http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  الكتابة عذاب لكنها
 
الكتابة عذاب لكنها
إبداع يلائمني أن أقدر عليه
كتبها : مجموعة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربة في الأحد، 9 يناير، 2011
ياسمين شار
الكتابة عذاب لكنها إبداع يلائمني أن أقدر عليه
لقد كبرت في الحرب (جويل فون ألمن)
اسكندر حبش
ياسمين شار، كاتبة لبنانية تقيم في سويسرا، تشكل اليوم واحدة من رموز الرواية اللبنانية التي تُكتب بلغة غير العربية. عرفت روايتها الأولى «يدّ الله» (منشورات غاليمار) والتي ترجمت إلى العربية بعنوان «خط الحدود» (المركز الثقافي العربي) شهرة في الغرب، حيث حازت عنها عدة جوائز أدبية.
مؤخرا كانت في زيارة للبنان حيث شاركت في مؤتمر الكتابة الفرنكوفونية الذي عقد في الجامعة اللبنانية. هنا لقاء معها.
أنت كاتبة لبنانية، اخترت اللغة الفرنسية، من هنا، ولنقدمك أكثر إلى القارئ العربي واللبناني، لنبدأ بالحديث عن مسارك الكتابي، عن هذه الأشياء التي دفعتك إلى الكتابة؟
ولدت في بيروت، ونشأت فيها خلال الحرب مثلي مثل كل أبناء جيلي. حضرت شهادتي في الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية. وعملت في تلك الفترة مع الصليب الأحمر الدولي، حيث التقيت خلالها بشخص أصبح زوجي الأول لاحقا، فقررنا الذهاب إلى الخارج لنعمل معا في المهمات الإنسانية. محطتنا الأولى كانت في باكستان (بيشاور) ومن ثم سيريلانكا. بعد ذلك عدنا إلى سويسرا، وانفصلنا. بعد الطلاق قررت العودة إلى لبنان. كانت تلك الفترة نهاية الحرب، عدت لكني لم أجد بلدي الذي أعرفه. كلامي هذا يصدم الناس كثيرا بأني ما شاهدته ليس بلدي. ذهبت يومها مع نسيب لي إلى الأشرفية، لم أكن أعرف المنطقة من قبل إذ كانت معرفتي تصل فقط إلى منطقة رأس النبع. عدت إلى لبنان حين انتهت الحرب كما قلت، وحيث أصبح بإمكاننا التنقل من منطقة إلى أخرى بسهولة، بيد أن ذلك جعلني أحس بأني لم أعد في البلد الذي أعرفه.
[ لم تشعري بأنه بلدك بعد، وفي الحوار الذي دار معك في الجامعة اللبنانية، قلت إنك تشعرين بحنين الحرب. كيف تحددين هذا الحنين؟
ـ لحسن حظي أني لم أعش في قلب الحرب، أعني لم أتعرض إلى تجارب أليمة أو أني فقدت قريبا عزيزا. بالنسبة إلي، الحنين إلى الحرب، هو ما يشكل لي كل هذه الأشياء الإنسانية، الصبر، تخلصي من كل هذه الأمور غير الأساسية أي وضعتني مباشرة في قلب الحياة. لقد عشت مثل كثيرين، تلك اللحظات القويّة التي عرفناها في الحرب: الروابط الإنسانية القوية، الخوف الشديد الذي عرفناه، الفرح الكبير الذي خبرناه. ثمة في ذلك كله شعور بالتضامن والانتماء الذي لم أجده مرة ثانية في أي مكان آخر. بعد مغادرتي لبنان لم أتوقف عن الشعور بالسأم، في أي مكان ذهبت إليه.
الرابط الإنساني
[ ليست الحرب إذاً بصفتها قصفا وقتلا، بل تفتقدين هذه الروابط الإنسانية التي عرفناها خلال تلك الفترة؟
ـ بالضبط، ما يعنيني هو ذهابنا مباشرة إلى قلب الأمر الأساسي، أي لم نكن نضيع الوقت مع أشياء – ربما كانت مهمة إلى آخرين – لكنها لم تكن تشكل لي أي أهمية. من هنا، حين أتكلم عن حنين الحرب فأنا أتكلم عن هذا الشعور بكوني داخل هذا الإحساس الذي يصنع الحياة. أما الأشياء الأخرى كالقصف والقتل فلا أعتقد أنه يمكن أحداً أن يشعر بالأسف على فقدانها. ما أفتقده هو طريقة ما في العيش عرفناها في تلك الفترة. كما قلت لم أعش أشياء قاسية ربما لو فقدت شخصا عزيزا لكانت نظرتي مختلفة الآن لكل هذا الأمر.
في باكستان، سيريلانكا، في هذه البلدان التي عشت فيها...
كنت أشعر بسعادة عارمة هناك.
[ لماذا؟ أردت أن أسأل هل وجدت هناك نوعا من مناخ شبيه..
