http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  تلقي أعمال عبد الكريم غلاب الروائية
 
تلقي أعمال عبد الكريم غلاب الروائية
( من هيمنة القراءة الإيديولوجية إلى تعسف المنهج النقدي)







د. محمد المسعودي
خاص بموقع كتاب الإنترنت المغاربة
كيف تم تلقي أعمال عبد كريم غلاب الروائية في النقد المغربي؟ وما الآليات التي وجهت هذا التلقي النقدي؟ وما خلفياته المنهجية ونتائجه القرائية؟ من هذه الأسئلة سيكون منطلقنا لقراءة بعض الكتابات النقدية التي تناولت بالدرس والتحليل أعمالا للروائي المغربي الرائد عبد الكريم غلاب. ولعل أولى المحاولات في مقاربة المتن الروائي لهذا الكاتب تعود إلى أواسط السبعينيات من القرن العشرين، وهي الفترة التي عرفت نوعا من الاهتمام بما كان يصدر من نصوص روائية على قلتها آنذاك استنادا إلى خلفية نقدية تتبنى طروحات الالتزام الاجتماعي والسياسي والواقعية النقدية وما شابه ذلك. وإن المتأمل في بعض القراءات التي تعود إلى تلك الفترة يجد أنها نظرت إلى أعمال الكاتب من زاوية ضيقة هيمنت عليها النظرة الإيديولوجية والتناول الذي يحاكم النص الإبداعي من معطيات خارجه، ولا يتم التعامل معه باعتباره نصا متخيلا
يشكل عوالمه السردية وأبعاده الدلالية والرمزية انطلاقا من مفهوم الكتابة ذاته. ومن هنا كان الإسقاط والنزوع الانطباعي والحكم المتسرع حليف هذا النمط من التلقي. ولا تكاد تختلف القراءات التي تبنت بعض المناهج الحديثة (البنيوية، البنيوية التكوينية..)، أو توسلت بأنماط من القراءة المتحررة التي تمزج بين أدوات إجرائية مختلفة (النقد المقارن، نظرية التلقي، السرديات الحديثة، السيميائيات...) من هذه السمات بحيث أخضعت النص الأدبي إلى عسف المنهج أو النظرة الإسقاطية والنزعة الانطباعية، وبالتالي انتهت إلى أحكام متسرعة لا تضيء الأبعاد الفنية والدلالية للنص الأدبي حتى إن توهمت أنها تفعل ذلك. وفي هذا الإطار ننظر في أربع قراءات هي: 1/ قراءة إدريس الناقوري في "المصطلح المشترك" . 2/ قراءة الأمين العمراني في "الرواية المغربية بين قيود التأثر ومغامرة التجريب" . 3/ قراءة أحمد اليبوري في "دينامية النص الروائي" . 4/ قراءة عبد العالي بوطيب في "الكتابة والوعي، دراسة في أعمال غلاب السردية" . * * * إن تناول إدريس الناقوري لعملي عبد الكريم غلاب "المعلم علي" و "دفنا الماضي" في سياق حديثه عن الرواية المغربية اتسم بنزوع إيديولوجي معلن منذ بداية قراءته للنصين والنصوص المغربية الأخرى. والمتأمل في عنوان الفصل الذي درس فيه الناقد الروايتين يتبين أنه يختزن دلالة على هذا النزوع الذي يقرأ الرواية باعتبارها انعكاسا للواقع الاجتماعي وتجليا لرؤية صاحبها السياسية وانتمائه الطبقي، والعنوان هو :"الرواية المغربية والإشكالية الاجتماعية". وفي هذه القراءة يصر الناقد إصرارا على ربط العمل الأدبي بالانتماء السياسي لكاتبه وطبقته البورجوازية وهمومها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وشواغلها