http://kouttab-al-internet-almaghariba.page.tl/
  الشعرية المغايرة وبلاغة المفارقة
 


الدراسة الفائزة بجائزة النقد الأدبي لعام 2009 والتي تنظمها الهيئة العامة لقصور الثقافة
الشعرية المغايرة وبلاغة المفارقة في ديوان “ضد رغبتي
للشاعر أحمد المريخى
دراسة
د/ خلف شعيب
أعدها للنشر
الشاعر محمود مغربي...............
كثيرة هي مجموعة الدواوين التي صدرت في الأعوام الأخيرة، والتي صنفت داخل نطاق قصيدة الحداثة التي عرفت اصطلاحًا بقصيدة النثر، وفي البداية وقبل أن أستمر في تكملة حديثي، يجب أن أسجل مرور هذين المصطلحين (الحداثة/ قصيدة النثر) ضمن مصطلحات أدبية عديدة يمر عليها الإبداع الحديث دون أن يكون لها تقنين محدد، أو اتفاق بين المشتغلين بها، أو حتى توفيق من المبدعين والمنظرين علي حد سواء في صياغة المصطلح، ولما كان ذلك كذلك وبحكم عدم التقنين والتحديد، والبعد عن صحة الصياغة، كانت الفرصة سانحة لدي بعض المدعين أن يكتبوا ويسموا، فتحولت معهم كثير من النصوص إلي لعبة، وليس المقصود من تحول النصوص إلي لعبة تجاهلي لظاهرة اللعبة التي ساهمت فيها كل العلوم الإنسانية سواء علم نفس (بياجيه) أو فلسفة (دريدا) أو تربية (كايوا) أو علم جمال (جادمار)، ناهيك عن دور(دوسوسير)، و(فنجنشتين) اللذان كان لهما في اتخاذ ظاهرة اللعبة مكانها في الفكر الإنساني، من خلال ما تسرب من مفاهيمها في مجال السياسة، والاقتصاد والحاسوب وغيرها. لكن القصد الأساسي من وراء اللعب، هو ملاحقة العجائبي والغرائبي والمدهش لدرجة توحي لك بأنك تستطيع القول: إن هذا الأمر يدخل في نطاق الهذيان، لقد انقضي المعني، ولا يمكن أن يعود لا من خلال المبدع، ولا النص، ولا المتلقي، الذي يعول عليه كثيرًا في هذه المسألة لأنه استخف به كما استخف بالنص وباللغة وعاء الكتابة. وأنا- كقارئ- لست ضد التجريب، بجميع صوره وأشكاله ومسمياته، لست ضد قصيدة البياض، أو اللغة، أو الرسم، أو التصوير، أو أي شكل ولكن مع العمل الذي يملك صاحبه أدواته؛ لكي يكون مقنعًا قادرًا علي أن يقول، أو يجعلك تقول، أي يحفزك للإنتاج الموازي من خلال ما قرأت . المعني لا يموت، المعني ضمير ظاهر ومستتر، محجوب في لحظة، وظاهر في لحظات حسب النص، وحسب المتلقي، وحسب المبدع، وحين يموت المعني من الشاعر، فمعني ذلك أنه لم يستطع أن يعيش مع اللغة أو يتعايش معها، لم يستطع أن يعود بها إلي لحظة التدفق الأولي عند المنبع قبل أن يعلق بها ما يعلق، أثناء الجريان ومسيرة الحركة، وهو الأمر الذي من خلاله يُفقد المعني قبل أن تصل إلي المصب بعد أن استبد بها الكثير من عوالق الحقيقة والعقل والشعور والمعرفة.. وغيرها، مما يخرجها من حالتها الأولي
في كثير مما تخرجه المطابع الآن، عدد كبير من الدواوين الذي يتخذ من قصيدة النثر شكلاً وصياغة؛ لكن القليل من هذا العدد الكبير ما يضيف لقصيدة النثر الجادة، ويمتلك أصحابه أدواتهم ويخرجون فنًا مقننًا عن فهم ويقين، وعدد آخر يكتب قصيدة النثر متحولاً عن قصيدة التفعيلة لأنه يؤمن تمامًا ومن وجهة نظره وقراءته للمستقبل إنها المستقبل فلماذا لا يكتب للمستقبل، وهناك عدد من الشعراء ممن يكتبون هذه القصيدة، يكتبون مغازلة لنقاد الحداثة، يكتبون إبداعُا مفصلاً علي مناهج نقدية حداثية، هناك ترجمة لتنظيرات جاهزة، يتلقفها بعض المبدعين وينسجون علي منوالها أشعارهم؛ فيسبق النقد الإبداع من خلال ما وجد من صكوك جاهزة لمنظري الحداثة وما بعدها، فنري في كثير من هذه النصوص غياب الدلالة غيابًا كاملاً. وأي دلالة تنتج عن موضوع غائب، إن الموضوع هو الشفرة الرئيسة لتتبع المسارات الدلالية، فنري شعرًا متحررًا من المعنى، ولا يمكن أن ينتج من قبل جميع الأطراف (النص/ المبدع/ المتلقي) لماذا لأن القصيدة خرجت تبحث عن المطلق فتخلت عن الوسائط الأساسية للتوصيل ( لغة/ بلاغة/……) فظهر ما يعرف بتأجيل المعني أو إرجائه، من خلال تقنيات اللعب والمراوغة، وهذه المراوغة أو التأجيل أو الإرجاء نوع من التشتت الدلالي الذي نراه واضحًا جليا في كثير من قصائد النثر التي يدعي أصحابها أنهم يكتبون نثراً. وهذا الأمر علي وعي به كثير من النقاد الجادين منذ فترة طويلة، من ذلك مثلاً ما أثارته مجلة الناقد، وفي أعداد متفرقة ما بين سنتي 1988/ 1989 أثارت موضوعًا غاية في الأهمية سمته «محنة الشعر العربي الحديث». واستفتت المجلة حول موضوع انقضاء المعنى في الشعر. وهذا يدل علي أهمية الموضوع وتفشيه في الفترة الأخيرة. والأمر ذاته فعلته أخبار الأدب في 1994 حينما طرحت عنوان: الشعر العربي إلي أين؟ وجمع الحوار عددًا من شعراء السبعينيات أمثال: عبد المنعم رمضان (ع 30/ 31 ـ 6/ 13 فبراير 1994) وسيف الرحبي ( ع 32/ 20 فبراير 1994) وحلمي سالم ( ع 33/ 27 فبراير1994) ومنير البرغوثي (ع 37 / 27 مارس 1994) وأمجد ريان ( ع41/ 24أبريل 1994) وعزت الطيري( ع42 / 8 مايو 1994) ورفعت سلام (ع 44/ 15 مايو1994) وإبراهيم أبو سنة (ع57/ 14أغسطس 1994 ) ومحمد مهران السيد (ع 62 / 18 سبتمبر 1994) ومحمد بنيس ( ع 64/ 2أكتوبر 1994 )،… وآخرين ، وتوزعت الآراء حول موضوعات كثيرة في القصيدة العربية، ومنها قصيدة النثر التي تباينت الآراء حولها بين مؤيد ومشجع كما كان حوار أدونيس مع جمال الغيطاني (ع19يونيو 1994) “فالتعبير شعريًا بما اصطلحنا علي تسميته بقصيدة النثر أمر لا عودة عنه فهو ليس جزءًا من أشكالنا الشعرية وحسب وإنما هو كذلك جزء من لغتنا الشعرية ذاتها” ثم عاود أدونيس في 17 مارس 1994 من أخبار الأدب مع خالد سالم من مدريد وقال “كنت أول من شجع قصيدة النثر لكنها الآن مضطربة ولا هوية لها” ووقف صبري حافظ موقفًا متأرجحًا معللاً ذلك بأن “قصيدة النثر بدأت في الانتشار علي النطاق الواسع في عقد الثمانينيات.. وأدت هذه المرحلة لأمرين: إن جيل الثمانينيات لم يدر حوارًا كافياً مع الظاهرة الشعرية التي سبقته، ثانيًا لم يخلق جسرًا نقديًا يعبر عليه” كما استجاب عدد كبير من الشعراء والنقاد والقراء واستجابوا للردود
إن القصيدة الحديثة أصابها ما أصابها من الصعوبات التي وقفت في طريقها، كان أشدها صعوبة ووعورة ما جاء من أصحابها أنفسهم، فبعض النماذج لم تستطع الفكاك من النمطية والسهولة والبساطة، والبعض الثاني جذبته السريالية والصدامية والغرائبية، والبعض الثالث مازال يعيش بين جنبات البلاغة التقليدية وعلاقاتها النمطية، والبعض الرابع وقع في فخ التطويل، كما وقع فريق في شرك الاختزال، ولم يخرج البعض من سردية النثر ونسي أنه يكتب قصيدة شعرية، فطارده (زمن سرد) النثر دون أن يدري فظل يكتب نثرًا دون أن يصل لقصيدة النثر، وأما ما جاء من المقربين المنظرين فكان في أغلبه تأكيد وتثبيت للوضع الراهن، ولو أحسن هؤلاء وهؤلاء التقديم (المبدعون والمنظرون) لكان الأمر هينًا مع المناوئين. لقد صرح بعض المبدعين بالقطيعة التامة مع التراث، وذهب المنظرون يبحثون عن مرجعية غربية لها تتكئ عليها، مما جعلنا حتى الآن حيارى بين تذبذب المصطلح، وضياع المرجعية التي نتجت عن التورط بتصريح القطيعة.
رأينا كيف حسمت قصيدة التفعيلة معركتها مع القصيدة العمودية في وقت قصير واستطاعت أن تقدم نفسها وللأبد دون رجعة، ليس القصد استمرارها دون رجعة، لكن أقصد تقديم نفسها، لكن الأمد طال علي قصيدة النثر دون أن تقدم نفسها بشكل صحيح، أو علي الأقل دون أن تشعر الآخرين بأنها قادرة علي الحلول محل سابقتها، كما حلت سابقتها محل قصيدة عاشت أكثر من ألف وخمسمئة سنة- وهي أحق بهذا التقديم- تنظيرًا وضبطًا لأدواتها
علي الرغم مما أشاعه البعض من أن القصيدة الحديثة صممت برنامجًا للقطيعة مع البلاغة المعيارية ذات المرجعية المعروفة؛ إلا أننا نجد هذا الكلام ليس صحيحًا تمامًا ويفتقد للدقة المنهجية، فالخروج وكسر المرجعية مع البلاغة المعيارية ليس معناه الخروج تمامًا علي الأنساق البلاغية الموروثة، نعم هناك بلاغة خاصة لا تنكر؛ لكن لها مرجعيتها مع السابق، أو كما ردد أدونيس أكثر من مرة، بأن الاختلاف المفرط عن تراث اللغة التي يكتب بها الشاعر، هو الموت أي التبخر كالدخان والائتلاف المفرط هو الموت أيضًا. إن البلاغة الخاصة هذه لها نسقها الذي يقوم علي الممكن، كل الصور متاحة للاستخدام قابلة للتوظيف. إن الصورة المجازية في القصيدة الحديثة تنتمي لمعجم لا ينتهي من المفردات والأنساق اللغوية التي تستطيع أن تكون شجرة دلالية تمتاز بالمرونة، والتوليد غير المتناهي للعلاقات والأنساق الدلالية. ليست هناك صورة رديئة أو تشبيهًا بعيدًا أو استعارة رديئة أو أن وجه الشبه هنا بعيد وغير ممكن، كل شئ ممكن أن يكون مشبهًا ومشبهًا به مهما كان هناك وجه شبه قريب أو بعيد أو غير موجود أساسًا، وأخذت الاستعارة أبعادًا دلالية تبحث في جوانب تجسيدها أو تشخيصها أو ما تشير به إلي إيحاءات مختلفة طبقًا لأهمية الأبعاد الدلالية والنحوية. نطرح سؤالاً ربما طرح كثيرًا من قبل؛ لكنني أردت أن أعيد طرحه هنا، ما جدوى التحديث إذا كان ذلك مقصورًا علي نخبة معينة؟ والمجتمع رافض أو منعزل أو بعيد عن المشروع التحديثي سواء كان ذلك بإرادته أو قصرًا في زمن أصبحت فيه الثقافة عامة والحركة الشعرية خاصة نوعًا من الترف. في هذه السطور سنجول مع قصيدة مغايرة تنتمي لهذا الجيل الذي يحتاج إلي نظرة جادة لقراءته دون الاعتماد علي الصكوك الجاهزة أو التعامل مع الجميع بمنطق الواحد. فحين تقرأ ديوان أحمد المريخي (ضد رغبتي)[1] تجد شعرية مغايرة، ليست مجرد استنساخ لقصيدة آخري وافدة، ولا تقوم بتدشين خطاب القطيعة مع التراث السابق عليها، كما أنها تمتلك فعل الخروج والتجاوز، دون أن تقوم علي قاعدة المحو والابتداء، ولا تتزيا بأزياء ملها أصحابها، فخلعوها، ورموا بها علي قارعة الطريق، ولا تعلي من نبرة الصراخ التي نراها غالبًا ما تصاحب منظري الحداثة، من هنا يجب أن تبحث لها عن قراءة تخرج منها، تكشف دون أن تحجب. يجب أن يتخلص القارئ من الأحكام المعيارية الخارجية ويترك للقصيدة حرية إنتاج مقاييسها، من داخلها، في هذه اللحظة تكون القصيدة وكأنها هي التي تطلق الحكم علي نفسها وما دور القارئ أو الناقد سوي مكتشف لتلك الأحكام والمقاييس
لا أكون مبالغًا حين افتتحت الكلام عن هذا الديوان بهذا الشكل لما رأيته في كثير من نصوصه من امتلاك للرؤية، وترك لما اندس من التراث- في جنباته- يخرج دون خوف، بل منحه صاحبه حرية الحركة دون أن يتلصص عليه ماسكا بتلابيبه صارخًا (من رمي علي بهذا).
الديوان يضم ثلاث مجموعات شعرية كل مجموعة تضم حالات شعرية متوازية متناسقة فيما بينها من ناحية، ومتناسقة مع دلالة الديوان وتوجهه من ناحية آخري، أضف إلي ما تقدم أن كل مجموعة كتبت في فترة زمنية تتداخل معها المجموعة الثانية في فترتها، مع وعي شديد لهذا الأمر من قبل الشاعر، ومن خلال تنسيقه لديوانه لأجل ذلك قلت ما قلته في البداية. من هنا كان الديوان يحمل تجربة كلية ذات دلالة، قادرة علي إقامة حوار نقدي تجاهها
من العنوان تطالعك المفارقة بدلالتها، (ضد رغبتي) عنوان دال تتكون بنيته النحوية من مضاف ومضاف إليه مع إضافة ياء المتكلم، في هذا العنوان وفي قصائد الديوان يجب لفت الانتباه للحضور العارم للمتكلم، والذي يظهر منذ البداية من خلال الإضافة إلى “ياء” المتكلم التي تشكل ظاهرة أسلوبية تستحق الوقوف عليها، لكنني سأوضح بعد ذلك أن ياء المتكلم والتي تبرز (الأنا الشاعرة) خلالها، أقول: ليس شرطًا أن تكون (أنا الشاعر) هي المحور الأساسي الذي يدور حوله النص بل يمكن أن تكون الأنا هنا (أنا) مغايرة.
لوعدنا إلي الياء فإننا نعرفها علي المستوي الصوتي اللغوي أنها من الحروف المجهورة الرخوة، أما علي المستوي الدلالي فإن حضور المتكلم في النص عبر حرف مجهور رخو، فيه دلالة الاحتياج إلى الآخر لإتمام الدلالة. فياء المتكلم كما رأينا حرف وإن احتوى على مضمون، فهو يحتاج بالتأكيد إلي غيره لإنتاج المعني، فالحرف لا يوحي بمعني منفردًا. وإضافة المسند هنا إلى الياء، أخذ أهميته على المستوى الفني بعد حذف المسند إليه، وهناك وظيفة آخري دلالية (لياء المتكلم) حين أضيفت لنكرة وهي (رغبة) فخلصتها من تنكيرها ومنحتها التعريف، بمعني أن الرغبة هذه أصبحت محصورة علي ياء المتكلم مقصورة عليه. والدلالة الثانية لإضافة ياء المتكلم إلي المسند تلك العلاقة بالمسند إليه المحذوف، والإسناد والإضافة يوحيان أن الرغبة وياء المتكلم يلتقيان في مكان واحد ويعيشان جنبًا إلي جنب، ولو بحثنا خلف دلالة الإضافة نجدها لا تقتصر فقط علي التعريف والقصر كما أسلفنا ولكن تعيد النظر في دلالة الحضور الغياب للمتكلم في النص. لكننا نعود إلي المسند إليه المحذوف لنبحث عنه فما هو الشيء الذي يحكي خطاب الأنا، إنه ضد رغبتها، سنترك الأمر لما تبوح به دلالة الديوان.