ـ هذا هو الأمر بالضبط، لقد وجدت هناك مناخ بيروت الذي عشته، لكن من دون المخاطرة التي كانت هنا. من البديهي حين نعمل مع منظمات إنسانية نجد أنفسنا في أماكن أكثر أمنا لكنني عدت ووجدت هناك هذا الحس التضامني الذي شعرت بقوة حضوره، أي أن نكتفي بهذا القليل المعطى لنا، أن نجد حلولا لما يعترضنا، أن نواجهه معا. إنها أشياء تعجبني.
[ ألا نستطيع أن نعتبر أنك اليوم بدلت هذه الحرب بالكتابة، إذ أن الكتابة هي أيضا، بمعنى من المعاني، هي حرب أخرى؟
ـ ربما الكتابة حرب اخترتها لكنها منفذي أيضا أي أني بحاجة دائما إلى شيء يجعلني أتحرك، يأخذني إلى أشياء أساسية، وبالنسبة إليّ الكتابة تسمح لي بأن لا أشعر بالسأم والضجر، إذاً هو عمل أناني جدا. لأني في الكتابة أقوم بعمل «تنقيبي»، أبحث عن إخراج أشياء أؤمن بها أو أن أعبر عنها بقوة وعلى طريقتي. من هنا أحس بأني بخير في الكتابة.
[ ما الذي تقصدينه بالسأم، تقولين دائما بأنك تخافين ذلك، الخ..؟
ـ حين لا يحدث أي شيء (تضحك)، أحب أن تجري أحداث ما، أحداث غير عادية. مثلا نقوم الآن بإجراء هذا الحوار في مكان غير مألوف (إحدى حانات بيروت) هناك هذه الضجة التي نسمعها من حين إلى آخر، هناك أيضا العاصفة التي تغلف بيروت بينما كان علينا أن لا نخرج.. لدي الإحساس بأن كل شيء يتحرك من حولي. أحب هذا الشعور. إنها أشياء غير مسبوقة إذا جاز التعبير. ربما لدي رغبة دائمة في أن أرى أشياء غير مسبوقة، مختبرة، مع العلم أنها قد تكون أشياء غير «مطمئنة» في غالب الأحيان.
السأم
[ بالتأكيد لسنا في المكان الصالح الآن..
ـ أعرف ذلك (تضحك).. ولكن الأمور جرت بهذا الشكل. وهذا ما أفضله. في أي حال، بعد عودتي إلى لبنان في المرة الأولى، لم أكن أعرف ماذا أفعل، شعرت بالضياع قليلا، فعدت إلى سويسرا. وصادفني الحظ بأن أعمل في المسرح. أحب المسرح كثيرا لأني في الواقع وجدت فيه هذه الحيوية المبدعة، فأنا بحاجة إلى ذلك. أقول ذلك لأن العمل مع الممثلين لا يشعرني بالسأم أبدا. الخلاف في هذا العمل مع الحرب، هو أن العمل مع الممثلين يعطيك شيئا ما، وإذا كان شيئا جميلا، فهو يسامح العــديد من الأمور الأخــــرى. أحب الجمال الذي يمكن الفــــنان أن يقدمه. وهـــذا ما يلائمني جيدا، ما يجـعلني أتـــوازن أيضا.
لا أعرف إن كانت الكتابة تشكل توازنا حقيقيا..
هي عذاب، لكنها فعل إبداعي وما يلائمني أن أكون فجأة قادرة على إبداع شيء غير مسبوق وأن أبحث من خلالها عن الجمال في مكان ما. حين تكون هناك جملة في مكانها الصائب أقول يمكنني أن أنام الليلة، إذ أشعر بالسعادة.
[ تقولين إنك تبحثين عن الجمال عبر الكتابة. لا أعرف إن كنت بحثت مثلا عن هذا الجمال عبر الدمار في بيروت، حين كنت شابة بعد، خلال الحرب التي عشتها؟ وبخاصة انك قلت بأنك كنت تشعرين بالراحة أكثر في تلك الحقبة.
ـ أظن أنك نعود إلى مسألة الكائن الإنساني، البشري. ما كنت أبحث عنه هو جمال العلاقات البشرية. حين كان الناس بأسرهم ينسون أنانيتهم ومشكلاتهم، وهذا ما كنت أحسبه أنه يتخطى المعنى البشري. بهذا المعنى أظن أن هذه الحالة تشبه حالة الفنان الذي يحاول أن يتخطى ذاته. بهذا المعنى كان جمل الخراب يشكل صدى ما.
[ حسنا، بقيت أكثر من عشرين سنة في الخارج قبل أن تعودي إلى لبنان. عدت بعد نهاية الحرب، وقلت إنه لم يعد بلدك، الآن، رحلتك هذه التي تأتي بعد عدة سنوات، كيف تجدينها، أقصد أن السؤال البديهي الذي أجده يطرح نفسه، كيف تجدين بيروت الآن؟ وبخاصة أنك بيروتية من منطقة «رأس النبع» عاشت في تلك المنطقة التي كانت خط تماس. ماذا تمثل لك بيروت الآن؟
ـ إنها ماخور كبير (تضحك). بالنسبة إليّ تمثل بيروت الحياة. من المرعب قول ذلك ولكن أجد أنه يمكن أي شيء غير متوقع أن يحدث في أي لحظة. وغير المتوقع هو نسبي بالطبع. يمكن أن يحدث هذا في المدينة التي تكدرني. وما يكدرني هذه الأبراج التي ترتفع على سبيل المثال.. مع العلم أني أحبها لأن ثمة أشياء تتحرك، قد تكون تتحرك بالاتجاه الخاطئ لكنها تتحرك. ثمة أشياء إنسانية، مهمة.