الوطنية. ولا يكاد يعثر القارئ في هذه القراءة على تناول للنص الأدبي باعتباره تشكيلا فنيا وبناء دلاليا يشيد أسسه انطلاقا من مفهوم الكتابة ذاته بوصفه منطلقا ورؤية لقول ما يرغب الكاتب في قوله تخييليا عبر وسائل الكتابة الأدبية وأفانينها. والأدهى من ذلك أن "الناقد" ينطلق من مبدإ التعميم ومن نظرة متسرعة في إطلاق الأحكام النقدية تبين عوار أحكامه جميعها وسقوطها في حمأة الغل الإيديولوجي الذي يؤمن بضرورة إلغاء الآخر/الكاتب المختلِف للتعبير عن معارضته للنمط الذي لا يرتضيه في الكتابة ولتجسيد موقفه الرافض. يقول إدريس الناقوري: " إننا نستنتج أن هذه الروايات لا تعبر عن وعي صحي متقدم لدى أصحابها، وإن كانت تعتبر في الحقيقة مظهرا لوعي زائف مشوه لعملية الواقع، وأسلوبا من أساليب التضليل والإيديولوجيا..."( المصطلح المشترك، ص.41-42) بهذه الشاكلة يلقي "الناقد" في وجه القارئ بتهمة وإدانة للعمل الأدبي استنادا إلى افتراض وجود "وعي زائف مشوه لعملية الواقع" و "وعي غير متقدم" و "غير صحي" لدى أصحابه. وبمثل هذا الحكم النقدي المتعسف تم إلغاء النص الإبداعي وشطب إمكانية قراءته من ذهن المتلقي في ضوء رؤى أخرى منفتحة تنطلق من مفهوم قراءة العمل الأدبي باعتباره عالما يتشكل عبر عناصر فنية ودلالية متشابكة قد تذهب بعيدا عن رؤية كاتبه السياسية وانتمائه الإيديولوجي والطبقي. وبمثل هذه القراءات المتشنجة تمت عملية تأخير تطور الكتابة الروائية المغربية ودخولها مرحلة عصيبة من التجريب السديمي الذي حاد بها عن تأدية وظيفتها في نشوء وعي غير زائف للواقع المغربي وبلورة وعي صحي ومتقدم كما كان يرغب الناقد الإيديولوجي الذي كان يعتبر رؤيته الإيديولوجية الأحادية هي الوعي الصحيح والمتقدم وما عداها باطل الأباطيل. وإذا كان مثل هذا النقد قد اتسم بالكثير من الثرثرة وتسويد الصفحات في تشويه العمل الأدبي، فإن نمطا آخر من القراءة الذي يتكئ على معطيات منهجية سوسيولوجية تستند إلى منهج لوسيان غولدمان البنيوي التكويني، ومن دراسة النص ذاته وربطه بمحيطه الاجتماعي، لم تسلم بدورها من رواسب الإرث النقدي الإيديولوجي فصنفت أعمال غلاب في خانة الواقعية النقدية وحكمت على أسلوب كتابته بأحكام نقدية شبيهة بما وجدناه لدى الناقوري وعبد القادر الشاوي ونجيب العوفي وحميد لحمداني وغيرهم من النقاد الذين تبنوا المنظور الاجتماعي والإيديولوجيا الماركسية في النقد وممارسة القراءة النقدية خلال فترة مد هذا النوع من المقاربة في المغرب والعالم العربي. ففي قراءة الأمين العمراني لرواية "دفنا الماضي" نجد الناقد رغم التصاقه بالنص وانطلاقه من دلالاته وبعض أبعاده الفنية، لم يسلم من الإسقاط والاختزال، ومن القراءة المسبقة للرواية، وبالتالي السقوط في الأحكام النقدية المتسرعة والتصنيف القسري للعمل الروائي. إن قراءة هذه الرواية استنادا إلى فكرة "المناهضة والتبشير" اختزال لعمق النص وتشويه آخر لما يختزنه من تشكيل فني ومن صيغ إبداعية