في الإهداء الذي يتلو العنوان، يقول الشاعر
آلو
يا أصدقائي
الذين أحبهم
كما أحبتني أمي
آلووووه
جاء الإهداء هنا علي هيئة نداء، والنداء هنا يحمل معني الاستغاثة التي تطلب من ينجد ويغيث، أو يلبي الطلب، كما جاء حاملاً للمفارقة من خلال خطاب الغياب/ الحضور الذي تحقق عن طريق لغة الهاتف التي تحمل أكثر من دلالة: دلالة الغياب ، ودلالة الحضور، ودلالة الجماعة/ الواحد، فهو يخاطب الأصدقاء (الحضور في القلب والضمير) بلغة الغياب (الهاتف)، فتكمن المفارقة في البعد وعدم إجابة الخطاب بدليل (آلو) الأولي التي تحمل نفسًا قصيرًا، ومساحة صوتية تناسب بداية الحوار، كما تناسب التودد والحميمية، وتوحي بافتراض إجابة الخطاب، لكن (آلووووه) الثانية، تأخذ الدلالة الصوتية للمد والتكرار لحرف الواو الذي يوحي بغياب المنادي الذي ينتج من عدم الاستجابة علي الرغم من تكرار الصوت ومده وهنا نري تحقق معني الغياب وعدم الاستجابة، ويكمن الغياب/ الحضور في الفعل (أحب) التي توحي بخطاب الحاضر للغائب، فهو يحبهم كما أحبته أمه، التي يوحي استخدام الفعل الماضي بالغياب، ويرتبط التصدير بالإهداء حين يصرح قائلاً
( كان يمكن لنا أن نصبح عائلة واحدة
لكننا فكرنا في ذلك علي انفراد…) ص9.
تقدم صفحة التصدير( فراغًا/ بياضًا ) طويلاً ينتهي بهذين السطرين الشعريين في نهايتها وللفراغ/ أو البياض دلالة واضحة علي الإحساس بالزمن ولذلك يبدأ بالفعل الماضي (كان) بعد هذا البياض الكبير أعلي الصفحة، كما يمكن أن يكون له دلالة مرتبطة بالتصدير الذي يدشن ظاهرة الغياب منذ البداية، كما يمكن أن نعي أيضًا أن البياض يكشف من خلال الضوء الناتج عنه قتامة المفارقة، هنا يجب أن نتساءل لمن يوجه تصديره؟.. هل لمن نادي عليهم من أصدقائه في الإهداء؟.. ربما..! ربما لكل الذين يفكرون علي انفراد وينسون الجماعة/ الأمة، وربما لغيرهم، ربما لكل المهمومين الذين يملكون صوتًا مثل صوته، أو لا يملكون، فكلاهما مقصود، من يملكون، تعالوا معي نوحد الخطاب ومن لا يملكون استجيبوا للنداء، وكلاهما قابل للترجيح من خلال دلالة الخطاب الذي يحمل المفارقة في السطرين السابقين والتي تفصل (لكن) بينهما لتؤكد المفارقة، فلو سمعوا النداء في الإهداء ما حدث ذلك، لكن (آلووووه) الأخيرة تؤكد التفكير علي إنفراد، وغياب صوت الجماعة وسيطرة الفردية.
في قصيدة (الانبلاجات) تستمر معنا المفارقة حين يقول
(الابتسامة التي فرضها المصور
علي وجهي في العام الماضي
أفسدت الصورة التي رسمها الله منذ
ثلاثين عاما.) ص1
هذه القصيدة وغيرها من القصائد القصيرة في الديوان، والتي تتصف بالكثافة العالية والإيجاز الشديد والتي قدم لها النقد الحداثي مسمي قصيدة التوقيعات نسبة إلي فن التوقيعات في تراثنا العربي الشديد الكثافة، العالية التعبير المشحونة بالصور القادرة علي التوليد من داخلها، في هذه القصيدة تتشابك الأنا مع الأنا الشاعرة المغايرة منذ ثلاثين عامًا هو بداية الأنا وهو بالنسبة للأنا بداية الكون، بداية الحياة دون أن يعلق بها ما يفسدها هذا ما تريد الأنا الحفاظ عليه، وأن تبقي الفطرة التي تتشابه معها فطرة اللغة التي أسلفنا في بداية المقالة أن تكون بعيدًا عما يعلق بها من شعور ومعرفة وعقل وتراكمات متعددة تخرجها عن دورها الشعري القولي، من هنا كانت الابتسامة التي يجب أن تخرج من صاحبها عن طيب خاطر أتت مفروضة عليه، وفرضها بهذه الطريقة جعلها تشوه خلقة الله التي صاحبت صاحبنا طوال حياته السابقة، هذا الإطار الفلسفي الذي نشأت فيه هذه المفارقة يوحي بالوعي العالي بالذات التي هي صورة للوعي بالعالم والوعي باللغة والنص الذي ينطوي بدوره وفي جوهره علي تناقض، تريد الذات أن تمسك بأطرافه المتناقضة وهذا مبدئيًا لا يصدر إلا عن ذات وذهن متوقدين.
وتستمر المفارقة في باقي حالات القصيدة الشعرية، فلو استعرضنا هذه الحالة الثانية والتي تظهر فيها الذات المتوقدة تحاول الخروج علي المحدود، الخروج علي قيود الزمان والمكان التي تقيد حركتها، فتظهر لنا الأنا التي انفصلت لتوها عن الـ (نحن) لتحاول أن تقيم علاقة مع الذات لكي تحقق ما تحاوله من بعد عن العزلة فهل تستطيع ذلك، نأخذ هذا المقطع
(؛
وأنا
أعري صدري للسما..
ندت نجمة، قالت:
لماذا تعري للسما../
- كي تدخلي،
فدخلت نجمة غير التي..
يا نجمة: لم تدخلين؟
قالت: ولما تعري للسما جسد السنين؟!
- كي تهبطي،
فهبطت نجمة غير التي../
يا نجمة: لم تهبطين؟
قالت: ليس بعد: ليس بعد:
يا أيها الولد الحزين…) ص 14.
