http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  جمالية الكون الشعرفي آخرالعنادل
 




جمالية الكون الشعري في "آخر العنادل" لمصطفى فهمي
 





الدكتورمحمد المسعودي
 
         لقد استطاع شعر "التجربة الجديدة" أن يحقق بعض التراكم منذ بداية الثمانينات وإلى حدود السنوات القليلة الأخيرة التي شهدت صدور عددا من الدواوين الشعرية لشعراء متميزين في المشهد الشعري المغربي المعاصر. ولعل هذا التراكم في الكتابة الشعرية يفرض القراءة المتأنية، والغوص في ثنايا القصائد لاستكناه خصائص هذه التجربة الفنية. وفي تصوري إن الحكم على شعر هذه الحركة الجديدة والمجددة ينبغي أن يكون نتيجة تقصي وبحث موضوعي في ثيماته ودلالاته وسماته الجمالية؛ وفي ضبط الخيوط المشتركة التي تصل بين شعراء هذه الموجة، أو تميز بينهم. ويظل الحديث عن التميز والتجاوز حديث سابق لأوانه، ولا يمكن للناقد أن ينطلق منه لدراسة ما أفرزته هذه التجربة، ومن ثم ينبغي ترك إصدار الأحكام، ومناقشة قضايا التميز والخصوصية إلى إشعار آخر، وذلك حتى يتسنى للباحثين دراسة عدد كاف من دواوين وأشعار هذه الموجة الشعرية التي ما تزال تبدع وتنتج. وسيرا على هدى هذه الاستراتيجية النقدية ستضطلع هذه القراءة بمهمة الكشف عن جوانب فنية ودلالية ثاوية طي نصوص ديوان "آخر العنادل" لمصطفى فهمي.
         إن الناظر إلى ديوان "آخر العنادل" يجده ينسج عوالمه الفنية والدلالية عبر أربعة عشر قصيدة تتوزع على أكثر من تسعين صفحة زاخرة بالعطاء الشعري. والملاحظ أن هذه القصائد تختلف من حيث البناء المعماري والعوالم المتخيلة التي تنسج محتواها. إذن، ما هي الصيغ الجمالية التي يتوسل بها الشاعر لإيصال خطابه الشعري؟ وكيف يشيد عوالمه الفنية؟
         هذان السؤالان يفرضان اتباع خطوة منهجية أساسية لمعانقة فنية هذا الديوان، وهي مقاربته انطلاقا من ثيماته البارزة وسماته الفنية التي قد تشكل بعض خصوصياته، من جهة، وتنفتح على كتابات شعراء آخرين ينتمون إلى نفس التجربة وتتناظر نصوص الديوان بنصوصهم وتتشابه، من جهة أخرى.
1-الرؤية الشعرية:
نقصد بالرؤية الشعرية تلك النظرة التي تبلورها القصيدة عن الكون والحياة، وعن علائق الناس. وهي غير "الرؤيا" التي ترتبط بما هو حلمي ولا شعوري؛ وتنفسح على عوالم متخيلة لا محدودة. أما الرؤية فهي تتصل بالوعي، وبالوجود، وبالكينونة، حسب الفهم الهوسرلي(نسبة إلى هوسرل). وبذلك تكون رؤية شعورية مقننة تصدر عن العقل وتؤوب إليه، وتنبع من الشعور وتتمحور حوه، وتتسربل بسربال الخيال وهو أساسها ودعامتها الأولى.
والرؤية الشعرية عند مصطفى فهمي تقوم على أساس رفض الحاضر والتوق إلى عالم شفاف طاهر لا صراع فيه. وليس هناك مرتعا لبناء هذا العالم سوى الطفولة، ومن هنا نرى تركيز الشاعر على مؤشرات الطفولة ماثلا في أغلب قصائد الديوان:
"كلما سافرت يا سعاد في غياهب عينيك
تلألأت قناديل طفولتي في الذاكرة
ورأيتني ولدا سادرا...