روائية ومن إمكانات تعبيرية ورمزية. ولعل هذا النزوع نحو الحكم المسبق على العمل الأدبي انطلاقا من رؤية منهجية سابقة ثاوية في ذهن الناقد هي التي جعلته يرى في الرواية من حيث منحاها في الكتابة وفي الصياغة مجرد محاكاة للرواية الواقعية المشرقية وأساليبها، وأنها إضافة إلى محاكاتها للواقع الخارجي كانت تحاكي خطاب الرواية العربية المشرقية دون أن تختلف عنه أو تتخطاه أو تتراجع عنه فنيا وتخييليا. وهذا النمط من الحكم وجدناه لدى إدريس الناقوري وعند نقاد آخرين حاولوا من خلاله نزع كل فضيلة في الإبداع والكتابة عن محاولات الرواد الأوائل الذين رسخوا الرواية في تربة الأدب المغربي لا لشئ سوى أنهم ينتمون إلى تيارات سياسية وإيديولوجية أخرى مخالفة أو مناوئة لانتماءاتهم وإيديولوجيتهم. يقول الناقد: ".. إن الاعتماد الكلي على أساليب الكتابة الواقعية كما تجلت في الرواية المشرقية انطلاقا من مفهوم "ضيق" للمحاكاة غلب جانبي الإصلاح والتبشير على جانبي الفن والصنعة مما ترتب عنه انحدار في المستوى الفني العام للرواية وإفقار إنشائيتها".(الرواية المغربية بين قيود التأثر ومغامرة التجريب، ص.104) ينزع الناقد عن الرواية كل ميزة في الكتابة بدعوى فقر قدرتها "الإنشائية" وانحدار مستواها الفني العام لأنها منحت الأهمية للإصلاح والتبشير بقيم اجتماعية جديدة، ونظرا إلى اعتمادها الكلي على أساليب الكتابة الواقعية المشرقية ومحاكاتها. والحقيقة أن المتلقي الذي يقرأ الرواية، بعيدا عن هذه الخلفية المسبقة، يلفي نفسه أمام عمل امتلك صنعته الروائية الخاصة عبر جنوحه إلى إعادة كتابة التاريخ الوطني القريب بوساطة المتخيل السردي ومعالجة قضايا اجتماعية مغربية خلال مرحلة العبور من فترة الاستعمار إلى مرحلة بداية الاستقلال عبر طرائق الواقعية بما تتميز به من إمكانات فنية لغوية وأسلوبية وتصويرية. وقد استطاع عبد الكريم غلاب في هذه الرواية أن يجعل من الكتابة التي تنحو نحو التشويق والبناء الكلاسيكي المحكم والإيهام الواقعي المتقن استراتيجية فنية لتشكيل رؤيته السردية وعوالمه المتخيلة. وعلى الرغم من أنه يصرح في مقدمة روايته بأنه لا يرمي إلى غاية جمالية أو تشكيل بناء فني من وراء تأليف روايته، بقدر ما يلتزم مع مجتمعه وشعبه في صميم المعركة التي خاضها جيل القنطرة من صراع وكفاح لبعث روح جديد في مغرب اليوم، إلا أن تصريحه ذاك في إطار مقدمة عمل تخييلي يمكن اعتباره مكرا روائيا وخدعة تأليفية تحفز القارئ على التعامل مع النص عكس ما يريد صاحبه. ولعل هذه الخدعة التأليفية والمكر الروائي هما اللذان جعلا نقادا آخرين لا يقعون في مطب القراءة الإيديولوجية المسبقة، وإنما اتجهوا إلى تناول أعمال غلاب الروائية باعتبارها نصوصا فنية تمتلك طاقات لغوية وأسلوبية وعوالم تخييلية يجب تحليلها والانطلاق منها في قراءة نتاجه الأدبي، كما نجد لدى أحمد اليبوري وعبد العالي بوطيب. غير أن الجنوح إلى التقيد ببعض إجراءات المنهج ونتائجه أو الرؤية النقدية