هنا تتحقق المفارقة الضدية التي تتصل بعنوان الديوان والتي تأتي من خلال اللعب باللغة مع التظاهر بالبراءة والسذاجة، والغفلة أحيانًا والتي هي صورة مهمة من صور المفارقة، مع التنوع بين الخبر والإنشاء الذي يبدأ بجملة خبرية، ثم يعقبها بآخري إنشائية حتى ينتهي بالخبر كما بدأ به. إن في حضور الجمل النحوية الخبرية وتقاطعها مع الجمل النحوية الإنشائية هو توصيف للحدث من خلال الخبر وتوصيف للحال من خلال الإنشاء، مما أنتج وجودًا شعريًا مهمًا حول الذات التي تكون الأنا المحور الرئيس التي تتقاطع لديها الأسئلة لتبحث عن سؤال الهوية والوجود، هنا اللغة تظهر في وضع حميمي مع الشاعر وفي أغلب قصائد الديوان هذه الحميمية تصل لمرحلة من الاتحاد أو الحلول الصوفي، فتعطي اللغة أسرارها الخاصة لصاحبها فيكون التعامل معها ومن خلال هذه الروح الصوفية ضربًا من التجلي، وهو أمر صعب لأن اللغة في هذه الحالة تحتفظ بكثير من أسرارها، فتصعب معها القراءة وينسج الشاعر من هنا لغة خاصة ومعجمًا مختلفًا ، فيصغ هذه السردية التي تقدم من خلال هذا التبادل الحواري براءة هذا الصانع للمفارقة، والذي يحاول أن يقوم ومن خلال هذا الحوار بكسر العلاقة بين السبب والمسبب، لأن منطقية الأشياء تاهت ومن هنا تتوه الحقيقة التي هي ناتج طبيعي لهذه المنطقية؛ علي الرغم من أن الحوار بدأ من نقطة وانتهي في نقطة ومن هنا يتحقق الإحساس بالخديعة الذي يظهر لنا جليًا ونحن نحاول الاستمرار في القراءة.
(؛
عاريًا جئتُ
إلا من الذي به عُلقت…)
هنا تنتهي هذه القصيدة بهذه الكثافة العالية لكنها تتشابك مع القصيدة التي تليها لتكمل مسيرة الذات مع الكون
(راضعًا من خبز أمي زبدًا وإداما
وحين انفلات الرجولة من جسد الغلام
تبخر الزبد ففاح الإدام ) ص 16
هنا يقدم تاريخًا للذات التي هي تاريخ الإنسان وتكوينه ليصل ربما من خلال هذا الأمر إلي بناء حقيقة منطقية أو واقع صلب يقف عليه؛ ولكنه يفاجأ بأن هذا يتبخر والحقيقة وهمية وأن ما ظن أنه يمتلكه خدع به فيراه وهمًا فيعود إلي الحالة الأولي التي أشرت إليها سابقًا وركز عليها الشاعر كثيرًا، وهى الحالة الأولي للذات أو الجسد أو اللغة التي أصبح من المستحيل الفصل بين بنيتها وبنية الذات عند الشاعر، وكما قلت سابقًا: صار بينهما اتحادًا أو حلولاً بالمعني الصوفي للكلمة. لكن يجب أن نعي أن هذا الجانب الدرامي ليس بالضرورة أن تكون الذات الشاعرة هي هذا الصوت المسموع، حتى لو كان ضمير المتكلم هو المسيطر. إن الشخصية الشعرية الدرامية هنا شخصية مختلفة تمامًا عن شخصية الشاعر وهذا ما يؤكده في باقي انبلاجاته
(ورسمت شجرة
علقت فيها الربيع
ولما جاء الخريف استدارت
مرت علي مرفقي وقالت
سلامًا !!) ص 17.
إن رسم الشجرة رسم للحياة التي تتمناها الذات، ولذلك يعود بنا الشاعر إلي التيمة الأساسية ألا وهي الحالة الأولي للأشياء، قبل أن يعلق بها ما يعلق، ثم يعلق بالشئ ما يعلق به أو يعتريه ما يعتريه، مما يخرجه عن حالته الأولي التي يرمز لها برموز عديدة تعود في النهاية لتصب في سؤال الهوية، علقت الذات فيها الربيع لتصير الحياة دائمة كما كانت تعتقد، وأن الربيع هو الذي سيثبت ويدوم، ويبقي الأمر علي هذه الوتيرة من التجدد، فهو رمز للحياة الجديدة؛ لكن هيهات جاء ما يقابله، جاء ضده، جاء الخريف، ليكون التغير هو أداة قلق الذات، صار العالق زائفًا، فكان سقوطه لا محالة، ومن هنا تبرز المفارقة علي مستوي اللغة، كما جاءت علي مستوي الموقف، ويكتشف في النهاية، نهاية ما توهم، لكنه يحاول، ويعاود المحاولة، ولا يتوقف عند لحظات الإخفاق، وهذه طبيعة المخلصين.