أمشط جدائل الصفصاف
وأشتعل مع الأقحوان
والغمامة العابره".(آخر العنادل، ص. 33)
من السمات البارزة عند الشاعر، حسب ما نلمس من المقطع المستشهد به، الاستدعاء والتداعي والتذكر لتشييد ثيمة "تجاوز الحاضر" من خلال استحضار اللحظات السعيدة والانغماس في عالم اليوتوبيا الطفولية الزاخرة بالذكريات والبراءة والعذوبة. يقول في قصيدة أخرى:
"وكم كنا نجلس على ركبتيك... أماه
ننسج معا حكايات من عسل الذكريات
ونرى القمر يتريث عند ليل النوافذ الآمنه
والآن.. غاب عن زمانه الزمان
وغمر السواد تجاعيد الأيام
واستباح المكان كل الأمكنة".(نفسه، ص.55)
ينعى الشاعر حاضره ويشكو من تحولات الزمان الذي فقد زمانه، والمكان الذي استباحته كل الأمكنة، أو المكان الذي استباح الأمكنة الأخرى، فتخلى عن خصوصيته. وبذلك، فإن الوعي بالحاضر المأزوم يمتد إلى رفضه عبر انغمار الذات الشاعرة في سنا الذكريات الطفولية واستمداد نسغ حب الحياة والاستمرار منها، ونشدان زمن لا يفقد عذوبته وطهره. وهذه الرؤية الشعرية هي عمود هذا الديوان الفقري، ولعل هذه الرؤية التي تعي واقعها وتتوق إلى الانعتاق من هيمنته وتسلطه، هي التي تجعل القصيدة لا تنفتح على عالم الطفولة وحده، وإنما يدفعها إلى الانفتاح على الطبيعة والوجود والحياة. ومن هنا يصبح للطبيعة حضورها المميز في تشكيل الكون الشعري عند مصطفى فهمي.    
2-الصورة الشعرية:
أشرت، سابقا، إلى بعض السمات التي تبني ثيمة "تجاوز الحاضر"، وهي آليات الاستدعاء والتداعي والتذكر، وهي أدوات مركزية لتكوين الصورة الشعرية، أيضا؛ هذه الصورة التي لا يمكن الفصل بين مكوناتها الطبيعية والإنسانية لأن القصيدة عند الشاعر صورة متوحدة عبر الرؤية الجمالية التي يندغم فيها الإنساني بالوجود والحياة من حوله. وهذه الرؤية لا يمكن -بشكل أو بآخر- الإمساك بها دون مقاربة الصورة الشعرية التي هي مدار القصيدة ونواتها التكوينية، وهي الخيط الرابط بين الدلالة وبين الصيغ الفنية، وكأن السعي إلى تملك العالم والتوحد به، يدفع الشاعر إلى نسج عالم يقترب من الانسجام عبر وحدة الصورة، وعبر التوحد بالكائنات والأشياء. من هنا نلاحظ أن "البحث عن السكون" أبرز لمحة لرؤية الشاعر ولتشوفه إلى التوافق مع الواقع أو إمكانية لتقبله ومعايشته:
" أوفيليا...
يحدث أن يغمر الموج ثقوب الناي فتختنق أغنيتي
وأمشي في الظلمة أتحسس أبعاد صوتي
وتهرب مني يداي...
يومها تتكشف راحتاك عن زهر عسل يشق المدى
ويشتعل في الأفئدة ربيع أزرق
تبعثه للسكون عيناك
وأشهد أن فجرا سيطل
آيته أن تنكسر على نظرتك مرايا السماء". (الديوان، ص.10-11)
إن الهروب إلى الطبيعة أساس من أسس صنع الدلالة وتشكيل أبعادها الترميزية، كما أن أشياء الطبيعة وكائناتها مكونات ضرورية لتشكيل جمالية القصيدة، فلا تكاد تخلو قصيدة من لمحة ترتد إلى الطبيعة حتى أثناء تصوير الواقع والإحالة إلى حوادثه. يقول الشاعر في أحد نصوصه:
" ها قد جنت وتعرت ورمت حروفها العربية
راحت تبيع الهوى لأبناء السبيل
عذرا...
