار السحيمي: »شرك التكريم« ضمن كتاب »فاس تكرم الأستاذ عبد الجبار السحيمي« ص 53

 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free