(؛
وفي المساء
أوقد أحلامي
كأرملة تتحسس أطفالها في المنام) ص18
بداية لماذا المساء؟ هل يخاف من وهم وزيف النهار/ الواقع الظاهر مرة آخري؟ ومن هنا يخاف لحظات الكشف، أو هو يبحث عن اللامحدود المجهول في مقابل المحدود المعلوم، أنظر معي إلي هذا القول (أوقد أحلامي كأرملة تتحسس أطفالها في المنام) أنظر إلي التشبيه هنا، فالمشبه الذات من خلال الأنا المستترة، لتتشابه حالة الذات وهي توقد الأحلام بالمرأة التي تتحسس أطفالها في المنام، الذات منكسرة بدليل تشابهها مع الأرملة والأحلام ضائعة بدليل تشابهها مع أطفال نيام في جميع الأحوال لا حول لهم ولا قوة، أطفال/ أيتام/ نيام، هكذا تتشابه أحلام الذات.. الذات هنا عارية من غطاء المؤانسة ولذلك تحمل قدرًا كبيرًا من الخوف الذي يظهر من خلال الفعل (تتحسس)، كما أن هذه الأحلام تخلو من الميراث الأبوي بعد يتمها ومن هنا تستمر في المواجهة:
(تحركت ضدي
فقابلت ضدي
وصرنا ضدين
ضدي!!) ص 19
هنا يلعب الشاعر علي الشيء ونقيضه، والشيء وما يعارضه، والشيء وضده، اللغة هنا لعبة تحمل متعلقاتها المجازية، لكن هل يتحقق هذا من خلال ذات عادية طبيعية، لا أظن ذلك بل إن الأمر يجب أن يتعدي هذه الذات ويتجاوزها ولابد لصاحب المفارقة أن يقوم بهذا الأمر عن وعي، لأنه هنا يقف بها في حالة صراع بين المعلوم والمجهول، فهذه الصورة تقف بك بين الممكن والمحال ويتزامن فيها المعلوم والمجهول ، وتبقي نهاياتها مفتوحة إلي ما لا نهاية من الضدية والتناقض. كثافة واضحة لحضور الأنا، إننا أمام برقية تسيطر فيها الأنا علي الرؤية فالأنا متأكدة من وجودها لكنه وجود متشظي منقسم يكون الظل فيه وجودًا مقابلاً للوجود الأصلي، لكنه تولد من المقابل وجودًا آخر مقابلاً ضد الوجود الأصلي.
(ثمة شيء يؤخذ علي
أشعر أن الكون محايد
وأنا قد انحاز إلي) ص 20
الإنسان كذات عاجز عن معرفة الوجود معرفة متكاملة، فمعرفته محصورة في إطار ما يدركه من معرفة جزئية، والأنا وجود، والوجود مرتبط أو مرادف للحرية، لكن هل العلاقة بين الأنا والكون علاقة واضحة المعالم ؟ ربما تكون الإجابة بالنفي لأن الأنا غالبًا ما تريد أن تجعل من نفسها حقيقة قائمة بذاتها، وهذا لا ينفي أن يكون الوعي بالذات، وعي بالآخرين كذلك، لكن الوعي بالذات في ظل هذه العلاقة مع الكون يدخل في حالة من الصراع الدائم والتمزق خاصة إذا كانت هذه الذات في تجاذب دائم مع هذا الكون، من هنا تأتي هذه الحالة الشعرية :
(أخبرتهم أن الذي
قد مات.. مات
وأننا لما نزل..
نحاول الحياة) ص21.
هذه هي علاقة الشد والجذب مع الكون والحياة، والذوات الآخري، الحضور والغياب، وهي بدورها لا تستغني عن المفارقة التي تولد الحياة من الموت والموت من الحياة. هذا الصراع بين الذات والذوات الآخري لا يستغني عن لغة المفارقة ليصل في النهاية إلي القول إن الذين ماتوا عرفوا حقيقة وجودهم بالموت فهو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم أما الأحياء فلا يعرفون حقيقة وجودهم سوي أنهم يحاولون الحياة
(ووقتًا ما
سأحاول أن أموت
لكنني لن أستطيع
ربما لا أخشي الموت
ربما أخشاه
ووقتًا ما
إما سيقتلني
أو سأنساه!!) ص24.
يتأجج الصراع بين الذات وبين الكون، من خلال هذه اللغة اليومية ومن خلال ما يقدمه الشاعر من لغة صدامية تتواري مرجعيتها الذهنية، مع التركيز علي إيهام القارئ بواقعية الموقف علي الرغم من جنوحه ناحية الفانتازي والغريب، أو إن شئت الدقة بين إدراك الذات وإدراك الكون ومن هنا تقاوم الأنا الاستغراق في نفسها، لتخرج عليها لتقف في صراع مع الوجود ونفي الوجود الذي يصحبه دائمًا هذا التشتت والتذبذب بين الفعل وضده، كما حدث في الحالة الشعرية السابقة التي تأتي نموذجًا لهذا التذبذب، بين الحياة والموت، بين الخوف والشجاعة، بين الخشية والمواجهة، لكن الذات تعي جيدًا ودون مكابرة أن الموت منتصر لا محالة ولذا كان السلاح الذي يواجه به ليس سلاحًا ماديًا وليست المعركة متكافئة ومن هنا خلقت الذات لنفسها سلاح النسيان، نسيان أن تضع الذات نهاية للوجود ، فهذه مسألة ليست بيد الذات ومن هنا كان الصراع، ثم المحاولة المستميتة للخروج للانتصار علي هذا التذبذب الذي يمكن أن يصل بصاحبه إلي حالة من العزلة كما توحي الحالات الشعرية الآخري:
(؛؛ …………….!
- ومن يرفضه الموت
ماذا تفعل به الحياة ؟!!
؛؛…………………!
يواريه التراب وينبش..) ص25.
ننظر بداية لدلالة فراغ الصفحة وما يمكن أن ينتج من معني بعد الفاصلة المنقوطة وينتهي بتعجب يخلفه بقول الشاعر (ومن يرفضه الموت)( ماذا تفعل به الحياة ) إن الموروث الشعبي يذهب إلي أن الموت يختار الخيار من الناس والموروث الديني يذهب نفس المذهب مع قرب النهاية يموت العلماء “يرفع العلم ويظهر الجهل” معني ذلك أن الموت لا يرفض الجهلة الشرار ماذا تفعل بهؤلاء الحياة يدفنون أحياء يهال عليهم التراب فينبشون ويخرجون، هنا قمة السخرية التي هي من أهم سمات المفارقة حين تصل الذات إلي حالة من المأساة عندما تتجرد من حياتها مع الجماعة، فلا تستطيع مواصلة التواصل وتدخل الذات في حالة من العزلة الناتجة عن حالة الرفض التي أبرزتها المفارقة بين الحياة والموت والقبول والرفض، هذه الحالة في الغالب تحاول الذات هنا أن تتمسك بها للاعتراف بالعجز عن الاستمرار في هذا الصراع الذي هو في الأساس جاء لإثبات استمرار وجود الذات مع هذا الكون والهروب من العزلة للحياة. ومن هنا تأتي هذه الحالة الشعرية:
(يريدون أن أعلل موتي!!