أيها الفتى الجميل
يا صوت البرتقال هناك.. يا لون الياسمين
عذرا تركنا الخيل واقفة وركبنا إليك الصهيل". (نفسه، ص.56)
نشم في هذا المقطع الشعري الجميل عطر الطبيعة المنثال عبر مفردات تتخذ من أشياء الطبيعة دثارا ومن إحالات الواقع مدارا، وبذلك ينفسح الكون الشعري على دلالات متباينة تستمد نسغها من التجاور بين ألفاظ تنتمي إلى فضاءين مختلفين؛ فالشعر ينطلق من الطبيعة ويعود إليها. والقصيدة إذ تؤسس لغتها لا تنسلخ أبدا عن الأرضي(الطبيعي) في حومانها حول السماوي (التخيلي) أو في انحدارها نحو القاع (اليومي).
وإذا كنا قد لاحظنا ارتباط الشاعر بعوالم الطفولة باعتباره عالم براءة وطهر، فإننا نلفي الطبيعة المكان المفضل للإحساس بالسكينة والاطمئنان، ومن هنا تصبح مرتع الأحلام، ومدار الأغاني الشائقة. يقول الشاعر ناسجا ترنيمته للسكينة/ الطبيعة، وبانيا صورته المتخيلة لعالم "النرفانا":
" لأخيلة تنسجها ظلال الحور
للصفصاف المنسدل خمارا على عينيك
لمهابة الليل واخضرار الصخور
غنيت
غنيت
غنيت
حتى ارتخت في الوديان أوتار صوتي
ولم يبق سوى السكون روحا
يسكنني برهة... ويسكنني فيك".( الديوان، ص. 39)
لا تقوم الصورة الشعرية –من حيث الدلالة- عند مصطفى فهمي على تماهي الذات الشاعرة بالطبيعة، فقط، وإنما تتماهى من بالآخر، بما هو متعدد ومتنوع، وكأن الكون بما فيه شئ واحد لا انفصال بين ذراته وأجزائه؛ وهذه رؤية جوانية تدمغ الفضاء الشعري بسمات روحية وتشكل دلالاته. وبذلك تصبح المرأة والطبيعة في رؤية الشاعر شيئا واحدا، وبذلك تتخذ المرأة صفة المطلق، اللامحدد لأن تجسداتها "طبيعانية" متراكبة:
"عبثا تتأبطين هذا البحر
ترفعينه إلى عينيك وتقلبين أمواجه الصفراء
عبثا تبحثين عن عقيقة تشع يوما بين فخذيك
وتنامين على خضرة يابسة في ظل الشجر
لا نوار الموز على كتفيك يسقط
ولا يزهر في دمك الأنين"(ص. 73-74)
تحبك قصيدة "فتاة نوار الموز" دلالاتها انطلاقا من ثيمتي "البحث" و"الانتظار"، وهما موضوعتان مهيمنتان على جل نصوص الديوان، وكأن البحث عن المفقود، عن الجوهري، أو عن المطلق، سواء عند الذات الشاعرة/ المتكلمة، أو عند القناع يعد مدار الكينونة وحقيقة الوجود. ولقد رأينا كيف يتطلع الشاعر إلى "السكون" من خلال التوحد بالطبيعة والارتماء بين ظلالها وأفيائها. وهذا ما نلمسه، أيضا، في المقطع التالي من القصيدة المذكورة قبل قليل، ويتضح ذلك بشكل أكبر حينما تصبح قطرات المطر ورواءحه مصدر دفء، وبشارة بعودة الغريب:
"وتعودين للنافذة ثانية وتعودين
لعل ريحا دافئة تجلب إليك رائحة المطر
أو لعل غريبا يجئ..".(ص.74)
 
 
3-اللغة الشعرية:
إن المتأمل في ديوان "آخر العنادل" يجد اللغة الشعرية عند مصطفى فهمي تتميز بالشفافية والعذوبة لأنها لغة تتقاطع فيها حقول معجمية متباينة تحقق للقصيدة غنائيتها الفريدة وتدمغها بالتنوع والتعدد؛ فالقصيدة الواحدة تركب عوالمها استندادا إلى تجاور اليومي/المرجعي بالمتخيل، والإنساني بالطبيعي، ولعل هذا التجاور والتمازج هو الذي يولد صبغة جمالية ذات شذى خاص، ويجعل القصيدة عبارة عن حمولات دلالية ورؤى شعرية طافحة بالإيحاء. ونسوق مقطعا من قصيدة "في البدء كان الرحيل" لنرى كيف تتشكل اللغة عند الشاعر، وكيف تعمل على بلورة الدلالات وإلباس القصيدة لبوس الغنائية:
" أماه... رحل عني قلبي... هاجرني
وما عاد حبيب يبقيني
تلك سنديانة بلا ظل تتركني
وهذه أغنية تجتاز حدود قلبي
تحطم سياج الأمان
وهذا موسم الرصاص حل فينا
وهذي أجسادنا أيها السادة اقطفوا تذكارات لأبنائكم
وتسلقوا إلينا السلاسل
"وقال الله"
تلك أمجاد البلاد كما أشرقت يوما تغيب
ويغيب معها جيل كان يركب الزلازل".(ص. 57)
استشهدت بهذا المقطع –على الرغم من طوله- لإبراز كيفية تشكل اللغة الشعرية في القصيدة الواحدة. هذا التشكل الذي يتجلى في توظيف مفردات متنوعة: من الطبيعة واليومي والذاتي، وكلمات ترتبط بمجالات أخرى، في سياق خاص يرتبط بحالة وجدانية تتجاوز حدود المعاناة الفردية إلى معانقة العام وتصوير التباساته. وهذه سمة تطبع شعر مصطفى فهمي الذي لا ينحصر على تصوير الذات ومكابداتها، وإنما يجعل من امتزاج الذاتي بالموضوعي، واندغام الآخر بالذات مدارا للقصيدة.
وفي إطار حديثنا عن اللغة لا بأس أن نشير إلى سمة تميزت بها الجملة الشعرية في الديوان، وهي سمة الامتداد والاستدارة بحيث تصبح القصيدة عبارة عن حلقات متراكبة متضامة؛ وهذا ما يجعل نفس القصيدة "الإيقاعي" يتميز بالبطئ كما يجعل القصيدة وحدة تتواشج عبر الجملة، وعبر الصورة أيضا:
" في المدى جموع
تغني بهاء السماء
وأبكي أنا غياب نجمة جارحة
وأنكر الأشكال
وألفظ كل الأسماء
وأحن الليلة إلى قمر البارحة"(ص.86)
الناظر في هذه القصيدة يجد الجمل تتواشج عبر أدوات العطف(الواو خاصة) لتصبح القصيدة عبارة عن فقرات متعانقة. ومن الأدوات الأخرى البارزة في الديوان: الشرط وجواب الشرط، والاستفهام والجواب... وغيرها من أدوات الوصل، كقول الشاعر:
"كلما بعث الأنين كمان أفرده المساء ليتفتت
أن لحنا هائجا
قد عبر إلى النهار وألحانا
في سويداء القلب... لم تعبر
لكن تتوقف..."(ص.68)
وهكذا تمتد القصيدة وتتشكل لتصير وحدة متكاملة لغة وصورة وإيقاعا، وليس معنى هذا أن الديوان يخلو من الجمل القصيرة المتلاحقة التي تخلق إيقاعا سريعا، وتطبع القصيدة بالكثافة والإيجاز عبر استقلال الأسطر الشعرية عن بعضها، كقول الشاعر:
" كم باردة هذه النار.
كم حارة هذه الدموع.
كم بعيد بعيد هذا الزيتون.
فابتلعي واحاتك أيتها الصحراء".(ص.57)
4-البنية الصوتية/ الإيقاعية:
تخلق القصيدة إيقاعها الدلالي والترميزي وبناءها الفني من خلال عدة آليات مثل استرسال الصورة ونسج الفضاءات المتخيلة المتنوعة والمتجاورة، أو عبر اندغام اللغة الرومانسية باللغة الواقعية، أو عن طريق التوازي والتكرار الصوتي والتركيبي والدلالي بنوعيه:
-ترداد لازمات معينة.
 –تكرار مفردات وجمل خاصة.
والحديث عن هذه السمات الصوتية الإيقاعية يطرح إشكالات عدة حين تناول قصيدة النثر وخصائصها. وفي هذه القراءة لا يعنينا إبداء الرأي في معضلات الإيقاع والتشكيل الصوتي في قصيدة النثر أو قصيدة التفعيلة، بقدر ما سنلتفت إلى بعض الظواهر الفنية الإيقاعية والصوتية في ديوان "آخر العنادل". ومن ثم سيتم التركيز على: الروي ومظاهره، وعلى التكرار والتوالي.