المسبقة للناقد لم تكن، في مثل هذه القراءات، دائما لصالح النص الإبداعي بحيث لم تضئ سوى جوانب ضئيلة منه أثناء بحثها عن عناصر مسبقة في النص، هي نتاج للرؤية أو للمنهج الذي يتبناه الناقد، وخاصة ما يرتبط بالسرديات البنيوية وتعميماتها النقدية التي لا تجعل الناقد يقترب من خصوصية النص الذي يقرأه إلا لماما. وقد كان أحمد اليبوري من النقاد المغاربة القلائل الذين ميزوا بين غلاب الكاتب الواقعي الملتزم فكريا وسياسيا، وبين غلاب الروائي والكاتب المجرد الذي يطرح أسئلة فكرية وسياسية واجتماعية بطرق فنية غير مباشرة. وأثناء تناوله بالتحليل والقراءة رواية "المعلم علي" وقف عند مفهوم "التكون النصي" الذي اتخذه سبيلا لتجلية بعض أشكال بناء النص الروائي المغربي في فترة البدايات، وربط ذلك بأفق اشتغال الرواية التي يتم تصنيفها ضمن ما يسمى برواية الأطروحة. وانطلاقا من هذه الاستراتيجية في التلقي والتفاعل مع رواية "المعلم علي" ينتهي الناقد إلى أن هذه الرواية يمكن قراءتها من منظور "الميتا نص" الذي لا يعني "إنتاج خطابات حول النصوص، ولكن في إطار إضاءاتها المتعددة لصيرورة تناقضاتها الخاصة. فهذه الرواية تحكي في الآن ذاته، عن مراحل تكون (علي) وأيضا عن طرق اشتغالها النصي بين السيري والسيرذاتي والقصصي من جهة، ومن جهة ثانية، إنها، بعبارة أخرى تتحدث عن تكون (وعي وطني) وعن تكون (جنس أدبي)".(دينامية النص الروائي، ص.37) يكشف هذا الوصف لبعض خصوصيات الرواية وطرق اشتغالها عن نوع من الاضطراب النقدي الذي مس تصنيف العمل الروائي بحيث لا يدرك القارئ، هل هذا العمل الأدبي ينتمي إلى فن الرواية أم إلى السيرة أم السيرة الذاتية أم إلى القصة على الرغم من إشارة الناقد إلى أن هذه الأجناس الأدبية تكشف عن مراحل تكون (جنس أدبي) هو الرواية، وعن طرق اشتغالها النصي. ومن المسلم به نقديا أن الرواية باعتبارها جنسا أدبيا هجينا ومنفتحا تصبح كل المحافل والأجناس والأنواع الأدبية التي يوظفها أثناء كتابته وتشكله جزءا منه، وطاقة خلاقة في بناء متخيله وعوالمه الدلالية والفنية. وأظن أن عبد الكريم غلاب حينما وضع عنوان روايته وذيلها بوصف رواية كان يصر إصرارا على أنه يكتب نصا روائيا متخيلا ينبغي قراءته باعتباره كذلك لا أقل ولا أكثر. ويؤكد اليبوري استنادا إلى استراتيجيته المشار إليها في القراءة أن الإيديولوجي قد ساهم في تكون الروائي، غير أن الروائي بما يحفل به من إشارات ورموز وصور.. قد استطاع الإفلات من شرك الأطروحي المباشر، في مرحلة أولى، ونسفه عن طريق إيديولوجية مضادة في مرحلة ثانية؛ إذ إن رواية "المعلم علي" تقدم رسالة مباشرة من خلال شعارات وأفكار تدور حول الاستقلال الوطني والمطالب النقابية. ويرى الناقد أن الأطروحة المركزية للرواية تتمثل في التأكيد على أن الاستقلال كهدف لا يمكن الحصول عليه إلا باتحاد الطبقة العاملة مع الطبقة البورجوازية المستنيرة في إطار وعي وطني يتجاوز الصراعات الطبقية.