[ تتحرك فعلا، ولكنها لا تبقي لك فيها أي ذاكرة؟
ـ صحيح، لم يعد لدي أي ذاكرة هنا، ولكنني أحاول أن أتآلف معها. أقصد عدت في شهر أيار الماضي، وتمشيت كثيرا في هذه المدينة حيث تهت فيها وحاولت أن أقول لنفسي عليّ أن أنظر وأشاهد. سأغادر بعد عدة أيام وأحس بالرغبة في العودة إلى هنا سريعا. لأنني بدأت أتيقن بأن المدينة تتسع، أقول هذا بكثير من المسامحة لأني سأعود إلى أوروبا. في أي حال، لا يتوقف المرء عن العودة إلى جذوره.
[ هل في استدعائك لبيروت هذه، في روايتك «يد الله» (التي ترجمت إلى العربية تحت عنوان «خط الحدود»)، محاولة ما لتعيشي مجددا هذا الماضي؟
ـ ثمة شيء خاص في هذه الرواية، لأني رغبت أن أعيش في «جلد» فتاة في الخامسة عشرة من عمرها، إذ حين بدأت الحرب كنت تقريبا في العمر عينه، بيد أني لم أكن أرغب في القيام بتحليل لما حدث أو أن أقف أمام استنتاجات ما. حاولت بقدر استطاعتي أن أبتعد قليلا وأن أتحدث فقط عن انطباعاتي، كما لو أنها بقع ظهرت أمامي. ربما انتبهت لذلك من خلال أسئلة الآخرين. كانوا يسألونني عن الحرب، وكنت أجيب. ومع الإجابات بدأت أنتبه لكل ما جرى. لم أكن أعرف يومها إن كانت أشياء طبيعية أم لا لأني كبرت في الحرب. من هنا ساعدتني نظرات الناس لأنتبه إلى ذلك كله. أي لم يكن طبيعيا ما عشناه جميعا.
توازن بين ثقافتين
[ هل تعتبرين أن مغادرتك لبيروت، خلال الحرب، كان فعلا غير طبيعي؟ إن كان كذلك، لِمَ غادرتها إذاً؟
ـ لأننا نقع في الحب أليس كذلك.
[حسنا، ولكن بعيدا عن قضية الحب..
ربما لأن وضعي مختلف، إذ أنني «فرنسية – لبنانية» (والدتي فرنسية) أتحدث عن ذلك في روايتي، فأنا مسيحية عبر والدتي ومسلمة عبر والدي. عديدون يعتبرون ذلك غنى كبيرا، ربما كان غنى ولكني لا أجده على قدر كبير من الجمال لأننا نقف دائما بين ثقافتين، كما أننا نحاول دائما أن نبحث عن هذا التوازن بين الثقافتين. أشعر دائما بأني أخون ثقافة لحساب الثقافة الأخرى. لذلك يبدو الأمر صعبا بالنسبة إلي. في العودة إلى سؤالك، أنا بحاجة لأن أكتشف أوروبا وفرنسا، صحيح أنني لا أعيش في فرنسا، بيد أني في الجانب الغربي من نفسي. رحلت عن لبنان بسهولة، لكن ليس هربا من الحرب، بل بسبب هذه الحشرية لأكتشف الغرب، لأكتشف هذا الجزء الثقافي الذي فيّ والذي لم أكن أعرفه.

[ هل يعني هذا أنك قمت بخيار، خيار الجزء الثقافي الغربي؟ على الرغم من أن موضوع الرواية هو لبنان.. لقد اخترت الكتابة بالفرنسية...
ـ ثمة خاصية مغايرة في هذه القضية، إذ منذ مراهقتي كنت أجابه الجميع، كنت أثور على أشياء كثيرة. من هذه «الثورة» ومن هذا التساؤل لم أكن اشعر بأني في المكان الصحيح. من هنا، وبطريقة ما، كنت أشعر دائما بأني لبنانية ومسلمة لكن من بدون أن أشعر يوما بأنني في قلب هذه اللبنانية والمسلمة. من هنا، أجد صعوبة في الحديث عن خيار، ربما كان خيارا جسديا، لكن في عقلي أنا أقيم بين الأمرين. لذلك أشعر بأني ذات يوم سأعود للعيش في لبنان، أي أن أقفل هذه الدائرة الكبيرة.
[ هل باستطاعتك فعلا أن تعودي إلى هنا؟
أريد ذلك فعلا.


 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free