 
أ‌-                 الروي والقافية:
من السمات المميزة في ديوان "آخر العنادل" قيام القصيدة على أسطر شعرية تنتهي بقوافي مختلفة متنوعة تسهم بدور فاعل في التشكيل الموسيقي للنص الشعري، وتتخذ هذه القوافي أشكالا عدة، فهي متعانقة ومتواترة ومتوالية ومتراسلة؛ وتجعل هذه القوافي القصيدة تتميز بنبرة إيقاعية متفردة، ولعل انبناء القصيدة على القافية وعلى الروي الذي ينتهي به كل سطر شعري يعوض قيام القصيدة على الوزن أو التفعيلة التي تضبط الإيقاع وتوحده، وكمثال للقافية المتعانقة(croise):
"في النصف الآخر من القلب صحراء خلفها بحر
يذرف الأمواج لهفا على هواء خصبته أنفاس غبراء
وخلف البحر تتناثر ملء عينيك أصداء البلور الأخضر
وتتراءى النجوم مغازلة قمر الشتاء"(الديوان، ص. 9)
وإذا كانت هذه البنية تخلق نبرة صوتية متميزة عبر الانتقال من روي "الراء" إلى "الهمزة"، ثم العودة إلى الراء فالهمزة ثانية، وهكذا، فإن القافية المتوالية تجعل القصيدة تمتاز بنبرة صوتية وإيقاعية أخرى أكثر انطلاقا وتحررا:
" يتعب مني صدر أمي فلا يبقيني
يهرب مني حليب أمي ولا يشفيني
أماه... أستشف ذكرى الياسمين وقدرة الورد في عينيك
أماه لأنسى أجراسي أفكر فيك".(ص. 53)
ونفس التميز الصوتي والإيقاعي والنغمي يترتب عن القوافي المتراسلة المتحررة مثل قول الشاعر:
" ما أحلاك يا وطن... ما أمرك
قد تشكلت الذكريات فيك وتوحدت النساء
واستدارت القبل خاتما حول إصبعك
فكيف أفتح شبقي لعسل فيك ويصدني نحلك؟
ما أحلاك... ما أمرك".(ص. 16)
وهذه الأنواع من القوافي التي تنتهي بروي موحد بين سطرين أو ثلاثة فأكثر، تجعل القصيدة خاضعة لسيمترية إيقاعية تخفف من حدة النثرية التي تولدها الأسطر المسترسلة التي لا تتقيد بروي واحد أو قافية محددة.
ب‌-           التكرار والتوالي:
ومن الظواهر الصوتية الإيقاعية المميزة في "آخر العنادل" سمة التكرار باعتبارها سمة شعرية لا يستغني عنها الشعر إطلاقا. وهكذا نجد تكرار كلمات في مواقع ثابتة: في البداية أو النهاية كما نلفي في هذا المقطع الذي كرر فيه الشاعر فعل "الاستمرار" إضافة إلى اسم "سعاد" المنادى عليه في سياق لازمة تتردد في القصيدة:
" ويستمر المدى... يا سعاد
 ويستمر الهوى... يا سعاد"(ص. 34)
وبذلك تحقق لهذه اللازمة التي تتكرر في قصيدة "في البدء كان الرحيل" تكرار كلمتين: الأولى في البداية Anaphor     تمثل عامل ربط، والثانية في النهاية Epiphor في موقع القافية. ومثل هذه البنيات التكرارية والمتواليات (اللازمات) متعددة في الديوان تضفي على القصائد نغمة إيقاعية متفردة تقلل من نثرية البنية اللغوية، وتضفي استرسالا على النفس الشعري في القصيدة.
وفي ختام هذه القراءة نعود إلى تأكيد أن ديوان "آخر العنادل" له قواسم مشتركة مع ما أفرزته "التجربة الجديدة" من خصوصيات شعرية، كما أنه يتميز ببعض سمات التفرد. وقد حاولنا جهد المستطاع أن نبين بعض هذه الشارات المميزة، فما حققنا النجاح فيه فهو محسوب لهذه القراءة، وما لم نتمكن من الإمساك به نتركه لذوق القارئ وفهمه وتأمله ليستمتع بدوره بالديوان.
 
 
* مصطفى فهمي، آخر العنادل، دار قرطبة، الدار البيضاء، 1987.
 
 
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free