………………….
وبماذا أعلل روح السمك خارج المياه إذا
كان كوردة لا يذبل رحيقها أبدا ؟) ص26 .
هل المفارقة تأتي من تعليل الوجود أو من تعليل الموت؟ وهل يحيا السمك خارج المياه؟ وأي وردة هذه التي لا يذبل رحيقها أبداً؟.
هنا يتفق تعليل الموت وتعليل الحياة، يأتي الحذف ليقول: إنني الآن لا أستطيع الحياة لأن مقومات الحياة لمثلي في ظل هذه الحياة غير متوفرة، هنا تغيب الكلمات لكن المعني لم يغب لكن حضوره لا يأتي من خلال المرجعية المعجمية ولكن للمعني هنا معجمه الخاص الذي يتولد من التركيب النحوي، والتشكيل الفراغي/ الكتابي ودلالة أدوات الترقيم.
في الحالات الشعرية القادمة ينتصر الشاعر علي عزلته الوهمية التي فرضها عليه إبداعيًا خطابه الفلسفي، والوحيد القادر علي الخروج بصاحبه من هذه العزلة حين يحقق لنفسه دورًا كان يصبو إليه من خلال علاقة جليلة مع المثل الأعلى، أي أن ما يقوم به الإنسان من دور في حركة المجتمع والحياة، خاصة إذا كان هذا الإنسان شاعرًا قادراً علي تقديم تجربته في ثوب مختلف، هنا يظهر دور المخلص سواء كان رسولاً أو شاعرًا
- (إذن اصطفاك الله
تعيش مشردًا
إلي أن يجيء وراءك المستقرون) ص28.
هذا الاصطفاء لا ينال شرفه إلا المرسلون والأنبياء والمخلصون الذين وهبوا أنفسهم لإعادة صياغة الناس وتقويم ما أعوج، الشعراء في الميراث الفكري الإنساني أنبياء في قومهم فلما خالطوا الناس وتكسبوا بالشعر نزلوا عن رتبتهم، كما قال أبو عمرو بن العلاء ونقله عنه الأصمعي وورد في كثير من كتب التراث، لكن المفارقة أيضًا تأتي علي مستوي الحدث فنراه يركز علي عدم الاستجابة وضياع تلقي الخطاب فيقول:
(أصحو في الحافلة
من حَولي .. حَولي
والحافلة هي الحافلة) ص 30
اتفقنا سابقًا أنه علي الرغم من سيطرة ضمائر الذات علي أغلب قصائد الديوان إلا أن ذلك لا يكون قناعًا للذات، فالشخصية الدرامية أو الغنائية، أو الغنائية الدرامية مخالفة تمامًا لذات الشاعر؛ ومن هنا نجد الشخصية الشاعرة هي وحدها اليقظة، هي الرسول الذي يحمل رسالة لكن الناس نيام، لا حياة لمن تنادي، الحافلة/ الحياة الكون هو يغلفه السكون فيستخدم المفارقة للسخرية من الموقف:
(الأرض استوت
لكن الطرح
دخان) ص 29.
الأرض المكان، الوجود، الوعي، استوت بكل دلالات الاستواء لكي تخرج ما فيها، وتعطي عطاءها، فالأرض بالتعبير القرآني هي مكان الضرب والمسير وهي السعة والتمكين، هي المعيشة والرحابة والاستعمار، لكن هذا كله لم يستغله قاطنوها، فكان الطرح دخاناً.
ويستمر في استخدامه للمفارقة، سواء علي مستوي الحدث أو علي مستوي اللغة ليقدم سخرية دائمة من السكون والثبات، ويقاوم إلي أقصي درجات المقاومة حتى لا تحدث الانتكاسة ويصيبه الملل، فهو في حالة توجه دائم مع الذات ومع المحيط في سخرية ربما تقلل من قتامة الواقع وسوداويته، وربما تزيده؛ لكنها في الأصل لا تنسي الغرض الأساسي وهو إعادة تشكيله وصياغته:
(يا أيها البردان
آن الأوان
فاخلع رداءك
كي تغطي به الوطن) ص 31.
ماذا تقول هذه المفارقة هل تعفي من المسؤولية بعد أن ألبستها للذات من قبل؟ علي اعتبار أن الذات لا حول لها ولا قوة، أو أنه يريد كسر الموروث الذهني أن الذي يريده البيت يكون محرمًا علي الجامع، أو أن الأمر يكمل مع المفارقة مسيرة السخرية حين تستمر تضحية المضحين دون جدوى لأن الذي يجني غيرهم.
وبعد هذا الجهاد المتكرر بين الذات والكون، والمحيط المشارك في المصير المحتوم يخلع عن نفسه مسؤولية عدم الاستمرار في البحث عن الخلاص والعودة إلي عزلته القديمة
و(يا أيها الوطن المسافر في دمي)
سأكتفي بسذاجتي
وأقول
إنك
منزلي!) ص 32.
وتستمر المفارقة حين يقول:
(اكتملت أسلحتي
بعد أن انتهت الحروب) ص 33.
اكتملت أسلحته لكن ما القيمة إذا كانت الغاية التي من أجلها تكتمل الأسلحة قد انتهت، انتهت الحرب، أي حرب، الحروب لا تنتهي، الحرب مع الذات، أو الحرب خارج الذات، الحرب مع الآخرين، الحرب مع من يعدون للحرب في كل لحظة.
وتستمر المفارقة لتقدم لنا صورة من صور الحرب السابقة تجمع بين ضعيف علي مستوي بنية الجسد، لكن قوة فعله كبيرة، له أسلحة ربما لا تنال الاعتراف لضعفها، لكنه ينتصر في النهاية يقول:
(ضعيف هو الدود لكنه
إذا ما نغي
يفني جسد) ص35 .