(دينامية النص الروائي، ص.39) ينتهي الناقد البنيوي الذي ينطلق من بعض نتاجات السردية الحديثة ومفاهيمها النقدية وأدواتها الإجرائية إلى نفس النتائج التي انتهى إليها الناقد الإيديولوجي/الواقعي. ولعل عدم استحضار الناقد أهمية وضرورة النظر إلى العمل الأدبي استنادا إلى مفهوم الكتابة الروائية وتقنياتها الفنية يجعله أسير القراءة الدلالية المباشرة للعمل مما يجعل نتائج قراءته لا تسلم من إسقاط وابتسار وتسطيح على الرغم من لجوئه إلى مصطلحات ومفاهيم من مثل: رواية الأطروحة، والتشكل النصي، والبناء الرمزي، والمعمار الروائي، والتجنس الأدبي..وغيرها. وبهذه الشاكلة لا يخرج هذا النمط من تلقي أعمال عبد الكريم غلاب من دائرة الإسقاط الإيديولوجي الذي دشنه النقد المغربي منذ سبعينيات القرن الماضي. وعلى نفس الوتيرة يمضي النقد الذي تناول أعمال الروائي عبد الكريم غلاب في الألفية الثالثة وقد انصرم منها عقد كامل، إذ نجد الناقد عبد العالي بوطيب ما يزال يجتر نفس الأحكام النقدية التي انتهى إليها أسلافه من النقاد المغاربة عن روايات غلاب. ولعل الإصرار على اعتبار أعمال الكاتب مجرد روايات أطروحة، وأن الخلفية الإيديولوجية والسياسية والانتماء الطبقي كان وراء إنتاجها، هو ما يجعل قراءة هذه الأعمال باعتبارها نصوصا أدبية تختزن إمكانات فنية ودلالية واسعة ومتشعبة مؤجلة في النقد المغربي. وعلى الرغم من تراجع حدة النقد الإيديولوجي الإقصائي والنزعة التبخيسية لأعمال الكاتب إلا أن القراءة الفنية التي تهتم بالكشف عن صيغ الكتابة وأفانينها في روايات غلاب تظل في حكم النادر. وإذا كان عبد العالي بوطيب قد أولى كل عنايته لأدب عبد الكريم غلاب السردي (القصصي والروائي والسيري) إلا أن جل قراءاته لا تكاد تتجاوز ما بلوره النقاد السابقون عن الرواية الواقعية وعن المشروع الشامل لكتابة غلاب وعن رواية الأطروحة وعن القضايا الاجتماعية والإيديولوجية وعن القيم الأصيلة وآليات تجسد الواقع في الرواية. ولكن، إلى جانب كل هذا نرى أنه اهتم بصيغ الكتابة وأساليب البناء السردي في روايات غلاب انطلاقا من أدوات إجرائية سردية بنيوية مقارنة بغيره من النقاد. وهكذا نجده قد درس مثلا في كتابه المشار إليه البنية الزمنية في رواية "المعلم علي"، والإرصاد في رواية "ما بعد الخلية"، وأشكال التعالق النصي في رواية "لم ندفن الماضي"، ومقومات الوصف الروائي في أعمال عبد الكريم غلاب. والمتأمل في هذه القراءات يلفي الناقد يقف عند جوانب فنية وأسلوبية طالما أغفلها النقد المغربي في قراءاته لروايات الكاتب. وتظل هذه الجوانب التي يتناولها، في البدء والمنتهى، مجرد تطبيق لأدوات منهجية استقاها الناقد من السرديات البنيوية؛ ومن هنا تصبح قراءته متسمة بالاختزال والتجزيء والابتسار والتقطيع. وبالتالي يجعل هذا النمط من التحليل القراءة النقدية تسقط في النزوع المدرسي التبسيطي، وتقترب من البحث الأكاديمي التعليمي أكثر من عنايتها بالنص الروائي باعتباره عالما فنيا قائما بذاته. يقول الناقد في قراءته الموسومة ب"البنية الفنية في رواية "المعلم علي": ".. لهذا كله كان من اللازم اعتماد تنويع محكم في الإيقاع السردي، يتوزع بين الحذف الكلي لمراحل زمنية عديمة الأهمية، والوقوف الطويل عند تفاصيل أحداث أخرى أساسية، أما الأحداث المتوسطة فيعطاها اهتمام متوسط. علما بأن معيار ضبط هذه الحركات السردية المختلفة يتم عن طريق مقارنة زمن الحكاية، مقاسا بالساعات والأيام والشهور، بزمن سردها، مقاسا بالفقرات والصفحات والفصول. وعليه إذا كانت رواية "المعلم علي" تغطي من الناحية الحكائية مدة زمنية تقدر بست وعشرين سنة، تم سردها في حوالي أربعمائة صفحة، بمعدل ست عشرة صفحة للسنة، وصفحة ونصف للشهر، أو ما يقارب الثلاثين سطرا. بمعدل عشرين سطرا للصفحة الواحدة. خلصنا إلى أن الإيقاع المثالي المفترض لسرد أحداث يوم هو سطر واحد.." (الكتابة والوعي، دراسة في أعمال غلاب السردية، ص.38) يتساءل قارئ هذا المقطع التحليلي الذي يقف عند إيقاع رواية "المعلم علي" عن جدوى الإحصاءات التي أثقلته وأهميتها في تقريب النص من المتلقي وكشف دلالاته وخصائصه الفنية. ماذا يفيد القارئ أن يعرف كيف يتوزع النص بين الحذف الكلي لمراحل زمنية عديمة الأهمية، والوقوف الطويل عند تفاصيل أحداث أخرى أساسية، وأن الأحداث المتوسطة يعطاها اهتمام متوسط؟ إن الذي يتأمل هذا الكلام يلفي الناقد يخضع النص قسرا لأدوات نقدية مسبقة ميكانيكية تتيح له إمكانية تمزيع أوصال العمل الأدبي عبر عدد لا متناه من المصطلحات التي يستقيها من السرديات البنيوية دون أن يتمكن من تقديم معرفة دقيقة بالنص وبخاصياته الفنية التي يختلف بها عن غيره من النصوص. إن الحديث عن الحذف والبطء والثقل والتوسط في سيرورة السرد تبعا لزمنية الوقائع والأحداث حديث مكرور في النقد البنيوي، وهو لا يضيف جديدا إلى دراسة أعمال غلاب. وما يمكن أن نصل إليه من كل ما سبق أن النقد المغربي، في تعامله مع كتابات غلاب الروائية، لم يستطع الكشف عن خصائصه الفنية وصياغته اللغوية والأسلوبية، وطرائقه الكتابية. وما عني به هذا النقد حتى الآن هو جانب المعنى والمحتوى الدلالي المباشر، أو بعض المكونات السردية العامة التي تشترك فيها كتابة غلاب الروائية مع كتابات غيره من كتاب الرواية. ويبقى النقد المغربي مطالبا بمزيد من الاقتراب من النصوص ذاتها لقراءتها باعتبارها أعمالا فنية ذات أفاعيل كتابية وألاعيب جمالية ينبغي إماطة اللثام عنها. هوامش:
[1] - إدريس الناقوري، المصطلح المشترك، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، ط.3، 1980.
[1] - الأمين العمراني، الرواية المغربية بين قيود التأثر ومغامرة التجريب، مطبعة ألطوبريس، طنجة، ط.1، 2003.
[1] - أحمد اليبوري، دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط، ط.1، 1993.
[1] - عبد العالي بوطيب، الكتابة والوعي، دراسة في أعمال غلاب السردية، دار الحرف، القنيطرة، ط.1، 2007.
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free