في قصيدة (تشخيص) يرسم الشاعر لوحة تشكيلية تلعب الحركة فيها دورًا كبيرًا وعنوانه يبوح بذلك:
(… وعندما فتحت قميص حبيبتي
لم تكن هناك مفاتن
كان الجيل الذي يعيش هزيمة حقيقية
يواجه الجيل الذي يندد بانتصاراته
فلا
تلوموا حبيبتي
عندما افتح قميصها
وتفتح قميصي
ونحقق معارك صغيرة
لا تشبه الانتصار الزائف) ص39
من بين دلالة الحبيبة هنا، الحبيبة/ الوطن في هذه القصيدة، تبدأ القصيدة بحذف وكأنه يريد أن يقول منذ البداية: إن قراءته لصفحات تاريخ الحبيبة عديدة وإن ولوجه عبر النظر في ماضيها كثير، ومن هنا كان علي وعي بتاريخ المعارك الكلامية بين المتكلمين والقوالين الذين لا يجيدون سوي صناعة الكلام، وتستمر المعارك التي أسلفناها سابقًا علي مستوي الذات حين اكتملت الأسلحة وعلي مستوي الدود الذي ينتهي بانتصار زائف لأن الخصم لا يملك المقاومة صار جسدًا هامدًا، ونستمر في المفارقة لنتابع هذا الانتصار الزائف (هذا يعيش هزيمة حقيقية علي جميع المستويات وفي كل الاتجاهات، وهذا يندد بانتصار؛ لكنه ليس انتصارًا حقيقيًا إنه انتصار زائف، فليعد لحبيبته ثانية ويصنع معها معارك لكنها معارك تشبه الانتصار الزائف؛ كما كانت الانتصارات الزائفة السابقة التي صرح بها وندد الجيل السابق وقام بها الدود الضعيف أمام جسد ميت.
في قصيدة (تخطيط) يستمر فعل المفارقة أيضًا فيعزف الشاعر مفارقات عدة
- الحضور/ الغياب:
(… وفي لحظة كتلك، بعد قيامة قادمة
يجئ رسول
يردد كلمات تشبه كلماتي
وفي حياة تشبه هذه الحياة
يقول لكم يا ناس) ص 40،
- البعد/ القرب:
(لا تؤجلوا جرأتكم؛ عسي أن تظفروا بما لم تدركوا)،
- الإيمان/ الكفر
(حاولوا أن تلمسوا السماء بأصابعكم- فهذا من الإيمان- )، (اخلعوا حيادكم، وحاوروا الله كل ليل)
- السكون/ الحركة
(- يا ناس- ماذا تبتغون من سكونكم)، (وإن كنتم ساكنين بطبيعتكم/ اصاعدوا شيئًا فشيئًا)
- الرسول/ الشاعر
(يجئ رسول/ يردد كلمات تشبه كلماتي).
في قصيدة ( القيء) نجد هذه المفارقة التي تحمل دلالات عديدة:
(لم أكن مسجونًا سياسيًا- ربما تحترمونني-
لكنني
غازلت بنتًا في طريق جانبي) ص43 .
في قصيدة هكذا نجد سيطرة المفارقة واضحة
(حتى العربة التي انفردت بالسائق
تضن عليه بالحياة) ص 45.
ثم يقول
(هكذا الشجرة التي كانت ظلال العابرين تستحم في جسدها
ابتلعت الأرض ظلالها) ص45.
فبدلاً من أن تستحم ظلالها في جسد العابرين صار العكس، تقدم المفارقة هنا دلالات الغياب
(نامت أغصانها تحت الجذوع..
فمارس الريح لعبته)
لقد فقد الريح دوره، لأن الغصون نامت تحت الجذوع بدلاً من أن تظل صامدة تقاوم الريح لا تنحني. وهذا ورد في قصيدة النور
(في الحي بيتي
في البيت جسدي
في الجسد سوقي وأغصاني وأوراقي) ص64
وتلعب المفارقة دورها في السخرية من الواقع الذي يتأرجح بين الهزيمة والانتصار الزائف كما سلف.
(وتركني هزيمة كجنوده الموتى
لماذا كهزيمة تبقي
أو كانتصار:
لم تتعد طعم المقاومة؟!) ص 47 .
في قصيدة وحدي أيضًا نجد المفارقة من خلال قوله:
(.. ويضيع وجهي بينكم
مثل رجل
كلما تخلص من أعبائه
فقد من أعضائه بدنا)
في قصيدة السجن يصنع مفارقة تشي بطعم الحرية التي يبحث عنها ليقدم نموذجًا للسكون وآخر للحركة، للهزيمة والنصر، للغصن الذي قاوم الريح وظل سامقًا، والغصن الذي نام تحت الجذع ودفن ظله في الأرض، هكذا الدجاجة، والحمامة
(الدجاجة فوق أسطح البيوت
لا تجرب الطيران
الحمام أيضًا
ينام في سماء الله فاردًا جناحيه) ص 63 .
في كل هذه المفارقات السابقة نلاحظ أن (أنا) الشاعر تتفاعل مع (الأنا) المغايرة في القصائد والتي تكتسي بالجانب الدرامي وتعتمد التشخيص أداة مهمة من أدواتها، نجد المسافة متأرجحة بين قاع القصيدة وسطحها مما يمكن الناقد أو القارئ من رصد العلاقات السياقية سواء كانت الرأسية أو الأفقية ويقوم بإدراك حركة التفاعل بينها. هذا ما أرادت هذه القراءة أن تصل إليه في ديوان ضد رغبتي
[1] - أحمد المريخي، ضد رغبتي، سلسلة إبداعات (260) الهيئة العامة لقصور الثقافة 2008، (أرقام الصفحات في المتن
 
   
 
This website was created for free with Own-Free-Website.com. Would you also like to have your own website?
Sign up for free